العدد ٢١٢٧ الجمعة ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٣
جريدة الأخبار
ثقافة وناس : نجوم
أغنيات «أكتوبر»: الموهوبون قالوا كلمتهم... ورحلوا
أرادت أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر أن تستمر في استلهام الشرعية السياسية من «انتصار أكتوبر». ورغم أنّ الرصاص توقف على الأرض، بقيت «الشرعية الغنائية» التي تتجسد سنوياً على المسارح !
محمد خير
القاهرة | قبل رحيله بأشهر، كشف الشاعر المصري أحمد شفيق كامل عن أبيات جديدة ظل يضيفها إلى أغنيته «وطني الأكبر». بعد سنوات طويلة من غناء وتصوير الأوبريت الشهير، كان الشاعر لا يزال يكتب قصيدته كأنه لا يريدها أن تنتهي. لكن الأغنية الوطنية الأخيرة لكامل كانت بعد أشهر على وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973، وهي «خللي السلاح صاحي» (ألحان كمال الطويل)، بعدها، ولمدة أكثر من 30 عاماً، لم يكتب الشاعر أي أغنية وطنية، واكتفى بأغنيات صوفية ودينية متنوعة في سنواته الأخيرة. يمكن فهم توقف أغنيات الحرب لدى كامل، بتوقف الحرب، وكذلك، ارتباط الأغنيات الوطنية الأهم، بفترات الصراع الكبرى، منها «حكاية شعب/ هانبني السد العالي» لشفيق كامل والطويل أيضاً، أو أغنيات «النكسة»، كـ«عدى النهار»، «المسيح» وكلاهما للأبنودي مع بليغ حمدي، ثم الأبنودي مع الطويل مواكبَين حرب الاستنزاف في «أحلف بسماها وبترابها»، أو بليغ مع عبد الرحيم منصور في «بسم الله» التي واكبت العبور. من خلال تلك الأمثلة العابرة، يمكن ملاحظة تكرار أسماء بعينها، وانسحاب تدريجي لأسماء أخرى، كصلاح جاهين الذي رافق كمال الطويل في ذروة المد الناصري، وقدم معه أشهر أغنياتهما ـــ الوطنية ـــ وهي «صورة»، قبل أن ينكسر جاهين مع النكسة التي لم يعالجه منها «العبور»، بل بدأ في مراجعة الحلم برمته.
مراجعة تجلّت في سيناريو وحوار وأغنيات تجربته مع يوسف شاهين في «عودة الابن الضال» (1976).
غير أن ما يجمع الأسماء السابقة، الحيّ منها والميت، الذي واصل والذي توقف والذي راجع، أنّها جميعاً كانت ابنة التجربة/ التجارب التي أنتجت ـــ أو واكبتها ـــ تلك الأغنيات. ابنة أجيال معارك الاستقلال الوطني الذي يناسبه الغناء «الوطني» والذي يجمع الوطن في جعبة واحدة لمواجهة أو تحدي تهديد خارجي. ورغم أنّ «أكتوبر» كانت «آخر الحروب» كما أعلن ـــ أو قرّر ـــ السادات، إلا أن الدولة طمحت إلى أمرين متناقضين، هما: وقف المعارك والاستمرار في صنع أغانيها.
ولا صعوبة في استنتاج السبب في هذا الطموح المتناقض. فقد أرادت أنظمة الحكم المتعاقبة (وهي في الواقع استمرار للنظام نفسه) أن تستمر في استلهام الشرعية السياسية من «الانتصار». ولأنّ الرصاص قد توقف على الأرض، فلم يعد مجال سوى في الشرعية الغنائية التي تتجسد سنوياً على مسارح احتفالات النصر.
ولأنّ لكل شيء عمره الافتراضي، فقد «أوبريت أكتوبر» السنوي رونقه بمرور الزمن، تماماً كما فقدته فوازير رمضان ومسلسلات «ألف ليلة وليلة»، وللأسباب نفسها: تغيّر العالم وانفتح، وتعددت وسائل الاتصالات. الأجيال التي تتصل بعالمها عبر الإنترنت، اختلفت كثيراً عن الأجيال التي استمعت إلى أخبار الحرب (أو المسلسل) عبر الراديو أو قنوات التلفزيون الرسمي، ولم يعد ثمة جهة واحدة يمكنها أن «تعبئ» الأجيال الحديثة، بغض النظر عن مدى نبل أو سوء نوايا تلك التعبئة، إلا أن المشكلة الأهم تبقى فنية في الأساس، فالاحتفال التكراري في مناسبة ـــ صارت قديمة ـــ يحوّل الفن إلى رياضة ذهنية، ويحوّل اللحظة الإبداعية من لمحة لا يمكن سبر أغوارها إلى طابور بيروقراطي، يمكن لمن يلحق به هذا العام أن ينتظر إلى العام المقبل والذكرى المقبلة.
وإن كان يمكن مناقشة نجاح أغنيات عبد الحليم حافظ أو وردة أو أم كلثوم، من خلال موهبة صناعها ومؤدّيها، أو من باب عيش التجربة والتأثر بها، فإن احتفالات «أكتوبر» في عيدها الأربعين، تضع صانعيها ـــ ولو امتلكوا الموهبة ـــ أمام مهمة غير عقلانية في أكثر الأوصاف تهذيباً. كيف يمكن لفرد أن يتأثر إلى حدّ الفن، بتجربة وقعت قبل أن يولد، أو قبل أن يُدرك؟ وما الذي يمكن أن يميّز عملاً فنياً أنتج في الذكرى السابعة والعشرين ـــ على سبيل المثال ـــ عن العمل المصاحب للذكرى الثامنة والثلاثين؟
ليس غريباً أنّ الأغنيات «الوطنية» الحديثة التي تعالج أحداثاً من «ماضي» الوطن، لا تملك قصصها الخاصة، كتلك اللواتي تزخر بها ذاكرة الفن، كالأمر الرسمي لإنتاج «صورة»، أو اعتصام بليغ حمدي أمام الإذاعة لتسجيل «بسم الله»، الأبيات السرية في «وطني الأكبر»، أو حتى حزن شريفة فاضل في «أمّ البطل».
يؤسّس العمل الفني على الموهبة، أو التجربة، ويفضّل أن يجمع الأمرين. وبعد عشرات السنين من آخر المعارك «الوطنية»، فإنّ الموهوبين قد قالوا بالفعل كل ما لديهم بخصوصها، وكل ما يستجدّ عن الماضي ليس سوى ملء فراغ البث التلفزيوني.
يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر
عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية
مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية - يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا