اللؤلؤ في الجزيرة العربية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


6 أبريل 2019
جريدة الحياة
عبد الحميد صبحي ناصف


«اللؤلؤ في جزيرة العرب


أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ * فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟

هذا بيت من الأبيات التي جاء بها شاعرنا الراحل حافظ إبراهيم قبل ما يقرب من قرن من الزمان، واليوم لم تبق سوى قلة من مجر البحر هؤلاء: إنهم غواصو اللؤلؤ الذين قضوا حياتهم على مر الأجيال في أعماق البحر سعياً وراء أهم وأرقى كنوزه. لقد كانوا وما زالوا يغطسون أربعين وخمسين بل وحتى مئة مرة في اليوم الواحد إلى قاع البحر إلى أعماق قد تصل إلى أكثر من عشرين متراً من دون أي نظارات غطس ولا يرتدون في الغالب سوى سترة بيضاء تسمى «الشمشول» تحميهم من لسعات قنديل البحر.

أما الأخطار الأخرى فإنهم ينالون منها نصيباً مفروضاً إذا مات رجال من وخزات سمك «الراس» اللساع وأشواك السمكة الصخرية السامة فضلاً عن عضات أسماك القرش. أما أسراب السمك «المهرج» وإن كان هذا الاسم ألطف بكثير من الواقع فقد كانت تتخذ من عيونهم هدفاً لهجماتها الخطيرة. أما التعرّض الدائم لمياه البحر المالحة فقد أصاب بعضهم العمى ومزّق طبلات آذانهم.

لقد كان اللؤلؤ بمنزلة الماس في العالم القديم وفي زمن حافظ إبراهيم كان يشكل أثمن مصدر للثروة في الخليج العربي وكان هناك حوالى 70 ألف رجل يشتغلون بجمعه. ولكن الغواصين لم يعرفوا إلا قليلاً عن الثروة التي كانوا ينتشلونها من جوف البحر، فقد كان المحار يُرمى في أكوام مشتركة ولا تُفتح صدفاته إلا في اليوم التالي لاصطياده بعد نفوقه، وحتى لو استخرج أحدهم لؤلؤة نادرة ونفيسة للغاية، ولم يكن له ليعرف قيمتها مطلقاً وقد كانوا يغوصون لأداء ديونهم وهي غالباً ديون ورثوها أباً عن جد.

لكن جمع اللؤلؤ كان أيضاً مسألة كبرياء ثقافي أصيل بوصفة عنصراً من تقليد بحري عربي لا يقل شأناً عن الصحراء ونخيلها وتمورها وعبر مياه الخليج العربي التقى الشرق والغرب.

ثم جاء عصر البترول «النفط» فانحنت أمامه حياة البحر، ووضعت أوزارها مستسلمة أمام سلطات الذهب الأسود.

من بين الأمور المذهلة حول سكان صحراء الخليج وإمارات ساحل الإمارات المتصالح اكتشاف مدى مهارتهم في حرفة الغوص. إنهم يغطسون في الأعماق بحثاً عن محار اللؤلؤ، وقد يملك بعضهم ما يسمى «النواخذة»، وهي مراكب تستخدم لهذا الغرض، وعلى رغم التراجع الكبير في تجارة اللؤلؤ خلال السنوات الأخيرة، فما زال العديد من الرجال يرتحلون إلى أبوظبى أو جزيرة «دلما» حيث يقضون موسم جني اللؤلؤ على متن مراكبهم. كلّ صيف تُبعث الحياة في دبي وباقي موانئ الساحل عندما يبدأ الغواصون في الاستعداد لموسم اللؤلؤ، وقد استُخرجت من الخليج العربي بعض أجمل اللآلئ في العالم وفي أماكن عدة على امتداد الساحل. اختفت هذه الحرفة الضاربة في القدم بسبب الرخاء الذي جاء مع اكتشاف النفط في مناطق أخرى.

وطريقة الغواصين العرب في صيد اللؤلؤ بسيطة، لم تتغير منذ قرون. إذ ينزل الغواص على حبل يسمى اليدا أو الزبيل عليه ثقل يقال له البلد موصول برجل على السفينة يدعى السيب، ويحمل الغواص العدّة وهي قفّازان من الجلد أو الخيط هما الخبط ومشبك أنف من العظم أو الخشب يسمى الفطام.

وقبل أن يغطس يأخذ الغواص نفساً عميقاً لدقيقة أو دقيقتين، وفي القاع يضع المحارات التي وجدها في الديين (كيس متوسط الحجم شبيه بشباك الصيد) المربوط إلى حبل، وحينما تفرغ رئتاه من الهواء يهزّ الحبل الذي يرفعه السيب سريعاً إلى السطح، وعادة ما يكون الغوص على عمق يتراوح بين 14.8 متر وهناك بعض الغطاسين ينزلون إلى عمق30 متراً.

وتعتمد قدرات الغواص على بنية جسده، وكان في السابق يباع العبيد القادرون على الغطس عمقاً بثمن باهظ. وكان عدو الغواص الأول هو قنديل البحر ذو اللسعة الحادة. ولمجابهة ذلك الأمر فإن الغواصين يضعون سترات قطنية تسمى «الشمشول» تقيهم أذى قرّاص البحر. وأيضاً لدى الغواصين مشكلات أخرى، فعادة ما يعانون ألماً حاداً في آذانهم، وإذا لم يُشف الوجع من تلقاء نفسه فإن المريض يلجأ إلى الكي.

على متن مراكب اللؤلؤ يسود نظام صارم، يكون فيه السوط جزاء كل مهمل يعرّض حياة غواص للخطر أو كل من تسوّل له نفسه سرقة اللؤلؤ، أما الحصيلة من صيد اللؤلؤ فيُقسّم بين الجميع لأن الأمور المالية مرتبة وفق نظام معلوم، فمالك النوخذه «المركب» يحصل على نصف مال اللؤلؤ وأما النصف الآخر فيذهب جزء منه إلى مصاريف الطعام والباقي يُقتطع منه الخمس نظير تكاليف تشغيل المركب، ثم يوزّع ما بقي من مال على الطاقم. فقبطان المركب «الجعدي» يحصل على حصتين، والغواصون حصة ونصف، والطباخون والسيوب حصة واحدة، والعامل الصغير السن المتدرب على أعمال الغوص «التباب» يحصل على حصة.

وفي المواسم الشحيحة فقد تغلب المصاريف على المداخيل فلا يحصل الطاقم على شيء عدا ما تناولوه من طعام خلال موسم العمل.

يُحكى عن كيلوباترا ملكة مصر القديمة تعلقها باللؤلؤ الذي كان هدية إمبراطور روما إليها، ولعل أول إشارة إلى لؤلؤ الخليج جاءت بالنقوش الآشورية التي عُثر عليها في مدينه النجف العراقية، والتي تقول «في بحر الرياح المتغيرة – أي الخليج العربي – يبحث التجار عن اللؤلؤ».

وفي كتابه «رحلات في الجزيرة العربية»، ذكر «جيه ويلستيد» (ت 1938) أن من بين المهام التي أُسندت إلى البحرية الهندية التابعة لبريطانيا أن تجوب مصايد اللؤلؤ في الخليج.

وفي إحدى القصائد التي جاءت في كتاب «ضوء آسيا» للسير إروين آرنولد (1832-1904) وصف حالة زوجات الغواصين اللواتي ينتظرن أزواجهن على رمال ساحل البحرين ويذرفن الدموع وهنّ شاحبات، بينما يكافح الغواصون موجات البحر العاتية ويعودون في الليل إلى أكواخهم لملاقاة زوجاتهم بعد أن يحصلوا على نصيبهم من اللؤلؤ. وفي الحقيقة فهذه الصورة خيالية بعيدة الصلة عن الحقيقة، لأن موسم صيد اللؤلؤ يستمر لما يزيد عن أربعة أشهر فيما بين شهري حزيران (يونيو) وتشرين الأول (أكتوبر) حيث يكون البحر حاراً وساكناً ولا تعود سفن الغوص في هذه الفترة إلى الساحل إلا مرة واحدة أو مرتين على الأكثر لغرض التزوّد بالمؤونة.

ولقد اعتمد ازدهار البحرين حتى منتصف القرن العشرين على صيد وتجارة اللؤلؤ، وكانت هي المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة، حيث لم تكن هناك ضريبة على اللؤلؤ ذاته وإنما الدخل الوحيد الذي كانت تحصل عليه الحكومة من هذه التجارة هو مبالغ صغيرة تتقاضاها نظير تسجيل سفن الغوص.

لقد كانت صناعة اللؤلؤ صناعة مزدهرة توفر في مطلع القرن العشرين العمل لحوالى عشرين ألف رجل بحريني خلال موسم الصيد، إلا أنه بمجرد ظهور اللؤلؤ المستزرع إلى الوجود تعرضت تجارة اللؤلؤ الطبيعي لهزة عنيفة لم تستطع أن تتجاوزها وتستعيد حالتها السابقة مع أن لآلئ الخليج العربي هى أبدع اللآلئ في العالم.

ومنذ القرن التاسع وحتى القرن 14م شرح الرحالة والجغرافيون العرب بدقة كيفية صيد اللؤلؤ وكذا شراءه وبيعه، وقد أورد المسعودي في القرن التاسع وصفاً لعملية الغوص، وكانت البحرين مركز هذه الصناعة القديمة وسوقها الرئيسي في الخليج.

ويصف «بلغريف» مستشار حكومة البحرين في الفترة من 1926- 1957 زيارته لأسطول الصيد في مغاص «هير» الذي يبعد عن الساحل نحو 70 كلم بقوله «رحب بنا ربان السفينة (النوخذه) كان طاقم السفينة يتكون من 60رجلاً».

ولما سأل بلغريف أحد الغواصين عن السبب في عدم الاحتفاظ بالمحارات المفتوحة، فقد تكون لها قيمة تجارية، أجاب بأن المحارات الموجودة في عمق البحر تتغذى على الصدف القديم المفتوح، وعن كيفية تكوّن اللؤلؤ، رد الغواص بأنه عندما يهطل المطر تأتي المحارات إلى سطح البحر وتفتح قشرتها وتستقبل قطرات المطر، وهذه القطرات تصبح فيما بعد اللؤلؤ!

وتروي إحدى الحكايات التي ذكرها المسعودي في كتابه أن الغواصين يملأون أفواههم بالزيت «الدهن» ثم يخرجونه عندما يصلون إلى قاع البحر، فيطفو ويحدث ضوءاً أكبر! وفي حكاية أخرى له ذكر أن الغواصين حينما يكونون في أعماق البحر يصرخون وينبحون بغرض الاتصال بالرجال في أعلى السفينة! ولا يدري أحد ما مدى صحة هذه الحكايات القديمة، فقد لا يكون لها أساس من الصحة.

وقد كان الغواصون يظهرون في هيئة هزيلة حيث أنهم يقللون من طعامهم إلى أدنى حد في أوقات الغوص، بينما ظهر مساعدوهم أقوياء العضلات شديدي البنية.

ولم يكن البحارة يرتدون سوى سترات صغيرة أو سراويل قصيرة سوداء اللون تغطي عورتهم وحسب قولهم إن ارتداء أي قماش من لون آخر يجذب أسماك البحر المتوحشة إليهم. ومن هذه الأسماك، سمك القرش «اليريور» واللخمة وقنديل البحر المعروف بلدغاته السامة والبركودة وهو سمك بحري ضخم، إلا أنه لم تسجّل حادثة واحدة مما يثير التساؤل ما إذا كانت أسماك الخليج مفترسة حقاً!

بعد نقاش طويل بين النوخذه ومساعده وبعض الغواصين، يستقر الرأي على الموقع الذي سيبدأ فيه الغوص ذلك اليوم، ويتم إنزال المرساة «الباورة» إلى البحر، وقد تصاحبها أغاني البحارة وصفقات أيديهم ورقصهم وأصواتهم ترتفع تارة وتنخفض تارة أخرى بطريقة جميلة منسقة وذات نغم بهيج، حين يبدأ «النهام» وهو المغني الذي يحفّز الغواصين، بترنيم تلك الأهازيج وقيادة الغناء، والنهام عنصر أساسي في فريق الصعيد، يتباهى به التجار وكلما كان صوته رخيماً كان أجره مرتفعاً، ولقد تمت الإشارة في إحدى الدراسات الأكاديمية إلى أن غناء الغوص في البحرين هو أجمل كورال شعبي في العالم.

وحين تبدأ عملية الغوص، يحمل كل غواص بين يديه حبلين، الأول مربوط به حجر كبير نسبياً ليساعده على الغطس، والآخر به كيس يضع فيه المحارات التي يلتقطها من قاع البحر ويسمى «ديين»، وعلى أنف كل غواص هناك مشبك يشبه مشجب الملابس يسمى «فطام»، بالإضافة إلى قفازات جلدية كان يرتديها الغواص لحماية أصابع اليدين والرجلين عند المشي فوق الصخور المرجانية الحادة أو عند التقاط المحارات. وكان مساعد الغواص «السيب» يمسك بالحبل على الطرف الآخر ويقوم بإرخائه عند نزول الغواص وسحبه بسرعة حينما يعطيه إشارة بذلك حيث يحرّك الحبل بعد أن يبقى في قاع البحر لمدة تقل عن الدقيقتين، يجمع خلالها عشر محارات في المتوسط! وكان أجر الغواص الجيد يبلغ ضعف أجر الغواص العادي.

ويبلغ عمق المنطقة التي تجري فيها عمليات الغوص فيما بين ثلاثين إلى أربعين قدماً في أغلب الأوقات، وعندما يصعد الغواصون إلى سطح البحر يسلّمون الأكياس التي بأيديهم إلى مساعديهم ويستريحون قليلاً وهم ممسكون بالحبل ثم يعاودون الغطس مرة أخرى، ويستمر الحال هكذا حتى يكمل كل غواص عشر غطسات تصاحبها أهازيج البحارة، يصعدون بعدها إلى ظهر السفينة للاسترخاء وشرب القهوة وتدفئة أجسامهم بالنار المشتعلة! فرغم حرارة الجو الشديدة إلا أن الغواصين كانوا يرتعشون من البرودة، بسبب نزولهم إلى أعماق البحر الباردة والتي لا تصل إليها أشعة الشمس الحارقة! وفي نفس الوقت تبدأ مجموعة أخرى من الغواصين نوبة عمل جديدة.

وبعد ساعات من العمل يتناول البحارة وجبة الغذاء، المكوّنة من السمك المطهو مع الأرز والتمور وبعض حبات الليمون الجاف والذي يقيهم من مرض «الاسقربوط»! علماً بأن هذه الوجبة لم تتغيّر أبداً ويأكلونها مرتين في اليوم!

وغنيّ عن القول أن البحارة هم الذين يصطادون السمك بأنفسهم بواسطة معدات الصيد التي تتكون من سلاسل كبيرة مصنوعة من جريدة النخل والحبال، تُدلّى هذه السلال إلى البحر فارغة ثم يعيدها الغواصون بعد فترة قليلة وهي مليئة بالأسماك.

في الماضي لم يكن هناك أحد في منطقة الخليج يأكل المحارات، اللهم إلا إذا كان على وشك الهلاك بسبب الجوع الشديد أو عدم توفر الطعام! ذلك على الرغم من وصف أحد الرحالة الإنكليز (الكابتن «فراير» الذي عاش في القرن السابع عشر) المحارات الموجودة في مياه الخليج بأنها من أجود الأنواع وأصلحها للأكل.

لم تكن هناك سوق خاصة باللؤلؤ، بل كانت هذه التجارة تمارس في مكاتب التجار أو في بيوتهم، وأحياناً في الطرق وفي المقاهي! ولا توجد حتى الآن بورصة للؤلؤ، فسعره يعتمد على الاتفاق بين البائع والشاري. ولقد قامت هذه التجارة على الثقة التامة بين الناس، فقد يبلغ سعر اللؤلؤة الواحدة آلاف الدنانير، لكن تاجر اللؤلؤ لا يجد أي تخوّف أو تردّد في تسليم حفنة منها لرجل بعد آخر لكي يبقيها عنده لأسابيع عديدة بدون وصل استلام، وحين استفسرتُ من أحد كبار التجار عن صحة هذه المعلومات أكد لي أنها صحيحة تماماً، وحين قلت هل مازالت مثل هذه الثقة موجودة حتى اليوم؟ أجاب وحتى غداً!

ولقد عاش الغواصون على أحلام الحصول على اللآلئ الكبيرة «الدانات» وتعلق الجيل القديم من التجار بعمليات بيع هذه الدانات. والطريف أن اسم «دانة» يطلق كثيراً على الفتيات في البحرين، بمعنى اللؤلؤة الغالية، ولكننا في مصر لا نستخدم هذا الاسم على الرغم من أنه يكاد ينطبق على بعض السيدات، فهو يعني طلقة المدفع!

وفي أثناء الحرب العالمية الأولى التي بدأت عام 1914م شهدت البحرين ازدهاراً في تجارة اللؤلؤ، حيث أقبل الأوروبيون على شرائه لأنهم اعتبروه استثماراً جيداً ويمكن حمله بسهولة، لذلك تمنّى تجار اللؤلؤ (طواويش اللؤلؤ) أن يتكرر هذا الأمر أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الصناعة لم تنتعش مرة أخرى.

مع حلول عام 1932م أصبحت تجارة اللؤلؤ غير مستقرة، وأخذت تعاني من منافسة اللؤلؤ المستزرع، ونظراً لكونها تجارة باهظة الثمن، فقد تأثرت كثيراً بالكساد الاقتصادي في أوروبا حينذاك. ووجد كثير من أصحاب السفن وربابنتها (النواخذة) وتجار اللؤلؤ (الطواويش) صعوبة شديدة في توفير الأموال اللازمة لتجهيز أسطول الغوص، فقد كان تجهيز الأسطول يستلزم دفع مبالغ نقدية مقدماً (تحت الحساب) للغواصين، ولم يستطع الطواويش والنواخذة توفير ذلك.

والغواصون عادة لا تدفع لهم أجور يومية أو شهرية، وإنما يشاركون في الأرباح الناتجة عن بيع اللؤلؤ. وفي بداية كل موسم للغوص يحصلون على مبالغ مالية على أن تُستقطع من دخلهم واستحقاقاتهم في نهاية الموسم، وهذا المبلغ النقدي دائماً ما يجذب الرجال إلى المهنة، وأحياناً ينسون أن هذا المبلغ هو دين عليهم يجب أن يؤدوه مضاعفاً، فضلاً عن أن الغوّاص عندما يستلم المبلغ المقدّم يكون مجبراً على العمل للنوخذة (صاحب السفينة) خلال الموسم التالي.

وفي أغلب الأوقات يقترض النوخذة الأموال اللازمة من التجار وأصحاب الدكاكين الموجودة في السوق، لكي يستطيع تجهيز وتموين سفينته (الجالبوت)، وإعطاء المقدّم إلى الغواصين. ويقوم التجار باحتساب فوائد مالية على النواخذة الذين بدورهم يحتسبون فوائد على المبالغ التي يعطونها للغواصين!

لكن إذا قام تاجر اللؤلؤ أو النوخذة نفسه بتمويل رحلة الغوص فإنه لا يحتسب فوائد مالية. وعادة فإن الرجل الذي يوظّف أمواله لهذا الغرض يمكنه الحصول على اللؤلؤ بسعر يقل بنسبة عشرين في المئة عن سعر السوق.

ويستلم النوخذة دائماً 5/1 (خمس) إجمالي الأرباح الكلية، بينما يوزع الباقي على الغواصين ومساعديهم الذين يسحبون الحبل والذي يطلق عليهم (السيب)، حيث يمنح كل غواص سهمين مقابل سهم واحد للسيب. وعلى الرغم من أن هذا النظام يعتبر عادلاً من الناحية النظرية للجميع، إلا أن إساءة استخدامه وعدم التطبيق الصحيح له جعل الغواصين وكأنهم عبيد للتجار، وصار بعض النواخذة يتقاضون فوائد مالية مجحفة على القروض والمبالغ التي يمنحونها للغواصين مقدماً، بالإضافة إلى تزوير وتضخيم حسابات ديونهم.

ويضطر الغواصون نتيجة لذلك إلى العمل بدون أجر لصالح النواخذة والطواويش، وذلك طيلة فترة توقف موسم الغوص التي تستغرق ثمانية أشهر! ويحق للنوخذة تحويل الغواص إلى نوخذة آخر بدون موافقته، كما يحق له تسليم العمل لصالح أحد التجار مقابل تسديد دين عليه! ولم تكن هناك سن محددة لتقاعد الغواص، فحتى عندما يصبح عجوزاً ومتعباً يجب عليه الاستمرار في العمل، ومما يجدر ذكره أن أفضل الغواصين وأحسنهم عادة ما يكونون من كبار السن!

ولم يكن لدى الغواصين الوسائل التي يستطيعون بها فحص حساباتهم، والملجأ الوحيد لهم هو الاحتكام إلى النواخذة والطواويش الآخرين الذين لا يتعاطفون معهم غالباً، وعندما يموت أحد الغواصين تتحول ديونه إلى أولاده، فحالما يصبح الابن بالغاً فإن عليه العمل غواصاً لصالح النواخذة لكى يؤدي ديون والده!

ولم يكن الشباب صغيرو السن يمانعون في العمل غواصين بسبب قلة فرص العمل التي يحصلون من ورائها على أجر في تلك الأيام، بالإضافة إلى إغراء القروض المالية التي تعطى لهم قبل الموسم، وهم يأملون دائماً بتحقيق مردود مالي يتمكنون من خلاله العيش طوال حياتهم دون الحاجة إلى العمل، فلقد عرف الغواصون بأنهم رجال يعتمدون على الحظ ويحبون المغامرة بالفطرة، ويحلم كل واحد منهم بأن سفينته ستعثر في يوم ما على لؤلؤة عظيمة الثمن تجعل منه رجلاً ثرياً يتمكن نتيجة لذلك من الابتعاد عن عمل الغوص، وفي أحيان كثيرة يصدق حلم الغواص فيقوم بصرف كل أمواله باستهتار وينغمس في التلذّذ في مباهج الحياة، وفي نهاية الأمر يعود إلى عمله السابق: غواص!

النواخذة (أصحاب السفن) أيضاً تعرضوا لأوقات عصيبة اضطروا خلالها إلى رهن منازلهم وقواربهم إلى التجار الذين يتعاملون في الشؤون البحرية، حيث إن انقضاء أي موسم غوص فاشل تترتب عليه إفلاسات كثيرة، وتشمل تسليم النوخذة الغواصين والسفينة (الجالبوت) إلى الرجل المقرض لهم والذي يكون بانتظارهم على الساحل!

تدخّلت الحكومة، فأصدرت قانوناً يحد من نسبة الفائدة إلى مستوى معقول، وهدفت إلى تقليص القروض تدريجياً، فقللت من حجم المبلغ الأقصى المعطى لكل غواص، وأنشأت نظاماً دورياً ومبسطاً للحسابات، وأصدرت لكل واحد منهم دفتراً صغيراً بحجم جواز السفر يحتوي على حسابه من النوخذة بالتفصيل، ويقوم موظفون خاصون بفحص هذه الدفاتر باستمرار وتسجيل مبيعات اللؤلؤ بشهادة ثلاثة من الغواصين الذين يختارهم طاقم السفينة!

قوبلت القوانين الجديدة بمعارضة شديدة من التجار وأصحاب السفن، الذين فقدوا بسببها الكثير من هيمنتهم على الغواصين، كما عارضها المناوئون الدائمون لنظام الحكم، إلا أن الحكومة لقيت الدعم والتأييد من قبل رجال الدين الذين يحرّمون جميع أشكال الفوائد المالية والربا، كما حظيت بمساندة مجموعة من البحرينيين (المستنيرين) مثل بعض تجار اللؤلؤ وسماسرته (الدلالين). أما الغواصين فقد قابلوا التغييرات بالتجهّم واللامبالاة، لأن المهيمنين على تلك التجارة أخبروهم بأنهم لن يستفيدوا من هذه القوانين، بل أقرضوهم قروضاً مالية أكبر من المسموح به، واعتبروا بأنهم تنازلوا بذلك عن حقوقهم المكتسبة من القوانين الجديدة.

ومن أجل إرغام الحكومة على إلغاء القوانين قام الغواصون بإضراب ورفضوا الخدمة على السفن، وفي سنة أخرى اقتحموا مستودعاً لأحد التجار في المحرق وحطموا الكثير من محتوياته، وتكرّرت حوادث مؤسفة ومصادمات عنيفة أدت إلى اشتباكات بين الشرطة والغواصين ووقوع الكثير من القتلى، ونفذت أحكام بالجلد على قادة هذه القلاقل، وخرجت زوجاتهم في مظاهرات مندّدة بالحكومة والمستشار الإنكليزي كما أسلفنا من قبل. أدى ذلك إلى أن شكّل الحاكم مجلساً للغوص يجتمع مرتين أو ثلاث مرات في السنة لمناقشة التعديلات على بنود قانون الغوص، ولتحديد حجم المبالغ التي تقدم للغوّاصين والتاريخ الذي سيبدأ فيه الموسم، ولسماع أية اقتراحات جديدة، لكن نظراً إلى كون أعضاء المجلس من تجار اللؤلؤ وأصحاب السفن فقد كانوا غير مستعدين للنظر في الاقتراحات الجديدة، كإدخال الأجهزة الميكانيكية في عملية الغوص، بل كانوا ينظرون إليها بالكثير من الريبة وعدم الموافقة، وعندما اقترح أحد الأعضاء إمكانية إنتاج اللؤلؤ المستزرع في البحرين أصيب الحاضرون بالفزع!

واللآلئ المستزرعة كانت ومازالت ممنوعة في البحرين، ففي إحدى قضايا المحكمة دين شخصان بتهمة زرع اللؤلؤ الاصطناعي في المحارات، وحكما بالسجن لمدة سبع سنوات! وفي قضية أخرى دانت المحكمة شخصاً من الدول الخليجية المجاورة بتهمة جلط اللؤلؤ المستزرع باللؤلؤ الطبيعي، وحكمت عليه المحكمة بالسجن، وبعدها تم إبعاده عن البلاد.

ويتمتع لؤلؤ البحرين بسمعة طيبة جداً في جميع أنحاء العالم، ولم يلقَ أي اقتراح بخلط اللؤلؤ الطبيعي من المستزرع استجابة في البحرين، حيث كان سينتج عنه تدمير هذه الصناعة! ومازالت البحرين هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحرّم التجارة في اللؤلؤ المستزرع حتى اليوم.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن الصورة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)