كيف نحبّ زياد الرحباني؟
جريدة السفير
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-01-22 على الصفحة رقم 12 – السفير الثقافي
زينب سرور
يُشكّل الشريط المُصوَّر لمسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978) لزياد الرحباني مادة لنقاش يبدأ من معنى عرض صورة مرتبكة وصوت ملتبس لمسرحية راسخة في مخيّلة جماعية لبنانية، ويكاد لا ينتهي عند الجوانب المختلفة الأخرى، المتعلّقة بالذاكرة ولغة الصورة واستعادة الماضي والنوستالجيا، بالإضافة إلى موقع الرحباني الابن في الوجدان اللبناني العام.
الأسئلة كثيرة، لكن أهمها كامنٌ في كيفية مقاربة صُور قديمة، وإن كانت باهتة أو رديئة. فهل تمنع «وشّة» أسطوانة لسيّد درويش من الاستماع إليها؟ لماذا انشغل نقّادٌ بثغرات ترميم «بالنسبة لبكرا شو؟»، وأغفلوا أن 28 عاماً تفصلنا عن المسرحية الأصلية، التي صارت في تراثنا، والتي ينبغي أن نتعامل هكذا معها؟
هل تملك أسطوانة قديمة؟ فلنقل لسيّد درويش. هل أدمنتَها يوماً؟ هل يئست من محاولة إدراك ذاك الشيء الخفيّ، الذي يربطك بتلك التسجيلات؟ بذاك الصوت؟ بتلك الألحان؟ هل فشلتَ في معرفة سبب استماعك إليها مراراً وتكراراً، على الرغم من «الوشّة» و «التّقطيش»؟ هل سألْتَ نفسك: «لمَ تستميلني»؟ ألم تشعر بلذّة وأنتَ تحاول التّماهي مع صوت الطّنين؟ ألم تبتسم وأنتَ تتخيّل هيئة درويش وهو يقول: «بوخومار خنفشار»؟ ألم تشعر بحاجة إلى رؤية شفتيه للتأكّد من صحّة سماعك عبارة: «وين ها الألعوط هخّي الصرماية يا أطل مازنيس»؟ بالتأكيد فعلْتَ.
حتماً أردْتَ معرفة هيئة درويش وهو في «الحالة». وهو يحرّك ريشته. يميل برأسه. هل كان يغمض عينيه أم يفتحهما؟ أكان من المبتسمين؟ هل كان يفضّل الغناء وهو جالس؟
لن تنتظر فيديو قديماً حتّى تنسج حكايتك عن الرّجل. سيّد حاضرٌ في مخيّلتك، وإن لم تتعمَّد ذلك. يتفاوت الأمر بينك وبين الآخرين تبعاً لقوّة مخيّلتك. لقدرتها على النّسج. كاحتمالاتٍ أولى، ستقوى مخيّلتك على إظهار سيّد بهيئتين: مرتدياً البذلة، أو الجلباب. والسّبب؟ هما الصّورتان الأشهر له. سيّد هو ذاك الشّاب ذو الشّعر الأجعد. المرتفع نحو الأعلى. شفتان منفرجتان قليلاً. ينظر إليك مباشرةً. عينان غارقتان نحو الداخل. أو واضعاً يده على ذقنه وهو ينظر إلى البعيد في صورةٍ قريبة من الأولى.
خيارات الصورة والصوت
في مكانٍ آخر، هو سيّد القرويّ. أصغر سنّاً من الهيئة الأولى. ابتسامة خجولة. عينان أكثر وضوحاً. ونظراً إلى وفاته في سنٍّ صغيرة، ستجد صعوبة في تصوّره عجوزاً. سيبقى دائماً في مخيّلتك الشاب سيّد درويش.
لستَ من هواة هذا النّوع من الموسيقى؟ إذهَبْ إلى خيارٍ آخر. فرانك سيناترا. ذاك الأميركيّ الغنيّ عن التّعريف. ألم تشعر مع أشهر مغنِّي القرن العشرين بـ «جاذبيّة درويش»؟ ألم تطرح على نفسك تلك الأسئلة أيضاً؟ مخيّلتك مع سيناترا محدودة نظراً إلى توفّر صُوَره بشكلٍ أكبر. توجد له أشرطة فيديو كثيرة. لكن، على الرغم من ذلك، بقيت صورته تساوي الملايين. من يقتني صورة قديمة لفرانك، يملك بين يديه كنزاً كبيراً.
بما أنّ عالم الخيال ليس محدوداً، تخيّل أنّك وجدت شريط فيديو قديماً لسيّد درويش. حتماً، سيكون ذا جودةٍ عاطلة. مشوّشة. أكثر رداءةً من التسجيلات الصوتية المعبودة. على الرغم من ذلك، سيتهافت كثرٌ لمُشاهدته. المتهافتون ليسوا «عشّاقاً مجانين». ربّما من باب النوستالجيا. بالمناسبة، كثرٌ من النقاد يكرهون الكلمة الأخيرة لسببٍ غير مفهوم. ربّما من باب حبّ الاطّلاع. ربّما يقتصر الأمر على الحشريّة. حشريّة معرفة مدى «إصابة» مخيّلتهم للواقع. هل فعلاً عازف العود إلى جانب درويش نحيلٌ إلى هذه الدرجة؟ إلى هذا الحدّ تغوص المخيّلة في التفاصيل.
هذه النظريّة طُبّقت فعلاً على سيناترا. منذ مدّة، طُرح له فيديو جديد. دقيقةٌ واحدة واثنتان وأربعون ثانية لفرانك. يدخل إلى مسرح «بارامونت» في نيويورك، ويؤدّي أغنيةً. دقيقةٌ واحدة واثنتان وأربعون ثانية لفيديو صامت. يصعد إلى المسرح. النساء حوله يصرخن. يبكين من الفرح. فيديو غير متقن التّصوير. «زواياه» ضائعة. بلا صوت. فيديو لفنّانٍ له الكثير من الأعمال المصوّرة، جذب هذا القدر من المتابعين. فكيف غيره؟
العلاقة مع الصوت ليست عابرة. تحوي قوّةً مبهمة. غير مفهومة. يتخطّى الأمر الموسيقى. يدخل في تفاصيل الحياة اليوميّة. للجميع رغبة في معرفة مدى تماهي ما أنتجته المخيّلة حول الأصوات في الواقع. في الأمر نوعٌ من «الحرقصة». إنه أشبه بعلاقةٍ تجمع اثنين على الهاتف. ليس في الأمر تعقيد. ينطبق على أبسط الأمور. فلنقل إنّه يُشبه تلك الرغبة في معرفة ما إذا كان عامل الهاتف في مطعمك المفضّل طويل القامة أم قصيراً. حتماً ربطتكَ علاقة بذاك الشخص. لديكَ رغبة في معرفة هيئته. لون شعره. مدى فرحه. انزعاجه وهو يجيب على طلباتكَ الكثيرة. ربّما ليست رغبةً قويّة، لكنّها في مكانٍ ما موجودة.
عالم سيّد مسموع وليس مرئيّاً. عالم فرانك مسموعٌ أكثر منه مرئيّاً.
وعالم زياد الرّحباني؟
لم يطرح زياد نفسه يوماً على أنّه «رجل الصّورة». دائماً كان يُفضّل حاسّة السّمع على البصر. ربّما تكون التّسمية الفضلى له هي «رجل الصّوت». حتّى في موسيقاه، يجنح نحو تخفيض «الصُّور الكلاميّة». الآلة الموسيقيّة أبلغ من الحرف. لديها القدرة على إيصال الإحساس. إحساس الآلة أصدق من إحساس الحنجرة. قالها دوماً.
من لا يعجبه زياد، دخل إلى «بالنّسبة لبكرا شو؟» وهو «يعلم» أنّ «المسرحيّة ـ الفيلم» فاشلة. من يعشقه، حضّر مسبقاً الانطباع الإيجابيّ. غاص كثرٌ في النّقد. ضاعوا في تفاصيله. استغلّوا الحدث كي يُغرقونا بالمعلومات. عيارات الكاميرات. نوعها. تخمين عددها. زاوية التّصوير. كيفيّته. الروايات التاريخية للعمليّة. أسباب عدم تصويرها سينمائيّاً. ليال الرحباني قامت بالتّصوير. شقيقة زياد. هاوية هي. لا تعرف التّركيز على الزاوية الأفضل. طُلب منها ذلك. لم يُطلب. تفاصيل التّرميم. كان يجدر به. كان عليه أن. أخطأ هنا. أصاب هناك. تعثّر في هذه المرحلة. حالفه الحظّ في تلك. لغير المتخصّص، هذه أمورٌ مملّة. قد يحتاج الواحد منّا إلى تكرار قراءة العبارة حتّى يُدرك معناها. هذا إن أدرك.
سَمَاع
كان بإمكان من لم تعجبه «خشّة» الصورة وترميم المشاهد وتبديل ملابس الممثّلين بين المشاهد أن يكتب مقالته النقديّة قبل العرض بأشواط. لم يكن أمر الترميم و «التّقطيش» والمشاهد المتداخلة والصوت الرديء سرّاً على أحد. من غير المعقول أنّ يأتي ثمار عملٍ، استغرق ترميمه أكثر من ثلاث سنوات، «غير شكل». كنّا نعلم أنّ الفيلم لن يكون بـ «جودة» السّمع نفسها. الجودة وليس المضمون.
عالم زياد مسموع. لكن لا ضيرَ إن أصبح مرئيّاً. البعض يعترض على الفكرة. لا نُريد لعالمه أن يصبح كذلك. ولكن مهلاً، من قال إنّ عالمه أصبح كذلك؟
شركة “Mmedia” طلبت من الحاضرين و «النقّاد» غضّ النّظر عن الثغرات. فصّلت المشاكل التي تعترض العمل. فما كان من النقّاد إلا أن أعادوا سردها بمصطلحاتهم «غير الشعبيّة». الصورة «المغبّشة». الزاوية الضائعة. تبديل ملابس الممثّلين في المشهد نفسه. من انتقد هذه الأمور وضع نفسه في الإطار الآتي: لو كان تصوير الفيلم ممتازاً لكنّا قبلنا العرض. بمعنى آخر أخرج الناقد نفسه من زاوية التعامل مع عملٍ له «خصوصيّة تاريخيّة»، وحشر نفسه ضمن زاوية تعامله المعتاد مع نقد الأفلام أو الأعمال المسرحيّة اليوميّة. زياد الرّحباني تماماً كفلان الفلاني. في الأمر نوعٌ من الإجحاف.
هناك من تحدّث عن تشويه الفيلم للمسرحيّة في الأذهان. ربّما انطلق من قاعدة أنّ «الصورة العاطلة تُفسد العمل». ربّما «أتعبه» الصوت الرديء و «الوشّة»، و «أجهدته» قراءة السطور أسفل الشاشة. لكن، مهلاً. هل هكذا يتمّ التعامل مع الأعمال القيّمة؟ من يعتبر أنّ في «الصورة المحفوظة» لعملٍ قديم تشويها، فهو ينطلق من فكرة أنّ العمل قيّمٌ للغاية. من يعتبر أنّ العمل قيّمٌ للغاية، عليه أن يفهم قاعدته: أي شيء يمتّ له، أي للعمل، بصلة هو محطّ أنظار. سواء أكان صورة، تسجيلاً، شريطاً، صورة رديئة، جيّدة، «وشّة»، من دون «وشّة». لا فرق. كلّه يساوي «ثروة». تماماً كأعمال درويش وسيناترا. هل يجب منع عرض فيديو ذي صورة رديئة لسيناترا تحت ذريعة «تشويه» العمل؟ هل يُعقل أن نطالب يوماً بإخفاء شريط مسرّب لدرويش، ولو على سبيل الخيال، تحت ذريعة تشويهه لأغنية «أهو دة اللي صار»؟
بعضهم سأل ما جدوى العرض؟ لمَ لا يكون السّؤال «ما جدوى عدم العرض»؟ لمدّةٍ طويلة خبّأ زياد صوَر الممثلّين. انفعالاتهم. وجوههم. ترك الأمر للمخيّلة. ليس بالضّرورة أمراً سيّئاً. لكن أن نرى تعابير وجه وحركات رامز (جوزف صقر) وهو يتلقّى قصيدة أستاذ أسامة (فايق حميصي)، إضافة للعمل؛ رؤية تلك المشاهد مكّنتنا من فهم سبب ضحك الجمهور في مقاطع لم نكن نفهمها سابقاً. رؤيتنا لزياد وهو يقول لجوزف: «لابس كورولّيه ولي» وهو يشير إلى أسفل قدمه. طريقة رقص ثريّا (نبيلة زيتوني). وجه زياد وهو غاضبٌ من الحالة. الخسّة الّتي يُخاطبها جوزف. غضب نجيب (رفيق نجم). الضّرب الذي لم نكن نسمع منه سوى القهقهة. طريقة تناول لطف الله (أكرم سريّ الدين) لحبّات الزيتون. تلك التفاصيل لم تشوّه العمل. بعد 38 عاماً من العرض، من الصعب أن تتعرّض المسرحيّة للتشويه.
قد تدخل إلى القاعة، وقد لا تدخل. قد تفضِّل مشاهدة الفيلم، وقد لا تفضِّل. لكنّك إن فعلت، ستدخل إلى هناك. ستُبقي عينك على الشاشة. تلك المشوَّهة الصُور. ستحاول ألاّ يفوتك تفصيلٌ في مشهد. ستضحك للعبارات. ستردِّدها مع اللقطات. ستتفاجأ عندما تظهر شخصيّة عكس التي رسمتها في مخيّلتك. قد تقول: «آآ أنور (أنطوان غرزوزي) مش ناصح؟». ستبتسم عندما تصيب الشخصية التي أمامك الرسم الذي في مخيّلتك. ستشعر بحنين. ذاك الحنين الذي يكرهه النقّاد. ذاك الحنين الذي يعتبرون أنّه يتعارض مع «الفنّ الأصيل». عندما تخرج، ستسمع صوتاً مألوفاً للغاية. ستلتفت إلى مصدر الصوت. سترى رجلاً كبيراً في السنّ يتحدّث بفرحٍ عن العمل. أليس هذا الخواجة عدنان؟ أليس «ستيريو»؟ ستسأله عن اسمه. سيُعرّف عن نفسه على أنّه «أرمني لبناني». وعندما تلحّ بالسؤال، سيقول: «خازاروس ألطونيان».
لا أحد فوق النّقد. زياد أحدهم. لكن، صبّوا النقد عليه في مكانٍ آخر. «بالنّسبة لبكرا شو؟» بعد 38 عاماً لا تحتمل النّقد. أمّا زياد، فسوف يبقى دائماً «رجل الصّوت». سوف يبقى دائماً صاحب العالم المسموع.
عن موقع جريدة السفير اللبنانية
صدر العدد الأول من جريدة السفير في 26 آذار 1974، وكانت ولا تزال تحمل شعاري “صوت الذين لا صوت لهم” و “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
اليوم، وبفضل تقنيات الاتصال الحديثة والإنترنت، تخطت السفير مصاعب الرقابة والتكاليف الباهظة للطباعة في الخارج وتمكنت من الوصول إلى قرائها في القارات الخمس.
تتضمن صفحات السفير الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
وتتولى تغطية الأحداث اليومية مجموعة صحفيو السفير ومراسلوها في واشنطن وباريس ولندن والقاهرة وفلسطين ودمشق وعمان وموسكو وروما وبون، مستعينون كذلك بالخدمات الإخبارية التي توفرها وكالات الأنباء العالمية.
لقراءة المزيد
زياد الرحباني يعود بشخصية «زكريا» سينمائياً
الجمعة، ١٥ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الحياة
عبده وازن
ليس انتقال مسرحية زياد الرحباني «بالنسبة لبكرا شو؟» من خشبة المسرح إلى السينما بعد نحو خمسة وثلاثين عاماً على تقديمها، مجرد استعادة لعمل مسرحي يُعد بمثابة حدث فني كبير، بمقدار ما هو أيضاً استرجاع لزمن يمكن تسميته زمن زياد الرحباني، الذي يختصر زمن بيروت الحرب الأهلية وزمن الأفكار الثورية واليسار... كانت هذه المسرحية حدثاً في تاريخ الرحباني الابن وفي تاريخ المسرح اللبناني الحديث وفي ذاكرة اللبنانيين على اختلاف مشاربهم السياسية و»المناطقية». كان زياد حينذاك، بعد اندلاع الحرب الأهلية، قد هجر ما كان يسمى المنطقة الشرقية وتحديداً انطلياس ليلتحق بصفوف اليسار في المنطقة الغربية، وهذا الانتقال خلق حالاً من العداء ضده في المناطق الشرقية كلها ووصف بـ»الخيانة» وراجت بضع أغان تسخر منه ومن اليسار الذي انتمى إليه. ولكن ما أن قدم زياد مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» واخترقت شرائطها المسجلة خطوط التماس لتنتشر في كل المناطق، حتى تمت حال من المصالحة ولو «شكلياً» بينه وبين مناطق اليمين المسيحي الذي اضطهده. راجت المسرحية وأغانيها و»قفشاتها» البديعة ونكاتها بسرعة ومال إليها جيل الحرب ثم الأجيال التي أعقبته وصار زياد نجماً في الشرقية كما في الغربية وسائر المناطق اللبنانية.
فتحت هذه المسرحية الأبواب أمام زياد ليصبح نجماً شعبياً وفنياً وسياسياً، نجماً حقيقياً، ملتزماً وصاحب مشروع شامل. وسرعان ما تكمنت، بطرافتها وسخريتها والتزامها ووضعها الأصبع على الجروح اللبنانية من أن تحفر نفسها في ذاكرة اللبنانيين ووجدانهم، وبات الكثيرون يرددون مقاطع منها غيباً.
وعلى رغم الأعوام التي مضت عليها والظروف أو التحولات التي طرأت على الساحة اللبنانية، ظلت هذه المسرحية حية في الأوساط كافة، ولدى الأجيال كافة، مع أن الكثيرين لم يشاهدوها على الخشبة بل استمعوا إليها وأدمنوا الاستماع عبر الشرائط والكاسيتات وسعى بعض المخرجين إلى تقديمها في اقتباس حر جراء راهنيتها الدائمة ومخاطبتها المراحل اللبنــانــية المتعـــاقبة، بمشاكلها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
نجحت شركة «ميركوري»، ذات التطلعات الميديوية الحديثة، في إقناع زياد الرحباني بهذه الخطوة بعد مفاوضات طويلة وشاقة. وخرجت المسرحية إلى الضوء. لكن زياد غاب عن الاحتفال الضخم والباذخ (المبالغ به والبعيد عن روح المسرحية الملتزمة) الذي أقامته الشركة لمناسبة تقديم العرض الأول للفيلم، فهو يعيش في حال من العزلة الحقيقية خارج بيروت، والاتصال به يتم عبر أحد أصدقائه. وكان مؤلماً حقاً أن تحتفل النخب اللبنانية بهذا العمل وسط غياب تام للعائلة الرحبانية الصغيرة (فيروز، زياد وريما).
نجحت الشركة في ترميم الشريط الذي كانت صورته شقيقة زياد الراحلة ليال تصويراً هاوياً وغير احترافي عبر كاميرا واحدة غير ثابتة (على الكتف) لهدف إخراجي بحت. شاء زياد أن يراقب الخشبة والشخصيات والممثلين عبر الكاميرا لأنه يُخرج المسرحية ويمثل فيها في آن واحد، مؤدياً شخصية رئيسة، وهذا ما لم يسمح له بمراقبة المشاهد كلها من خارج.
الشريط الأصلي احتفظت به ريما الرحباني ونام في الأدراج سنوات طويلة حتى تم إيقاظه. وبذلت الشركة أقصى ما أمكنها من جهود في لبنان والخارج لتصلحه وترممه وتعيد نسجه بصرياً وتقنياً ليصبح جاهزاً للعرض ليس بصفته فيلماً وأنما مسرحية مصورة تصويراً هاوياً. طبعاً النسخة التي شاهدها الجمهور وسيتم الإقبال عليها شعبياً بغزارة، (ما سيدرّ أرباحاً مهمة بعد الإشاعات التي ترددت حول مبلغ كبير تقاضاه زياد) ليست جيدة من الناحية التقنية وهذا طبيعي، لكنها مقبولة جداً. وهي تتيح للأجيال المتعددة التي لم تشاهد المسرحية وأدمنت سماعها صوتياً، أن تتمتع بها وتبصر نجمها زياد يؤدي أحد أطرف أدواره الكومي- تراجيدية (زكريا البارمان) وتستمع إلى المغني الرائع جوزف صقر (رامز القروي) يؤدي أجمل الأغنيات مثل «اسمع يا رضا» و«عايشي وحدا بلاك» و«ع هدير البوسطة»... علاوة على مشاهدة المسرحية شبه كاملة ولكن متقطعة بحسب حركة الكاميرا.
وبدا ملاحظاً كم أن الجمهور خرج فرحاً ومسروراً بالمسرحية- الفيلم، فهي أيقظت لدى بعضه حالاً من الحنين والنوستالجيا إلى ذاك الزمن الذي مضى ولم يمض، زمن الحرب الأهلية التي انتهت ظاهراً ولم تنته في العمق، وأثارت لدى بعض آخر ذكريات شخصية وربما حزبية، أيام كان اليسار في عز نهوضه ومشروع التغيير حلماً جميلاً ما لبث أن سقط لاحقاً في حفرة الأوهام.
ما زالت مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» راهنة جداً ويمكن تقديمها كما هي، بأفكارها ومواقفها ونصها. تغيرت أمور كثيرة في لبنان وتبدلت مواقع الصراع وطرأ ما لم يكن متوقعاً، لكنّ القضايا التي تعالجها المسرحية ما زالت مطروحة بإلحاح. الفقر الذي دفع زكريا وزوجته ثريا (نبيلة زيتوني) إلى التخلي عن كرامتهما قسراً ما زال يزداد إدقاعاً، الهجرة إلى الخليج وسواه من بلدان العالم ما برحت تجذب أعداداً كبيرة من الشباب، السمسرة والفساد والتزوير بلغت كلها سقفاً لم تعرفه من قبل... أما لبنان «الحانة» فأصبح حانات، سياسية وليلية وبارات ونوادي ملتبسة، على رغم الدعوات الأصولية التي تهدد حريته. هذا لبنان الحانة التي تختلط فيها الشخصيات واللغات والأمزجة والأفكار والنماذج حتى لتغدو أشبه ببرج بابل لا يفهم فيها أحد على أحد... الخواجة عدنان صاحب الحانة الذي يعمل في السمسرة (غازاروس الطونيان)، مسيو أنطوان مدير الحانة (بطرس فرح)، الطباخ نجيب الذي تخونه خطيبته (رفيق نجم)، أستاذ أسامة الشاعر العبثي الذي يلقي القصائد علانية (فايق حميصي)، الغرسون رضا (سامي حواط)، القبضاي أنور (أنطوان غرزوزي) والدركي (فيصل فرحات) والصحافية الفرنسية كريستين والزبائن الأجانب الذين يبحثون عن ساعة لذة مع ثريا زوجة رضا في عمل إضافي أو «براني»: هارولد (زياد أبو عبسي) وجايمس والإسباني والبلجيكي والفرنساوي والأميركي...
إنها مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» إحدى أجمل مسرحيات زياد، بل المسرحية التي تجسد منطلقات مشروعه المسرحي والفني. إنها العمل الأشد احترافية بعد مسرحيتي «سهرية» التي أنبأت بموهبة زياد الكبيرة، و «نزل السرور». وهي كانت منطلقاً نحو الاحتراف الحقيقي الذي تجلى لاحقاً في أعماله المعروفة. أفصحت هذه المسرحية عن هوية زياد الموسيقية والتلحينية، وعن براعته في نسج الحوارات الساخرة واللامعة واللعب على العبارات الشعبية وإدراجها في سياق كوميدي واختلاق تعابير هي زيادية بامتياز، أخذها عنه جمهوره الكبير وراح يرددها بظرافة.
في هذه المسرحية بدأ طموح زياد إلى إنجاز مسرحه «الملحمي» سواء عبر النص أم الخشبة، ولكن بعيداً عن النظريات المسرحية الحديثة (برتولت بريشت وسواه) التي لم يعرها أصلاً اهتماماً واضحاً. وعلى رغم الجو الكوميدي الساخر الذي يهيمن على المسرحية، شاء زياد أن يختتمها درامياً، جاعلاً البارمان زكريا يثور على نفسه وواقعه والذل الذي يعيشه مع زوجته، فيرتكب محاولة قتل تنتهي به في السجن. لكنّ المأساة تترافق هنا مع موقف عبثي (عبثية زياد)، فزوجته تعود إلى عملها أي إلى بؤسها الذي لا مفر منه.
لا بد من إلقاء تحية إلى الفنان الكبير غازي قهوجي الذي رحل أخيراً فهو تولى تصميم الديكور والسينوغرافيا والملابس بذائقته الجمالية العالية، وكذلك إلى ليال الرحباني التي رحلت باكراً، فلولاها لما تم إنقاذ المسرحية من النسيان، وهي كانت تستحق أن يدرج اسمها في الكراس الذي وزع في الاحتفال.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.
بالنسبة لبكرا شو ؟ رائعة زياد الرحباني تنبعث على الشاشة
العدد ٢٧٤٨ الثلاثاء ٢٤ تشرين الثاني ٢٠١٥
جريدة الأخبار
ادب وفنون
أخيراً، سيتمكّن اللبنانيون، وخصوصاً الشباب، من مشاهدة العمل الذي يعدّ من أهم ما أنتجه المسرح اللبناني. «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978) ستُعرض في الصالات السينمائية ابتداءً من كانون الثاني (يناير) بمبادرة من شركة M media، في خطوة تشكّل ربما فاتحة لعرض أعمال زياد كلها على الشاشة الكبيرة.
زينة حداد
منذ 35 عاماً، بقي السؤال من دون إجابة: هل صوّر زياد الرحباني مسرحياته ؟ حفظ جمهور الفنان اللبناني أعماله عن ظهر قلب، بعدما سمعها كتسجيل صوتي من دون أن يتمكّن من رؤيتها، حتى أجمع كثيرون على أنّ زياد ارتكب خطأً كبيراً بعدم تصوير تلك الأعمال.
لكن المفاجأة أن شركة M media نشرت أخيراً خبراً على موقعها الإلكتروني تؤكّد فيه أنّ مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978) ستُعرض قريباً في صالات السينما. وأكّدت أن المسرحية أصلية، وستُعرض كاملة بنسختها الأولى التي عرضت في منتصف السبعينيات. لا تزال المعلومات المسرّبة عن هذا العرض شحيحة، غير أن «الأخبار» تأكّدت من أن المسرحية وصلت فعلاً إلىM media بعد مفاوضات استمرت سنوات، لكنها تطلّبت الكثير من العمل في لبنان وخارجه، لترميم الأشرطة وتحسينها، ولا سيما أن المسرحية لم تصوّر للعرض بل للاستخدام الداخلي فقط، ما تطلّب جهداً تقنياً لتُصبح صالحة للعرض. ورفض المصدر تأكيد أو نفي ما إذا كانت الشركة قد حصلت على تسجيلات بقية المسرحيات، وعلى رأسها «فيلم أميركي طويل» و«نزل السرور».
وأوضح المصدر أن M media شركة تتضمّن موقعاً إلكترونياً يهدف إلى «إعادة تجميع الأعمال الثقافية اللبنانية أو المتعلّقة بلبنان، بما فيها المسرحيات والكتب والموسيقى وبعض الأعمال الخاصة التي تتولى «ام» إنتاجها بنفسها، ما سيشكّل البوابة الرئيسية للثقافة اللبنانية أونلاين»، علماً بأن الموقع صار متوافراً أونلاين ويعتمد على تفاعل المشاهدين وطلباتهم لاختيار مواده وتحديثها. وسيتمكّن المشاهدون من الاطلاع على المواد عبر موقع M media من خلال التسجيل أو الاشتراك مع مجموعة من الحزمات المجانية والمدفوعة. وتنتمي M media إلى مجموعة «كوانتوم» التي يرأسها إيلي خوري، وتضمّ كذلك شركة «أم أند سي ساتشي» وموقع «ناو» وغيرهما من الشركات المتعلّقة بالإعلام والتواصل.
وأكّد المصدر أن المسرحية ستُعرض في شهر كانون الثاني المقبل (يناير)، وأن الشركة ستعلن تفاصيل العروض قريباً، متوقعاً أن تشكّل حدثاً ثقافياً ضخماً، وخصوصاً أنّ المسرحية التي تقارب موضوعاً اجتماعياً/ اقتصادياً من خلال زوجين يعملان في أحد المقاهي في بيروت، تعدّ من أهم ما أنتجه المسرح اللبناني. فهي تنتمي إلى المسرح الواقعي الذي أسسه زياد واتسم بعفوية وصراحة بالغتين، فضلاً عن كونها جسّدت هواجس اللبنانيين بعيداً عن الكليشيهات والتصنّع، وهو ما كان طاغياً على المسرح آنذاك.
وتقدّم المسرحية رؤية موضوعية عن الصراع الطبقي في لبنان، ووقوع المواطن اللبناني ضحية المجتمع الاستهلاكي وضرب مبدأ التوازن الإنمائي واتكال الاقتصاد على قطاع الخدمات حصراً، وتأثير ذلك في الناس الذين يبدأون بخوض معركة البقاء ولو على حساب مبادئهم وكراماتهم.
المسرحية التي تبقى راهنةً أكثر من أي وقت مضى، تتحدث عن الثنائي زكريا (زياد الرحباني) وثريا (نبيلة زيتونة) اللذين يتركان الريف للعمل في حانة في الحمرا لتحسين أوضاعهم المعيشية. لكن الثنائي يصطدمان بالغلاء المعيشي الفاحش وصعوبة البقاء، فتضطر نبيلة للخروج مع الزبائن بعلم زوجها، لتتمكّن من تلبية حاجات عائلتها، فيبدأ الصراع الكبير مع الذات، ما يؤدي إلى نتائج كارثية.
«بالنسبة لبكرا شو؟» قريباً في السينما وفق M media، لكن ماذا عن بقية المسرحيات، فهل سنراها أيضاً في الصالات قريباً؟ وحدها الأيام كفيلة بإثبات ذلك في ظلّ أخبار ترجّح ذلك.
لمشاهدة الرابط انقر هنا
عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية
مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية - يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا