جريدة العرب
الخميس 2019/05/16 - السنة 41 العدد 11350
الصفحة : ثقافة
وارد بدر السالم - روائي عراقي
مقاهي بغداد الأدبية في عصر الواي فاي
المقاهي البغدادية بصيغتها العثمانية كانت ممرا للوقت والتسلية طيلة عقود من السنوات حتى نهاية الأربعينات من القرن الماضي، عندما أصبحت ظاهرة وعلامة من علامات التحولات السياسية والأدبية.
المقاهي عادة قديمة عند العرب، ربما ليس تماما بمفهوم المقهى الذي نعرفه اليوم، لكن كانت للعرب مجالس نقاش سياسي أو ثقافي أو أدبي شهيرة، منها خرجت فكرة المقهى، الذي كان يجمع أغلب المثقفين والباحثين عن الأخبار الجديدة وغيرها، لكن كل ذلك تغير اليوم واندثرت المقاهي القديمة وتراجع نشاطها لصالح مقاه جديدة لا تسعى إلا إلى الترفيه والاستهلاك.
مرة قال ماركيز إنّ تبلورَ ثقافته الشخصية يعود جزءٌ منه إلى مقهى “القطط الثلاث” وهو من المقاهي الأدبية في بوينس آيرس، وهذه الإشارة إلى القطط الثلاث اعتراف بالدور الذي تلعبه المقاهي الأدبية في تبصير وإعداد الأجيال الثقافية عبر احتكاكها اليومي وتبادل خبراتها المتعددة ونقل المعارف المختلفة في ما بينها. والقليل يعترفون بدور المقاهي في صياغة أفكارهم وتوجهاتهم وتنشآتهم الفكرية والثقافية، لاسيما في بلادنا العربية التي تكتظ أسواقها وأرصفتها بالمقاهي الشعبية التي أنشأت أجيالا ظهر منها أدباء كبار وتيارات شعرية مهمة.
المقاهي الأدبية
قبل ماركيز بوقت غير قصير استطاع الشاعر محمد مهدي الجواهري عام 1948 أن يجمع حشودا بشرية انطلقت معه من مقهى “حسن عجمي” المعروف، الباقي حتى اليوم، ضد معاهدة بورتسموث بقصيدته المعروفة “أخي جعفر”. ومن هذا المقهى وغيره في بواكير الدولة العراقية بقي تاريخ الحركات الوطنية الحقيقية والشعرية على وجه الخصوص نظيفا حتى اليوم. ويمكن أن نوثّق الكثير من هذه المواقف والأفكار الإنسانية والتقدمية في سجلات المقاهي العالمية والعربية والعراقية التي اغتنى وجودها بوجود الآخرين ممن وجدوا في المقهى فضاء أكثر سعة للحرية والمواجهات الفكرية والأدبية والسياسية أيضا.
ومن الصيغة الاجتماعية بخصوصيتها الوطنية يمكن أن نقول إن المقاهي هي إنتاج شرقي محض، ولم تكن أوروبا تعرفه إلا في عصر النهضة. وفي البلاد العربية العديد من المقاهي ذات العمق التاريخي البعيد؛ ففي مصر يعد مقهى الفيشاوي واحدا من أقدم المقاهي الأدبية (1797) وكان يرتاده جمال الدين الأفغاني ونجيب محفوظ وزاره جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار. وفي سوريا مقاهي الروضة وهافانا والبرازيل واللونا بارك، وفي الجزائر مقاهي الرمانة وجمعية الجاحظية الثقافية في الجزائر.
وهكذا سنجد القديم والجديد من هذه الفضاءات التي تحكمها العوامل السياسية في أغلب الأحيان عندما خرجت من الأجواء الاجتماعية إلى منافذ أخرى؛ غير أن المدن الأوروبية اشتهرت بمقاهيها الأدبية في عصر النهضة وما تلاه، وتشكّلت فيها ثورات فنية وشعرية كبيرة، وتكرّس فيها أعلام بارزون وشاءت المقاهي أن تتوزع في البلدان الأوروبية كلها وذاع صيت معظمها في أرجاء العالم كمقهى نيويورك في بودابست ومقهى سنترال في فيينا ومقهى دي لابيه في باريس ومقهى جيريكو في روما.
ومع التاريخ القديم والبعيد سنقول إنه تفصلنا أكثر من أربعة قرون متصلة عن مقهى “خان جغان” (1590) كأول مقهى شعبي في بغداد العثمانية أواخر القرن الخامس عشر. ومنذ ذلك التاريخ الأبعد وإلى اليوم بقيت المقاهي تشكل فضاءات شعبية وسياسية وأدبية وثقافية في المجتمع البغدادي، مع تغيرات طبيعية في الصيغ المكانية والإشهارية والعمرانية والخدماتية، ومع كل الوقت الطويل الذي مرّ بظروفه الكبيرة تكون المقاهي قد استقرت على أنها أمكنة اجتماعية وأدبية وثقافية عامة بعلاقات متباينة تحت مختلف الظروف والأحداث السياسية، كحاضنة جماعية لمختلف التيارات الفكرية والأدبية والسياسية. فانتقلت الوظيفة الترفيهية للمقهى إلى وظائف فنية وشعرية وسياسية وتجمعات فكرية متعددة الاتجاهات.
وعندما نتتبع سيرة المقهى البغدادي طيلة أربعة قرون سنجد أن المقاهي البغدادية بصيغتها العثمانية كانت ممرا للوقت والتسلية طيلة عقود من السنوات حتى نهاية الأربعينات من القرن الماضي، عندما أصبحت المقاهي ظاهرة وعلامة من علامات التحولات السياسية والأدبية كمنبر اجتماعي، خرج من هذه العباءة إلى الكثير من التجمعات السياسية والأدبية التي انتظمت بناظم المقهى، ليكون مكانا لحملة الفكر وفضاء أكثر رحابة للمعارضة والتصدي أو فضاء لتشكلات شعرية وسردية تم فيها إعداد البيانات وتوقيعها، ومن خلالها أنشد الشعراء قصائدهم ضد الاحتلالات المتعددة وضد الحكومات المتخلفة، ولم تكن الوسيلة المتاحة آنذاك سوى المذياع والصحف اليومية ومن ثم المقاهي اليومية للتصعيد وتجييش الشارع، كما فعلها الجواهري ومحمد مهدي البصير في مناسبات مختلفة.
اختلاف جذري
لم يبق من القديم البغدادي إلا المسميات والتواريخ الكثيرة التي تسجّل أبعادا وطنية وسياسية وإعلانات وبيانات أدبية لا تزال محفوظة في ذاكرة الأجيال المتناوبة، وما الجديد إلا امتداد لذلك القديم، لكن بمواصفات أكثر حداثة ومعمارا وبطريقة افتقدت نكهة الماضي، انسجاما مع متطلبات الحاضر وراهنه المتقدم حضاريا وتكنولوجيا، فإذا كان المقهى يبلور تظاهرة سياسية أو ثقافية ماضيا، فإن المقهى البغدادي حاليا اختلفت صيغته كليا في عصر تكنولوجيا الاتصالات والإنترنت والواي فاي، فلم تعد القصيدة الحماسية ممكنة لتثوّر الجماهير، ولم تعد هذه الجماهير مروّضة إزاء بند أدبي شعري أو سردي أو فني.
وإذا كان القديم ثقافة شعبية عامة من صحف وكتب وإذاعات وقصائد وحداثات أولية لمجمل العطاء الأدبي بأصوات ومحاولات مبدعين ملأوا المشهد الثقافي العربي لاحقا بمميزات شعرية عبر المقاهي كوسيلة وحاضنة نفسية واجتماعية، فإن بغداد اليوم لم يبقَ من مقاهيها التحريضية إلا شواهد أسمائها، ولم يكن الجديد امتدادا لتلك الروح الحية التي كانتها تلك المقاهي، فلا تزال مقاهي “الزهاوي” و”الشابندر” و”حسن عجمي” قائمة حتى الآن، لكن قلّ روادها وبقي المتقاعدون وأصحاب المحال القريبة يرتادونها، وفي الوقت الذي يحافظ فيه مقهى “الزهاوي” على نمطه المعماري التراثي، فإن مقهى “حسن عجمي” بقي على حاله، مهملا وتعيسا، وقد هجره الأدباء منذ وقت طويل، متجهين إلى مقهى “الشابندر” الذي أخذ موقعه الاستراتيجي في شارع المتنبي.
المقاهي كانت أمكنة اجتماعية وأدبية وثقافية عامة بعلاقات متباينة تحت مختلف الظروف والأحداث السياسية
في المقهى البغدادي القديم، أو العراقي أو العربي عموما، تجد الصحيفة اليومية هي النتاج اليومي الأول الذي يشغل الجماهير، والآن اختفت الصحيفة بفعل الفضائيات وعواجلها والإنترنت وسرعته في نشر المعلومة عبر صفحات الفيسبوك والإنستغرام وتغريدات التويتر، إضافة إلى المتغيرات النفسية الكبيرة في عصر العولمة والقرية الصغيرة التي يصل شرقها بغربها بلحظة سريعة كافية لأن ترى الآخرين وأجواءهم اليومية مهما ابتعدت المسافات ونأتْ. وبالتالي فإنّ مفاهيمَ كثيرة دخلت في الفضاء المكاني وصارت هي الجوهر الذي يقيّد الآخرين بدخولهم وخروجهم إلى المقهى تبعا لحركة الفضاء الرقمي واستلهاماته المتعددة.
العزوف عن المقاهي الهرمة في العصر الإلكتروني تحصيل حاصل وطبيعي مادامت الجريدة اليومية قد اختفت من التداول، وحلّ محلها الهاتف الإلكتروني بمزاياه المتعددة. ولم تعد الحالة الشعرية تستهوي الأغلبية الساحقة من رواد المقاهي الشباب الذين وجدوا في عصرهم ما يستوجب العزوف عنها، وهذا ما نلمسه يوميا في المقاهي البغدادية الجديدة “رضا علوان” و“قهوة وكتاب” وغيرها حيث تُلصق علامة “الواي فاي” على واجهاتها كبطاقة دخول آمنة.
عن جريدة العرب اللندنية
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر