جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 8049 الجمعة 20 آذار (مارس) 2015ـ 29 جمادي الأول 1436هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي
تشكلت ذائقتي في زمن الفن الجميل، والتقطت أذني أول ما التقطت إبداعات ذلك الزمان الذي أنجب كبار الموسيقيين والمطربين الذين عرفتهم الذائقة العربية.
كان لي ولأقراني فرصة أن نعايش ذلك الزمان، حينما كانت الآه تصعد من القلب لتصل إلى القلب مباشرة، كأنما هي تطلع من ألم حقيقي لا مفتعل، كما يحدث كثيرا هذه الأيام.
كانت أصابعي الصغيرة وهي تتوق إلى زر المذياع لتشغيله تبحث لأذني ولروحي عما يزودها بطاقة الحب وطاقة الانفتاح على الحياة، أم كلثوم، عبد الوهاب، محمد القبنجي، ناظم الغزالي، سليمة مراد، صباح فخري، عبد الحليم حافظ، نجاة الصغيرة، وردة، فيروز، وديع الصافي، سعاد محمد، نور الهدي، محمد عبد المطلب، فيلمون وهبي، الرحابنة ومحمد فوزي وغيرهم شكلوا في روحي معنى الموسيقى، حينما يستطيع الموسيقي أن يحفر عميقا في الروح ليصل إلى أعمق ما فيها وليصوغ حبه للحياة عملا إبداعيا من أجل الجمال، وحينما يستطيع الصوت أن يغني من رفعة ألمه ليزيد في بحته تردد الصدى، صدى الألم وصدى الفرح وصدى الحب وكل معنى إنساني جميل.
كنا في زمن الانكسارات العربية، ولكن الموسيقى وحدها كان في وسعها أن تعطي مدادا للروح كي تبتسم للحياة، في ذلك الزمان كان ينطلق صوت حب الأرض فيؤجج فينا الرغبة في أن نحيا داخل تلك الأرض، كانت الأغنية قادرة على أن تصل إلى أعماقنا فتومض فيها بريق الحياة.
على تلك القيم الجميلة التي حملتها أغنيات ذلك الزمان تربت ذائقتي وتشربت روحي، وعندما أستمع الآن إلى أغنية من ذلك الزمان يعود لروحي بريقها وأومض رغبة في أن أصنع أشياء جميلة تكمل ما ابتدأه راحلون مبدعون رحلت أجسادهم وتركوا آثارهم في وجداننا الحي وذاكراتنا.
حينما أمسكت العود للمرة الأولي عرفت قدري، وعرفت أنني عند هذا الزمان سأحيا مطولا، وظلت أذني تحاول أن تتبع تلك الموسيقى. تلك كانت البداية.
البدايات
محمد عبد الوهاب كان نقطة مضيئة لأفق ما زلت أتتبعه بشغف وبتقدير كبيرين. محمد عبد الوهاب أحد منجزات الدنيا العظيمة، فهو لم يكتب اسمه في تاريخ مصر الفني فقط، بل اجتاز ذلك ليحقق حرية موسيقية في التعامل مع ما كان يعد قوالب وأمثلة راسخة لا يمكن المساس بها.
محمد عبد الوهاب ليس مجرد اسم يمر في تاريخ الفن، هو حالة إبداعية حقيقية ولدت لتكون بيننا ولتصنع دقائق حياتها في وجودنا. والحديث عن هذه الحالة الإبداعية يحتاج لمداخل عديدة، فهو الموسيقار الذي أسس لصيغة مختلفة في زمانه، وهو المغني الذي تعيش أغانيه في داخل أفراحنا وأحزاننا، وهو الممثل الذي ربما كان أول من عمل على فيلم غنائي. وإلى جانب ذلك هو المبدع والذواق وصاحب الرؤية الفنية الواسعة، فهو يخطط دائما للمستقبل، ولأجل هذا فقد عاش فنه لأنه لم ينظر فقط إلى اللحظة الآنية، بل عاش وفي نيته أن يحفر اسمه في مستقبل لن تراه عيناه.
محمد عبد الوهاب الأسطورة التي صنعت نفسها بنفسها، علامة من علامات الفن، وصيغة خاصة في التشكيل والبناء، ملحن له أسلوبه الخاص الفريد، وحنجرة لا مثيل لها في حلاوتها وصفائها. وهو واحد من ألمع الأسماء التي أسست لنفسها بقوة في تاريخ الفن، وتركت بصمة كبيرة ستظل لأجيال وأجيال.. محمد عبد الوهاب شخصية فريدة بتشكيلها الفني والثقافي والاجتماعي، أتيح له ما لم يتح لغيره من فن ومجد وشهرة ونجاح ظلّ يرافقه حتى آخر أيام حياته.
كيف استطاع هذا المبدع أن يطوع الزمن لصالحه ولاسمه ومكانته في المجتمع والفن؟ درجة حرصه العالية لفنه، تأثره وتأثيره، نزواته في الفن، ضميره الموسيقي، قيمته، إضافاته، ولعه، والمآخذ على فنه أن تسليط الضوء على كل هذه الصفات محاولة غاية في الصعوبة، لكنني سأحاول المرور من باب التحليل والاحترام لقيمة هذا المبدع.
عيناه التي كانت تراقب كل شاردة وواردة حوله، وكان يضع محل اهتمامه كل ما يقدمه أقرانه وزملاؤه وكل جديد في عالم الفن. يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكذلك الحديثة منها، ويطلع على كل فلكلور شعبي، وفي الوقت نفسه يستمع إلى التراث العربي والموسيقى العربية المعاصرة. كان يشعر بالغيرة عند سماعه عملا موسيقيا متميزا، وهي غيرة إيجابية مبدعة لأنها تنبع من حرصه على أن يكون هو صاحب الإضافة وهو المبدع، قد تأخذه أحيانا هذه الغيرة إلى منطقة لا تليق بمبدع، لكن يعود منها دوما بما يغفر له، إذ يعود مصحوبا بعمل متميز وجديد يملأ الزمان جمالا، وكان لا يتواني عن الاتصال بمبدع العمل الذي أعجبه حتى إن كان مبتدئا ليهنئه وليشعره بأن هناك من يتابع عمله، وكانت هذه ميزة لدى عبد الوهاب، وفي الوقت نفسه كان يريد دائما أن يعرف كيف يفكر الآخرون. كان يريد الزمان كله، والأصوات كلها، والجمهور كله، وكذلك الاهتمام من قبل النقاد.
لو تكلمنا عن حنجرته فنحن نتكلم عن (أعظم حنجرة أودعها الله في إنسان) كما يصفها الموسيقار رياض السنباطي. فعبد الوهاب امتلك هبة ليس لها مثيل عربيا من حيث حلاوة ونقاء ونفاذ حنجرته وعلاقتها بعقله وبجهازه السمعي القوي، فكان يفكر وسمعه يقرر الدرجات الصوتية وحنجرته تنفذ. إن ما كان يغنيه عبد الوهاب في بداياته لغاية بدء اهتمامه بالموسيقى الغربية يعد من أعظم ما أنجز في غنائنا العربي. إن ما غناه عبد الوهاب ليومنا هذا يعد من أصعب ما أنجز على مستوى كل الملحنين والمطربين الكبار، فتكنيك حنجرة عبد الوهاب وجهازه السمعي وقدرته على التحكم بهما جعلته أعظم مغني العصر، وهذه الميزة يعترف بها حتى من يخالفونه في توجهاته التأثيرية بالموسيقى الغربية. مساحات حنجرته تعدّ مثالية لأي مطرب يريد أن يكون عظيما، فهي خلاصة النتاج الإنساني العربي والعثماني والغربي تجده أحيانا أحد أساطين الطرب وأحيانا أخرى أحد مغني الغرب الكبار.
الألحان والثقافة الشفاهية
لم يسلك عبد الوهاب خطا فنيا واحدا، بل سار في خطوط متوازية لكنه كان يسير فيها كلها معا، فعمله على التلحين لم يأخذ منه الغناء، وعمله على الغناء لم يأخذ منه التمثيل في الأفلام، فقيس المجنون الذي أحبته ليلى أحبها هو أيضا وامتلأ سحرا بكلماتها، لذلك شغل الشعر عنده أيضا محطة كبيرة في حياته تذوقا، وكانت حواراته الدائمة مع الشاعر أحمد شوقي ونصائح أمير الشعراء له، الذي أصبح جسرا لعالم البكوات والهوانم، وأيضا طريقه لولوج اللغة الأجمل والرقي الأعلى في النصوص ومنحه الحضور اللائق بموهبته وفتح له عالم العلاقات مع الأقلام المتميزة التي كان عبد الوهاب يجيد العلاقة معها، فكان فناننا المبدع يسمع من أحمد شوقي جديده فيبدع الألحان.الثقافة الشفاهية صقلت شخصية محمد عبد الوهاب وقدمتها في قالب مختلف، فرغبته في الاطلاع الواسع وحب المعرفة شكلا حالة إلحاح على نفسية هذا الفنان، ومن عرفه عن قرب كان يعرف رغبته الدائمة التي تشبه الفضول في معرفة كل شيء.
وفي حياة عبد الوهاب محطات عظيمة، شكلت انعطافات مهمة في مجمل تاريخ الموسيقى العربية في عدة عقود مضت، فالجندول محطة، وكليوباترا محطة، والوردة البيضاء محطة، ومجنون ليلى محطة وما صنعه بموهبته لحناجر أخرى شكل عوالم لهذه الحناجر. عبد الوهاب كان علامة فارقة ليس على صعيد حنجرته فقط، بل حتى في حياة فنانين كثيرين مثل كوكب الشرق أم كلثوم والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية وكثير غيرهم، علما بأن علاقته مع سيدة الغناء العربي وأن أحدثت ضجة كبيرة ومنحت عدة صفات وألقاب كلقاء السحاب، لكن الصراع بينهما كان واضحا على كل الألحان، خصوصا أنه كان يريد أن يقدم نفسه كموسيقي ند لمغنية عظيمة، فالعارف في مجال الموسيقى أنه يريد أن يبصمها ببصمة وهابية، وتريد هي أن تبصم عمله كلثوميا، وهذا لم يكن لصالح العمل المشترك بينهما. ومع ذلك فليس باستطاعتنا، على سبيل المثال، أن نتحدث عن سيدة الغناء العربي من غير أن نتوقف مطولا عند عمل عبد الوهاب على حنجرتها، وليس باستطاعتنا أيضا أن نتوقف مع عبد الحليم حافظ من دون أن ننظر مليا مطولاته التي أبدعها عبد الوهاب وكذلك نجاة الصغيرة التي يعد مشوارهما معا مثاليا في الإنجاز المنسجم وغير المبالغ فيه، أما عمله مع وردة الجزائرية فكان يعطيها دوما أكثر مما تتمنى، وحسب علمي ومتابعتي لم يفشل عبد الوهاب في إعطاء كل حنجرة لبستها الحقيقية ويظهرها بكمال البريق، وبحبه للبقاء كانت عيناه وسمعه باتجاه المستقبل دوما، تجد مقدمات موسيقية في غاية التعقيد والجمال والتجديد والنقلات غير المألوفة سمعيا، وحين يبدأ الغناء في العمل نفسه تجد كل الأرواح تحلق صوب السماء مع هذا الملحن الذي يخشى أن (يحلق في السماء ويركب البحر دوما).
البناء الموسيقي
في الأغاني الطويلة التي صنعها عبد الوهاب، يمكننا أن نلاحظ مهارات عالية في صياغة الجملة الموسيقية، ولو حصل أن جردنا اللحن من الكلمات لاكتشفنا أن اللحن نفسه بإمكانه أن يعيش في صيغته المجردة من الكلام، لأن بناءه الموسيقي يأخذ بعبد الوهاب بصفة المؤلف الموسيقي أكثر من الملحن، وهذا ما كان يضعه في خانة الملحنين من ذوي النزعة التصويرية، لأنه يرسم للكلمة إحساسها الموسيقي ويخلق لها إيقاعا ثانيا، بإمكاني أن أسميه فضاء متكاملا في الجمال، فهذا الموسيقار العظيم كان يذهب إلى المشاعر فيبلورها في صيغ فنية راقية، فالحب عنده يأخذ أشكالا موسيقية متعددة، تجعله ينقل حالة المحب ما بين ارتفاع وهبوط، ونستطيع أن نتلمس هذا موسيقيا، فالموسيقى التي يكتبها عبد الوهاب قادرة تماما على اختلاق حالتها لدى المستمع، أي أنها قادرة على تجسيد نفسها صوريا في ذاكرة الأذن، إن جانب المؤلف الموسيقي لدى عبد الوهاب كان حاضرا دوما، لذلك كتب عشرات القطع الموسيقية الآلية، لأنه يريد أن يمسك بزمام عالم الموسيقار من كل الجوانب، ولأن موهبته تساعده في ذلك.
ويتنقل عبد الوهاب في أغانيه الطويلة بين مقامات موسيقية متعددة، كما أنه يتنقل بين أطوار لحنية وصيغ مختلفة، فالجملة عنده ناجزة تماما بحيث تستطيع أن تكون صيغة مستقلة، وبمعنى آخر فإنه يمكننا تقطيع لحن عبد الوهاب الطويل في صيغ مختلفة، فنشعر في كل جملة موسيقية بحياة الموسيقي نفسها، فالموسيقى عنده تعيش وتحيا لأنها تجسد أفعال الحياة، وهي بالتالي تأخذ من الحياة وتنحت منها لتضيف لها. الصيغ التي أسس لها عبد الوهاب في الغناء العربي صيغ مبتكرة وغاية في الجمال، وهي صيغ خلاقة.
إن نجاح عبد الوهاب الطاغي جعل الكثيرين يتربصون باقتباساته للحد الذي دفع ببعضهم إلى كشف هذه الاقتباسات وبثها عبر الإذاعة بين العمل المنجز لعبد الوهاب والأعمال الموسيقية الكلاسيكية الغربية، أو من موسيقى الشعوب التي كان شديد الاطلاع عليها، وعقدت عدة مقارنات بين أصول تلك الأعمال الموسيقية وألحان عبد الوهاب، لكن لو شطبنا من تاريخ عبد الوهاب كل الأعمال التي بدأها باقتباس، سنجد أن ما تبقى هو الذي أسس أركانا للجمال الذي زرعه عبد الوهاب فينا، والذي أعتقد أنه سيتواصل طويلا.
لا أريد أن أقول إن الزمان لن يعطينا عبد الوهاب آخر، لكنني أؤمن بما قاله هو (أن الفنان بصمة لا تتكرر).
ولأن بصمته لن تتكرر فقد كان تأثيره بالغا على كل الملحنين الذين رافقوه أو عاصروه، وحتى الذين اختلفوا معه، كانت روحه مهيمنة على الكثير منهم، وحين كان يقدم إيقاعا جديدا، كنا نرى هذا الإيقاع ينتشر في معظم أعمال الملحنين العرب، وكذلك نقلاته غير المألوفة، وفي بداياتي كانت أصعب الأعمال التي تأخذ مني جهدا كبيرا في تقديمها موسيقيا، هي أعمال محمد عبد الوهاب لأنها تحتاج إلى خبرة سمعية عالية، أما غناؤه فقد ظل لسنوات طويلة مضت وحاضرا شهادة استثنائية تمنح للصوت الذي يجيد أداء ألحانه الخاصة لحنجرته.
لقد أحببنا عبد الوهاب كما أحب هو نفسه وكما كان يريد لها أن تُحب، كل زملائه كانت لديهم ملاحظات عنه لكنهم كانوا يعشقونه، وكانوا يتهمونه بالسرقة الفنية، وفي الوقت نفسه ما أن يكلمهم مكالمة صغيرة حتى تنبت لهم أجنحة من الفرح لأن عبد الوهاب كرمهم بمكالمة تلفونية.. هكذا كان عبد الوهاب وهكذا نحن نقدره. وعندما أستمع إلى صوت عبد الوهاب أستعيد مرحلة عمرية رائعة، أعيش في لحظات طوفان مع الجمال، وأغني معه من قلبي وفي كل وجداني، إذ لا يطرب عبد الوهاب في ألحانه وصوته أذني فقط، بل يطرب الأعمق في روحي، فأروح أدندن معه «مضناك جفاه مرقده» و«جفنه الذي علم الغزل» و«جارة الوادي» وووو..
عن موقع جريدة القدس العربي الجديد
المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf
صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.