مقالات في الذكرى الرابعة لرحيل محمد أركون Mohammed Arkoun

, بقلم محمد بكري


 في ذكرى رحيل محمد أركون : كثير من التفكيك قليل من البناء


جريدة الحياة


السبت، ٢٧ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٤
جريدة الحياة
صلاح سالم، كاتب مصري


تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الرابعة لرحيل مفكر عربي كبير، عاش جل حياته ناقداً لما سماه «الأرثوذكسيات»؛ سواء «السنية التقليدية»، أم «الشيعية المناهضة»، أم «الخوارجية المناضلة»، وذلك قبل أن تأخذ في الاحتدام والعراك اليوم على نحو لم يكن متصوراً قبل أعوام قليلة، لتنال من كل شيء كان قائماً بيننا: اجتماعنا، تمديننا، أمننا، استقرارنا، مستقبلنا، بل وإنسانيتنا، ناهيك بصورتنا في عيون العالم، ما كان سيدفع الرجل لو أنه كان لا يزال بيننا إلى القول: هذا ما كنت أخشاه، إنه حقاً صراع الأرثوذكسيات، وهي تأكل نفسها، قبل أن تأتي على أبنائها.

إنه المفكر العربي الجزائري محمد أركون، الذي مثل نموذجاً فريداً للشجاعة النفسية والاتساق الفكري الواجب الاعتراف له بهما، على رغم أي مناطق للتباين والاختلاف معه، فقد عاش حراً مستقل الرأي إلى أبعد مدى عن أي تيارات أو مؤسسات فكرية مهيكلة، كما كان مستعداً دوماً للدفاع، أحياناً بشراسة، عن معتقداته وأفكاره، على رغم كثرة الهجوم عليه، وحدّة هذا الهجوم التي وصلت أحياناً إلى حد التكفير من بعضهم.

في هذا السياق جسَّد الرجل خليطاً من عقلانية ابن رشد التي اتسمت بطابع يقيني واضح، وعقلانية التوحيدي التي غلب عليها القلق المعرفي، والروح الصوفية. كان هاجسه الأساسي هو تحرير العقل الإسلامي الراهن من شتى قيوده، ومن محبسه داخل العقائديات الجامدة التي صاغها بنفسه حول نفسه، فقيّدت خطاه وأعاقته عن التواصل؛ ليس فقط مع الآخر بكل منجزه المعرفي والحضاري الراهن، بل مع موروثه الإنساني نفسه. وهو ما يرجعه أركون إلى أن ذلك العقل اختار في تعامله مع ذاك الموروث الخنوع لا المواجهة، النقل لا الإبداع، التقليد لا الاجتهاد، الاستكانة إلى اليقين بدلاً من شجاعة الشك والمساءلة، وهو الاختيار الذي يسعى الرجل إلى الانقلاب عليه والاستئناف ضده، ولذا سعى إلى وضع العقل الإسلامي الراهن بمكوّنيه الضروريين: أي موروثه «المعقول»، ومكتسباته من الفكر الغربي الحديث، أمام الواقع الإسلامي نفسه محاولاً أن يفتح الدائرة الفكرية على الدائرة الواقعية لتصيرا دائرة واحدة تتبادلان الفعل والتأثير عبر ما يسمى في علم النظم السياسية «التغذية الاسترجاعية».

في سعيه إلى تكريس العقلانية العلمية يميّز أركون بين برهان منطقي لا يمنحه قدراً كبيراً من الاهتمام، وبين برهان تجريبي ينبع من صدق عمل العقل مع مشكلات الواقع المعاش. وهنا فإنه يفرّق بين التعرف الى الشيء/ ومعرفة الشيء. في الحالة الأولى يكتفي المرء بمعرفة شيء معروف سابقاً لديه، أو موصوف من قبل النصوص، وأما في الحالة الثانية فيعرفه فعلاً، بمعنى أنه يكتشف شيئاً لم تكن له أي صورة معقولة ومسبقة عنه. الحالة الأولى هي حالة المؤمن (التقليدي)، وهي جوهر النزعة السلفية التي ترفض وجود أي معرفة استكشافية أو جديدة في الكون لسبب بسيط «هو أن كل شيء كان قد ذكر في النصوص وعرف مرة واحدة وإلى الأبد. وبالتالي فإن مهمة المؤمن هي أن يتعرف إليه من جديد على ضوء ما حفظه من النصوص (حتى علم الذرة موجود في النصوص). وهنا يصوغ أركون مفهومه عن «العقل المنبثق» كما وظّفه خصوصاً في كتاب «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل»، وهو عقل جديد ينبثق مباشرة من واقعنا لمواجهة قضاياه في شكل مباشر لا مداور، ومن ثم يتقيد بالقواعد التالية:

أولاً: كونه يصرّح بمواقفه المعرفية ويطرحها للبحث والمناظرة. ويلحّ على ما لا يمكن التفكير فيه أو ما لم يفكر فيه بعد في المرحلة التي ينحصر فيها بحثه ونقده للمعرفة.

ثانياً: كونه يحرص على الشمولية والإحاطة بما توافر من مصادر ووثائق ومناقشات دارت بين العلماء حول الموضوعات التي يعالجها.

ثالثاً: كونه يعتمد على نظرية التنازع بين التأويلات بدلاً من الدفاع عن طريقة واحدة في التأويل والاستمرار فيها مع رفض الاعتراضات عليها حتى لو كانت وجيهة ومفيدة.

رابعاً: كونه يحرص على ممارسة الفكر المعقّد لأنه يحترم تعقّد الواقع وبناه. ويذهب في ذلك إلى تجريب الفكر الافتراضي لكي يفسح المجال لكل أنواع ومستويات التساؤلات والإشكاليات.

وفي العقد الأخير من حياته قام بتطوير مفهوم آخر وهو «الهدم». فإذا كان العقل المنبثق هنا هو البديل من العقلين: الإسلامي المحبوس في دوغمائيته، والغربي المحبوس في مركزيته، والمتفلّت من تلك اللحظة التنويرية المؤسسة له، فإن مفهوم الهدم يعدّ بمثابة تطوير جذري لفكرة النقد، أو هو النقد في أعلى مراحله، إذ من خلال الهدم، ثم إعادة البناء من دون تحيّزات أو تمركزات يمكن للعقل أن ينبثق فتياً متجدداً.

دافع أركون كذلك، وبشراسة عن النزعة الإنسانية، حيث ارتبط لديه مفهوم الأنسنة ببنية ثقافية تنهض على مركزية الإنسان، كما ارتبطت لديه مركزية الإنسان بقدرته على بلوغ وعي ثقافي قادر على تجاوز تاريخ التنابذ والانشطار الذي ظلت تغذيه نزعات التمركز وتيارات الإقصاء، باسم الله في كثير من الأحيان، وباسم العقل في بعضها، وذلك من أجل بناء سياق تضامني بين البشر يتجاوز «أنظمة الاستبعاد المتبادل» المهيمنة على جل فترات التاريخ والتي اتخذت شكل القلاع اللاهوتية أو التبست برداء العقائد الجامدة، على جوانب عدة من الثقافات الإنسانية، مؤكداً أن تفكيك مثل تلك الأنساق المغلقة على جانبي الطريق الحضاري هو الطريق الأكثر أماناً وصدقية ونجاعة للتعايش بين البشر.

وهنا يوجّه أركون نقده للثقافتين الغربية والإسلامية على السواء وبوجه خاص تيارات الانغلاق التي تقصي الآخر هنا باسم الله، وتقصيه هناك باسم العقل. إنه ينتقد عقل التنوير الغربي، الذي كان بريئاً عند تولّده وفي بداية عمله، ولكنه تحوّل بمرور الزمن إلى عقل حسابي، أداتي، انتهازي، بارد حتى وقد وقع في أحابيل نزعة التمركز حول الذات، واستخدم لتحقيق مطامح طبقة قائدة، هي الطبقة البورجوازية، فالرأسمالية. «وهكذا حلت الدولة الحديثة محل الكنيسة كسلطة لا تفرق بين براءة المعرفة / ومصالح عقل الدولة».

في المقابل فإن العقل الإسلامي وقع منذ زمن طويل في أسر أرثوذكسياته خصوصاً السنية التقليدية، والشيعية المناهضة، والخوارجية المناضلة. وسعياً إلى الكشف عن آليات تكوين هذه الأرثوذكسيات يقسم أركون مجال الفكر إلى:

1- مستوى ما يمكن التفكير فيه للمتكلم. وهو متعلق بتمكن المتكلم من اللغة التي يستعملها، وبالإمكانات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المتكلم.

2- مستوى ما لا يمكن التفكير فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة.

ويفسر أركون انتصار روح الأرثوذكسية الصارمة لدى جلّ الكتاب والمؤلفين، واختفاء الموقف الفلسفي كليّاً بسيادة نمطين من العلماء طيلة عصور التقليد: أوّلهما هو نمط الفقيه الذي يحفظ عن ظهر قلب ويعيد إنتاج الكتب المدرسية للفقه من دون ابتكار أو تجديد عقلي. وثانيهما نمط الشيخ أو المرابط، بلغة أهل المغرب، والذي يكتفي بكونه الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة في القرية، ويستطيع أن يكتب تعويذة أو حجاباً، ويؤدّي الصلوات الشعائرية، ويسهر على الحفاظ على الحد الأدنى من التواصل مع الفرائض القانونية للإسلام. وأما في اللحظة المعاصرة، فإن ما يزيد من مساحة اللامفكَّر فيه والمستحيل التفكير فيه إنما «هو ارتياب النخبة الحاكمة التي لا تقبل بأي زعزعة أو نقض لنظام المشروعية الذي يسند السلطة السياسية. لذا فهو يدعو المثقف العربي المعاصر إلى الانخراط في استراتيجية شاملة لفتح العقليات المغلقة وتحريرها عبر النهوض بفعاليات أربع أساسية وهي: نقد الخطاب، تقديم تاريخ نقدي للفكر العربي - الإسلامي، والتأكيد على ضرورة البحث الأنتربولوجي، وإعادة الاعتبار للموقف الفلسفي.

وفي ما يتعلق بالقرآن بشكل خاص، يدافع أركون عن طريقة جديدة في القراءة تنطلق من قوله إن (القرآن خطاب أسطوري البنية) وهو قول أثار في مواجهته اتهامات وإدانات. ومن جانبه هو فقد أصرّ عليه، وإن حاول إعادة تفسير مفهومات «خطاب» و»أسطورة» و»بنية» بما يباعد بينها وبين الفهم الشائع لها، معتبراً أنها من تلك المفاهيم التي لم يُفكر فيها بعد كما ينبغي في الفكر العربي المعاصر، وأنها هي التي تمنح قراءته للقرآن وصف القراءة الوحيدة التاريخية أو العلمية.

ونختلف هنا مع أركون لأن التاريخية لم تكن غائبة دائماً أو تماماً عن أذهان المفسرين القدماء، إذ بحث هؤلاء عن أسباب نزول آيات القرآن زمانياً ومكانياً، وكوّنوا لذلك عِلماً كاملاً اسمه «علم أسباب النزول» استخدموا فيه مصطلحات كالعموم والخصوص، والمحكم والمتشابه، والظاهر والباطن، والناسخ والمنسوخ وغيرها من المفاهيم الإجرائية التي كانت متداولة آنذاك، ما يعني أنهم قد نظروا إلى القرآن بوصفه خطاباً، وقرأوه قراءة تاريخية. فالسيوطي، مثلاً، في الجزء الثاني من كتابه (الإتقان في علوم القرآن) يقدم تقسيماً للقرآن طبقاً لدرجات الوضوح الدلالي، أي طبقاً لإمكانية التأويل المتفتح على التاريخ إلى أربع درجات بالترتيب التالي:

أولاً: الواضح الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، وهو النص.

ثانياً: الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو المعني الراجح (الأقوى) والآخر معنى مرجوح (محتمل)، وهذا هو الظاهر.

ثالثاً: الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال، وهو المجمل.

رابعاً: الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما في الثاني، بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤوّل.

بلا شك تتميز القراءة التاريخية المعاصرة عن هؤلاء المفسرين القدامى، ولكن ما يميزها هو فقط مستوى فهم القائمين بها، ومدى امتلاكهم أدوات ممارستها وإعمالها في النص القرآني، وليس مجرد وجودها من الأساس. فالمؤكد أن القدامى فسّروا القرآن بما يملكونه من عدة منهجية وأدوات معرفية لم تكن كثيرة قبل التطورات الحديثة في مناهج العلوم الاجتماعية وفي أدواتها البحثية، بل قبل التطورات الكبرى لنقد الكتاب المقدس والتي توالت عبر القرون الثلاثة الماضية، لتراكم ما صار يسمى «النقد الأسمى أو الرفيع للكتاب المقدس» بعهديه: القديم، والجديد، خصوصاً في علم اللسانيات، وعلم الأنثروبولوجيا، وعلم العلامات، وتاريخ الأفكار، وعلم اجتماع الأفكار وغيرها. ولعل تلك المعارف والمناهج والمفاهيم الإجرائية هي التي حاول أركون تطبيقها على النص القرآني على نحو ربما يفوق محاولات الباحثين المسلمين المعاصرين، ولكن ذلك التفوّق النسبي لم يكن كافياً لمنح قراءته للقرآن وحدها صفة (العلمية) ما يعني وقوع قراءة الآخرين في دائرة الأسطورية أو الإيديولوجيا، مثلما يعني تفوّقه هو النوعي أو المطلق عليهم، وهو فهم غير واقعي.

يرى أركون إن الاستشراق عجز عن فهم المجتمعات الإسلامية المفترض أنه يكرّس جهوده لدراستها، ما يعني لديه فشل الإسلاميات الكلاسيكية (الاستشراقية)، أي التي اهتم الاستشراق ببحثها وتأسيس تصوراته عليها، لأنها تجاهلت جوانب أساسية عدة من الظاهرة الثقافية الإسلامية على منوال:

1- الممارسة أو التعبير الشفهي للإسلام، خصوصاً عند الشعوب التي ليس لها كتابة مثل البربر والأفارقة، وبشكل عام، الجماهير الشعبية.

2- إهمال المعاش غير المكتوب وغير المقال حتى عند هؤلاء الذين يستطيعون أن يكتبوا.

3- إهمال المعاش غير المكتوب لكن المحكي، وهو مادة غنيّة يمكن للتحرّي السوسيولوجي، وحده أن يلمّ بها.

4- إهمال المؤلفات والكتابات المتعلقة بالإسلام المنظور إليه بأنه «غير نموذجي أو تمثيلي». والاهتمام فقط بإسلام الغالبية الأرثوذوكسي (السني).

5- إهمال الأنظمة السيميائية غير اللغوية، التي تشكل الحقل الديني أو المرتبطة به من مثل: الميثولوجيات والشعائر والموسيقى وتنظيم الزمان والمكان، وتنظيم المدن وفن العمارة وفن الرسم والديكور والأثاث والملابس وبنى القرابة والبنى الاجتماعية الخ.

وعلى المنوال ذاته يقول أركون بفشل الخطابات الإسلامية في تحليل الواقع وتفسيره لأنها قامت على تكديس التشكيلات والمعارف الإيديولوجية التي لم تحظَ حتى الآن بأية دراسة علمية مطابقة ودقيقة. لهذا السبب يبدو ضرورياً لديه بلورة استراتيجية متكاملة لتدخّل الفكر العلمي في المجال الإسلامي. هذه الإستراتيجية هي ما يسميها أركون «الإسلاميات التطبيقية» التي تسعى إلى تحقيق هدف مزدوج. فهي من جهة تريد أن تتموضع داخل هذه المجتمعات الإسلامية لكي تتعرف إلى مشاكلها القديمة والحديثة، ومن جهة أخرى تساهم في إغناء البحث العلمي كما هو ممارس اليوم في شتى البيئات الثقافية، مع تحقيقها كل شروطه ومتطلباته النظرية.

هكذا قدم أركون الكثير من المفاهيم الجديدة على حقل الفكر الإسلامي من قبيل: العقل المنبثق، والهدم، واللامفكر فيه، والمستحيل التفكير فيه، والإسلاميات التطبيقية. كما يحيلنا في جل كتبه على أهم أعلام الفكر المعاصر وأبرز مراجعه. وهنا تكمن المعضلة الخاصة باستراتيجية الكتابة لديه، فمن كثرة ما يرجع إليه من مفكرين ونصوص ثمة ميزة تجد نفسك معها أمام تيارات واسعة في الفكر الإنساني. ولكن في المقابل ثمة عيب وهو أن فكر أركون يصير أكثر خفاء، وأقل وضوحاً. كما أن حشده الكثير من المفاهيم التي يبقى لكل منها قيمته في ذاته، ولكن من دون ربطها ربطاً جدلياً باستراتيجية تأويلية شاملة، قد حرم كتاباته، في تصورنا المتواضع، من صفة (المشروع المتماسك) أو الفكر الموجب، وجعله أقرب إلى التفكيك الدائم، يكتفي بطرح الأسئلة من دون تقديم أجوبة، ولو احتمالية. صحيح أنه أعلى من مفهوم الهدم ومنحه صبغة معرفية كما لمّحنا سلفاً، ولكن الهدم لا بد من أن يعقبه بناء وألا صار بلا معنى، ولعله هنا يبدو مفكراً ما بعد حداثياً بامتياز، ولعله كذلك، وللسبب نفسه، لم يحزْ لدى القارئ العربي درجة القبول والإجماع التي توافرت لأصحاب المشاريع الموجبة على شاكلة المغربي الكبير، الراحل أيضاً، محمد عابد الجابري.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



 محمـد أركون مفتاح القضاء على دوغمائيات ما بعد “الربيع العربي”


جريدة الخبر الجزائرية


الاثنين 15 سبتمبر 2014
جريدة الخبر الجزائرية
الجزائر : حاوره حميد عبد القادر


ظلّ فكر محمد أركون محل تهميش ورفض واستنكار من قِبل شريحة من النخبة المثقفة في العالم العربي الإسلامي، وبالأخص أنصار التيار الإسلامي، حيث تعمّق الخلاف ووصل إلى حد العبث، حينما أقدم المرحوم محمد الغزالي على طرده من قاعة المحاضرات خلال ملتقى للفكر الإسلامي في مطلع ثمانينيات القرن العشرين بالجزائر. واختلف إسلام أركون تماما عن “إسلام الفقراء” الذي دعا إليه بومدين في “لاهور” سنة 1974، كما لم يكن نظام الرئيس بن جديد بحاجة لفكر أركون بقدر حاجته لإسلام يساند رغبته في تصفية الإرث الاشتراكي والقضاء على النخبة التقدمية. وهكذا رحل أركون يوم 14 سبتمبر 2010، وفكره لا تلتفت إليه إلا نخبة مثقفة جديدة، أرادت التخلص من الدوغمائيات والأسيجة المغلقة، وتؤمن بالتاريخانية والعقلانية. ارتأت “الخبر” أن تستطلع فكر بعض هؤلاء الباحثين لمعرفة مكانة فكر أركون اليوم، في ظل الدوغمائيات والتطرف المنتشر عقب ما يسمى “الربيع العربي”.

الدكتور محمد شوقي الزين لـ”الخبر”

محمد أركون أراد تصحيح المشكلات التاريخية والمصيرية في الإسلام

أركون جاء بأخلاقيات في البحث العلمي والنظر الفلسفي يزيح البنيات ويخلخل البداهات

الإسلام السياسي في الفعل قبل الفكر؛ ومشروع محمد أركون هو الفكر قبل الفعل

يرى الدكتور محمد شوقي الزين أن مشروع المفكر الراحل محمد أركون هو مصارحة الذات بمطارحة كل الأسئلة العالقة التي تم وأدها أو إحالتها على الصمت، وهو الشجاعة في رؤية الماضي وجهاً لوجه، دون مراوغة أو كذب على الذات، وإصلاح ما عطُب فيه. وقال شوقي الزين الذي انتقل لتدريس الفلسفة بجامعة تلمسان بعد أن قضى وقتا طويلا بجامعة “إكس” بفرنسا، في حوار لـ«الخبر”، إن الأزمة التي وصل إليها تيار الإسلام السياسي تفتح الباب واسعا أمام فكر أركون، وتجعله ممكنا لتوسيع دائرة التفكير، بعد أن وصل فكرنا إلى درجة رهيبة من التقزيم والانحسار والتزمت.

ماذا تبقّى من فكر محمد أركون؟

فكر أركون مشروع كبير. تحمّل صاحبه عناء عقود من الزمن في بلورته وتنقيحه وتصحيحه وإثرائه ليقدّم لوحة عامة، أكاديمية وبيداغوجية وفكرية، لأهم المشكلات التاريخية والمصيرية في الإسلام. ما تبقّى من فكر أركون هو الاهتمام المتزايد بأعماله. لا يمكن إحصاء كل الدراسات التي كُتبت حوله في شكل مقالات أو مذكرات جامعية أو متخصّصين في فكره إذا اكتفيتُ بالأهم منهم، عندنا في الجزائر، أمثال الدكتور فارح مسرحي والدكتور مصطفى كيحل. الاهتمام بنتاجه النظري النوعي هو بمنزلة تقدير لجهوده الأكاديمية وهمومه الفكرية. يبقى التأثير ضئيلاً جداً، مثله مثل أنداده من رواد النقد العربي المعاصر، أمثال محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وعلي حرب، لأن البناء النظري والأكاديمي لم تكن له أعيان في الواقع؛ هذا الواقع الذي كان رهينة عوامل كثيرة، في الماضي القريب وإلى اليوم، تفسّر هشاشته وخرابه: الاستبداد السلطوي الذي أجهز على كل ثقافة سياسية وسجال ديمقراطي، والتطرّف الديني الذي حطّم العقول وحرّر الانفعالات والنزوات التي نرى تجلياتها في فظائع الإرهاب، والفقر الاجتماعي الذي خلق كائنات كسولة متواكلة متسوّلة متوسّلة. لم يكن بإمكان “النظرية” أن تشق طريقها في هذه الحقول الجرداء وتزرع آمالاً مثمرة ومتشاجرة.

ما هي أسباب هذا التعنت المستمر في رفض مشروع أركون الفكري؟

جاء أركون بأخلاقيات في البحث العلمي والنظر الفلسفي تزيح البنيات وتخلخل البداهات. فليس من السهل، في ظل فكر عربي إسلامي متعوّد على اجترار المسلّمات والوقوف عند القداسات، أن يستسيغ هذا النوع من الرؤية النقدية القائمة على مراجعة الأصول والحكم الحصيف وتفكيك المتشابك لتبيان الحقيقي من المزيّف والعقلي من النقلي والعقلاني من الأسطوري. 800 سنة من التكرار والاجترار، بعد سقوط آخر قلعة عقلانية في شخص ابن رشد، ومن التقليد والفرار من العالم، يصعب معها الحديث بلغة النقد والتأويل وإعادة النظر والاجتهاد. علاوة على ذلك، فإن مرجعيات أركون، الصريحة والضمنية، التي تستقي من أهم المناهج النقدية والنظرية الغربية في الأنثروبولوجيا والتاريخ والفلسفة والدين كانت محط ريبة واستهجان، بحكم الأركيولوجيا في الذاكرة الجريحة القائمة على رفض الغرب “الاستعماري” والاحتراس من منتجاته الفكرية المنعوتة بأوصاف “الغزو الثقافي” كما كنا ولا زلنا نقرأ ونسمع. استعمال النقد والأخذ بالمناهج الغربية هما من بين الأسباب الرئيسية في رفض مشروعه.

فيمَ يفيدنا فكر أركون اليوم؟

الفائدة الجادة في فكر أركون هي توسيع دائرة التفكير بعد أن وصل فكرنا إلى درجة رهيبة من التقزيم والانحسار والتزمت؛ وكأن ذهننا لم يعد يتحمل سعة العالم، يخشى الانكشاف، يفرّ نحو الانغلاق، في درجة قصوى من قِصر النظر وفقدان الأفق. عبّر أركون عن ذلك بمصطلح “السياج الدغمائي المغلق” حيث الخارج منه ينجرح بأشواكه أي أحكامه القاسية (التكفير، التسفيه..)، والداخل فيه لا يبرح مكانه عندما يلوك بداهته ويجترّ مواقفه، يدور على الرحى ولا يتقدم. يدعو فكر أركون إلى كسر هذا الطوق المغلق لتحرير المجالات النظرية والعملية المسجونة فيه، ولتحرير النفوس من قبضته وإحكامه. ليست الأمور بالهيّنة، لأن هذه القبضة حديدية وفولاذية، عديمة المتنفّس، صعبة التليين، سوى بجهود فردية وجماعية، بإعادة النظر والاجتهاد، بمعاودة التفكير والتأويل. رغم كل ما قيل ويقال حول الكائنات المتطرفة التي تشعل الأقاليم العربية نيراناً وإرهاباً، بأنها صناعة غربية في مختبرات المخابرات، فإن هذا لا يبرّئ الأنا التي لها “القابلية للتطرف” بحكم العوامل التي أشرتُ إليها من قبل: الانسداد السياسي، العوز الاجتماعي، الفراغ الثقافي والروحي. الحديث بمنطق المؤامرة عليه أن تقابله جدّية من قِبل الذات في علاج أسقامها وتوسيع آفاقها ومراجعة شاملة لمبادئها ورؤيتها الثابتة للعالم. هذا ما كان يريد فكر أركون تبيانه والتعويل عليه: التوقّف عن البحث عن التبريرات الواهية للعجز الذاتي ومباشرة اشتغال نقدي وتكويني على الذات.

هل هناك اليوم استعداد لتقبّل التاريخانية التي يدعو إليها؟

حاول أركون أن يدخل فوائد الاعتداد بتاريخية العصور بعدما استبدت القداسة بالأقلام والأحلام ومعها الأوهام. تاريخية العصور والأقاليم معناها أن الأفعال البشرية لا قداسة فيها: فهي تحتمل حُسن الأداء أو سوء الأداء، وتوزن بمكيال الحصافة العقلية لا التبرير الإيديولوجي السمج. إدراج التاريخية معناه أن كل شيء له علة وظرف وسياق، لا يمكن فصله عن الشروط الموضوعية التي كانت سبباً في إمكانه الزمني وتمكينه المكاني والإقليمي. في هذه الحالة، لا يمكن القول إن هناك استعداداً لتقبّل البُعد التاريخي للأزمنة السياسية والدينية. حصل نوع من “قداسة التاريخ” حيث يُرى كتاريخ مقدس، تاريخ البطولات والملاحم، تاريخ الفوز النهائي للخير على الشر، في هذيان نظري لا نزال نرى تجلياته عند الشيوخ والأئمة، بما في ذلك عند فقهاء الفلسفة في ديارنا. قداسة التاريخ هي مقتله بالذات، هي التوقّف عن النظر والتفكير، هي سحب العلة والمعلول عن الظواهر والأشياء، وإضفاء قراءة سحرية، كهنوتية، قَدَرية على مسار العالم وصيرورة البشر. كل هذا يتعارض مع منطق جدلي وتوليدي للتاريخ، منطق موضوعي وتنظيمي للأفعال البشرية والتصوّرات الفردية أو الجماعية. لا يتعلق الأمر بتاريخانية مطلقة، لأن الإنسان “حيوان رمزي” كما سلّم الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر، إنسان يميل إلى المقدّس، وتحويل العلامات إلى رموز. أدرك أركون جيّداً هذه المسألة ولم يدع إلى تاريخانية منفصلة عن إرادة الإنسان في الترميز، لكن بيّن أن هذه الإرادة في الترميز وإضفاء القداسة على الأشياء هي من قُدرة الإنسان على التخيُّل والتجريد. لكن ثمة مَواطن لا يمكن إدراج فيها التخيُّل مثل العمل السياسي والتعقّل الحضاري، ليبقى في حظيرة الإبداع الأدبي أو التأمّل والمراس الديني الخاص بكل فرد أو جماعة. الخلط بين التخيُّل والتعقّل هو من بين العوائق الأساسية في إقحام القداسة في التاريخ.

هل أزمة تيار الإسلام السياسي اليوم يمهد الطريق أمام احتمال الاهتمام بفكر أركون؟

بلا شك. لقد وصل الإسلام السياسي إلى الانسداد، ولم ينتج سوى الإخفاقات والمطبّات كتلك التي كان يعيّرها ويقبّحها في النظام السياسي الاستبدادي. عندما يصل الإسلام السياسي إلى التطرّف الذي يؤدّي بدوره إلى الإرهاب، فهذا سقوط في الحضارة والقيم وتخريب 1500 سنة من رسالة محمدية تدعو إلى السعة الكونية والرابطة البشرية. لقد كان الإسلام السياسي في الفعل قبل الفكر؛ ومشروع محمد أركون هو الفكر قبل الفعل، لأننا لم نحسم القضايا الكبرى، السياسية واللاهوتية، من تاريخنا الطويل. في السياسة، ضُرب صفحاً عن الفتن الأولى بعد وفاة النبي (ص) وتم ختمها بالطابوهات مع أنها هي التي تدبّر حياتنا اليوم، في دبيب الأفعال وسقيم التصوّرات؛ وفي الدين، تم الانتصار لصالح النص والقَدَر على حساب العقل والعمل، فتم ردم المعتزلة وإعدام التفكير، ولا نزال لحد اليوم نتكبّد مفاعيل تلك اللحظات كالهزات الثانوية بعد هزة أرضية عنيفة. مشروع أركون هو مصارحة الذات بمطارحة كل الأسئلة العالقة التي تم وأدها أو إحالتها على الصمت، هو الشجاعة في رؤية الماضي وجهاً لوجه، دون مراوغة أو كذب على الذات، وإصلاح ما عطب فيه، ونقد ما تصلّب في هياكله، وتحرير ما انغلق في سجونه وتحجّر في شجونه. التفكير أولاً في كل هذه التراكمات الدهليزية الخفية التي لا تزال، من وراء حجاب، تدبّر مسارنا ومصيرنا؛ تفكيك المتشابك، تأويل الحرفي، تحرير المكبوت، تنويع مصادر التشريع.. إلخ.

عن موقع جريدة الخبر الجزائرية

المقال



 إنزال البحث في النص الديني وتاريخ الإسلام من التمجيد إلى الأكاديمي


جريدة الخبر الجزائرية


الاثنين 15 سبتمبر 2014
جريدة الخبر الجزائرية
د. إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة قسنطينة


أعتقد أن محمد أركون هو أهمّ من فتح بابا نقديا واسعا في مقاربة المسائل الشائكة التي تخص الظاهرة القرآنية والإسلامية، باب “الإسلاميّات التطبيقية” كما أسماه. بغضّ النظر عمّا يكتنف مشروعه من نقائص، يكون أركون أول من أنزل البحث في النصّ الديني وتاريخ الإسلام من سماء التمجيد والتهويمات النوستالجية والهوية والدوغمائية، إلى بساط البحث الأكاديمي والعلمي، وهدم بذلك أكبر صنمية مغلقة كانت تدور حولها الأصوليات الدينية والإسلام السياسي.

يدعو أركون إلى توظيف المعطيات المهمّة التي وصلت إليها الإنسانيات المعاصرة في مقاربة تاريخ الإسلام والقرآن مقاربة علمية وتاريخية، متّكئا في ذلك على الثورات العلمية التي حققتها اللسانيات المعاصرة والأنثروبولوجيا ومدرسة الحوليات في علم التاريخ، وكذلك نظرية النص والسيميولوجيا ما بعد البنيوية. أي أنه يفتح مجال الإسلاميات التطبيقية على كل حقول البحث المعاصر ولا يحصره في نظرة أحادية كما كان يفعله الفكر العربي والإسلامي قبله.

لا يعتبر أركون نفسه مستشرقا، ورغم أنه يشيد بالتبحّر المعرفي للمستشرقين ودورهم الأساسي في التعريف العلمي بوثائق الحضارة الإسلامية، إلا أنه لا يكفّ عن نقد الاستشراق سواء في مداهنته للشعور الإسلامي العام على حساب الحقيقة التاريخية، أو في نزعته الفيلولوجية البحتة في مقاربة وثائق الحضارة العربية الإسلامية، واستغنائه عمّا تفتحه العلوم الإنسانية من فتوحات نظرية كل يوم. في العشرية الأخيرة من حياته، وبعد حادثة سبتمبر 2001، انخرط أركون في تفكير الإسلام بوصفه طرفا في الأزمة العالمية، أزمة التعايش بين الثقافات، وقد رفض موضات الحوار بين الأديان والحضارات، (حوار مسيحي/إسلامي...) “..لا أحب هذه الكلمة، ليس لأني ضد الحوار، ولكن لأنه أصبح يخلع المشروعية على ذاتيتين، على مخيالين اجتماعيين، يدخلان في صدام مباشر على صعيد تصوراتهما الموروثة، في حين ينبغي الغوص في البحث عن الأرضية المشتركة أو الجذر المشترك التي تأسست عليه تلك العقائد، والتي تنفي بعضها البعض” يقول أركون.

بدل ذلك يطرحُ ضرورة “التضامن”، أي تحمل مسؤولية تراثنا الديني بشكل متضامن، بدل التحدث عن الحوار الذي يحيلنا إلى مفهوم التسامح الكسول واللامبالي بالرهانات الجديدة لإنتاج المعنى وتحولاته.

يبدو أن احتكاك أركون احتكاكا أصيلا بالإسلام أسعفه أيضا في التنبؤ بأحداث الحراك العربي الذي نعيشه منذ سنوات. وقد كتب ذلك برؤية مدهشة سنة 1997، في كتاب “الإسلام، أوروبا والغرب”.

عن موقع جريدة الخبر الجزائرية

المقال



 أركون انتقد العقل القاصر على الانخراط في مجتمع المدينة


جريدة الخبر الجزائرية


الاثنين 15 سبتمبر 2014
جريدة الخبر الجزائرية
الدكتور اليامين بن تومي أستاذ النظرية وتحليل الخطاب.. بجامعة سطيف


تعود الذكرى لتقهر كل أشكال النسيان المرضي من خلال أركون نعود إلى ذواتنا دراسة وتحليلا، يضيع الشخصي، محمد أركون، لننخرط في الجماعي نحن، لذلك يُفتت أركون في مشروعه بنية الخطاب الإسلامي من لحظة حصول التثبيت فيه، وتأسُّس الحاكمية على العقول، تلك الأخيرة التي حصل فيها إهدار مضاعف لقيمة العقلاني والإنساني في التاريخ الإسلامي. لذلك ومن خلال أهم الاستنادات المرجعية في كتبه، نجده يسلط الضوء على مرحلتين شكلتا ضابطا قاهرا للعقل في الإسلام: النصوص المرجعية التي أطلق عليها نصوص السيادة العليا وهي: القرآن، السنة، قول الصحابي، والتي أصبحت آليات مراجعتها مضبوطة بنسق آلي خاضع للمراقبة وأي تجاوز يؤدي للعقاب.

 مستوى الفاعل الديني أو الشخصي الذي تَثَبَّت حاكما على الخطاب نتيجة امتداد فعل القدامة واعتباره موجها قويا للخطاب من الخارج، وبعث آليات السيناريو المتكررة من الصراع بين الفرق الإسلامية.

فالنصوص السيادية شكلت بنى دوغمائية / سياجا دوغمائيا ثبت الأصول التي نَمَّطت العقل في اتجاه معلوم الدلالة، من حيث شهرة المعنى الدّال على التقييد والضبط، حيث لا يجوز الخروج عن هذا الإطار المغلق للمدلول العام للعقل. ويكون في تخريجه ضِدَّ الجابري الذي قسم النظم الثقافية في الثقافة العربية إلى بيان وبرهان وعرفان، فأركون يرى أن كل الفرق الإسلامية تختزن مدلولا مرجعيا للعقل الذي ينتظمه قانون واحد. هذا الأخير الذي لم تكن له الفعالية المطلوبة لولا سلطان الشخص الديني الذي حدَّد السياج الدوغمائي العام الذي يشتغل داخله العقل، ولا يجوز له من ثمة الخروج عليه، وقد وضع على رأس الشخوص الدينية التي نمطت المفهوم ولعبت دورا خطيرا في التاريخ الإسلامي: الشافعي، حيث ضبط العقل الإسلامي ضمن سياج محدد لا يمكن الخروج عليه، في شكل سلطة ثقافية وشرعية هي اللائحة التوجيهية للعقل في ممارسة عمله، وأي انتهاك للوائح التعيينية يؤدي للعقاب، التكفير أو الإهدار الكلي، وهو آلية مرنة داخل عمل المجتمع الفقهي تحديدا، هذا العمل القاعدي الذي ضبطه الشافعي جعله حيويا بما يضمن له ديمومة زمنية فيه، فهو فوق زماني / متعال، وبالتالي فالعقل المسلم ينظر دائما للخلف إلى نموذج تم بناؤه من فوق أنموذج يُحرِّك ولا يتحرك، ومن ثم أي تحليل للعقل الإسلامي لا بد أن ينطلق من تحليل هذا الأنموذج الذي تأسس سلطة حاكمة على المجتمع المسلم، حيث تصبح الأفعال مجرد قوالب مستدعاة من النص من الكتاب، السنة، الإجماع. وهي الدرجات التعاقبية المشرعة للعقل الإسلامي وتشكل له الفترة التأسيسية أو التكوينية، وقد قدمت نفسها عقلا تشريعيا للناس، وعليه أصبح العقل مفرغ الدلالة من راهنيته، من زمانيته التي تدفع الإشكالي فيه، الذي تحدد فاقدا لسمة الوثبة/الثورة إلا من داخل تلك المصادرة الكامنة فيه، فعل التثوير عنده (الشافعي) نصوصية لا تاريخية.

وحصل سجن لمدلول العقل من كونه فاقدا للإرادة أصلا، فاقدا لسمة التداعي والطلب، مستلب الفعالية، لأنه أصبح دائرا في خانة الترديد والاجترار لا عقلا إبداعيا، عقل قاصر على الانخراط في مجتمع المدينة، وبهذا الشكل يرتكس العقل في لامعقولاته حين يصبح مجرد استدعاء للقديم وينخرط في لا تواصلية لاعقلانية ليصبح غائرا في طبقات اللامفكر فيه.

عن موقع جريدة الخبر الجزائرية

المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)