نور الشريف وشخصيات نجيب محفوظ : من كمال عبد الجواد حتى عاشور الناجي… الرحلة التي بدأت بالتساؤل وانتهت بالاختفاء

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون - العدد 8203 السبت 22 آب (أغسطس) 2015 - 7 ذو القعدة 1436هـ
القاهرة - «القدس العربي» - محمد عبد الرحيم


قدّم الفنان (نور الشريف 28 أبريل/نيسان 1946 ــ 11 أغسطس/آب 2015) طوال مسيرته الفنية، التي بدأت منتصف ستينيات القرن الفائت، وحتى هذا العام ما يقرب من 187 فيلما سينمائيا، 12 عرضا مسرحيا، و33 مسلسلا تلفزيونيا. وهو عدد كبير من الأعمال، إضافة إلى أنه واكب التطورات السياسية والاجتماعية في مصر والوطن العربي.

وبالطبع لم يكن هذا العدد من الأعمال على المستوى نفسه، لكن بعضها كان صاحب التأثير الأكبر في تطور الوعي السينمائي المصري. ولم نستطع الإحاطة في مقال بما قدمه نور الشريف من أعمال، وسنقتصر على تجربة الفنان في تجسيد شخصيات (نجيب محفوظ 11 ديسمبر/كانون الأول 1911 ــ 30 أغسطس 2006)، لما لها من ثقل في استقراء الحالة المصرية سياسياً واجتماعياً، كذلك أن نور الشريف من أكثر الفنانين الذين جسدوا أعمال محفوظ على شاشة السينما أو التلفزيون. ونكاد نقترب من مسيرة كتابات محفوظ من خلال ما أداه نور الشريف من أدوار، التي بدأت بشخصية «كمال عبد الجواد» في الثلاثية، وانتهت بشخصية «عاشور الناجي» في ملحمة الحرافيش. من الممكن اعتبارها رحلة… بدأت بالتساؤل وانتهت بالوعي، الذي اتخذ صورة لغز الاختفاء، وبالتالي الانتظار الدائم لهذا المُختفي الحي. وهذه الأفلام حسب ترتيبها الزمني… «قصر الشوق» 1966 إخراج حسن الإمام/ «السراب» 1970 إخراج أنور الشناوي/ «السكرية» 1973 إخراج حسن الإمام/ «الكرنك» 1975 إخراج علي بدرخان/»الشيطان يعظ» 1981 إخراج أشرف فهمي/»أهل القمة» 1981 إخراج علي بدرخان/»المُطارَد» 1985 إخراج سمير سيف/»وصمة عار» 1986 إخراج أشرف فهمي/»أصدقاء الشيطان 1988أحمد ياسين/»قلب الليل» 1989 عاطف الطيب/مسلسل السيرة العاشورية (الجزء الأول) 2002 إخراج وائل عبد الله.

كمال ودين الحُب

بدأ الفنان نور الشريف الدخول إلى عالم نجيب محفوظ بالمشاركة في فيلم «بين القصرين»، الجزء الثاني من ثلاثية محفوظ الشهيرة، وقام بتأدية دور «كمال عبد الجواد»، الذي تأكد أكثر في الجزء الأخير من الثلاثية وهو فيلم «السكرية». وحسب نقاد الأدب، فإن هذا الدور فيه الكثير من شخصية محفوظ نفسه أيام المراهقة والشباب. هنا كانت الشخصية لم تزل تدور حول عالمها الشخصي، وأصبحت لا تعيش إلا في ذمة تاريخها ــ وقد مسّها الحب ــ تشهد الانهيارات التي تحدث حولها، بينما هي مجرد شاهد على الأحداث، لا تستطيع التواصل، بينما العالم يتغيّر حولها في سرعة، فلا هيبة الأب كما كانت، والتغيرات الاجتماعية طالت الجميع، والجيل الجديد قادر على اتخاذ خطوات حقيقية، وإنتاج صيغة للحياة، امتنعت عن «كمال». حالة مزمنة من الحيرة والاستسلام، مهما حاول عقله خلق العالم على هواه، كمال كان يحيا في روايته الخاصة ــ وثن محبوبته ــ من دون الشعور بالعالم من حوله، توقف به الزمن عن اختيار، فهو الوحيد الذي لم يستطع نفسياً تجاوز عتبة طفولته. من ناحية أخرى يبدو كل من الفيلمين تجسيداً للواقع المصري قبل يوليو/تموز 1952، الوضع السياسي والاجتماعي، والتنظيمات السرية، ووضعية الرجل والمرأة، عالم كامل حفظته ثلاثية محفوظ، وجعلت من شخصية كمال الشاهد الوحيد والأخير على عالم ينتهي، لابد من تجاوزه.

قدّم نور الشريف تجربة من أهم التجارب السينمائية من حيث التأثير على المُشاهد المصري، بغض النظر عن المستوى، وتمثل ذلك في فيلم «الكرنك»، الذي يستعرض تأثير التجربة الناصرية على جيل يوليو، وتحييد الجيل السابق، ذلك الجيل الذي وضع بالمتحف، بينما جيل يوليو مكانه السجون والمُعتقلات. فشخصية إسماعيل التي جسدها نور الشريف، الذي تعلم وأصبح طبيباً في ظل نظام يوليو، دفع اعتباطياً الثمن، من تعذيب وعماله للأمن، وفق نغمة التهديد الدائم للدولة وأحلامها، هذه السخافات التي انتهت بهزيمة يونيو/حزيران 1967. قيمة الفيلم هنا لا تأتي من مستواه الفني، فالمباشرة كانت سِمته، والتهليل لعصر السادات كان واضحاً تماماً، إلا أن القيمة تأتي من شهرة الفيلم وتأثيره الكبير على المُشاهد كما أسلفنا. حتى أن العديد من الأفلام التي قدّمت بعد ذلك، اصطلح على تسميتها بموجه أفلام (الكَرْنَكَة)!

الانفتاح وانهيار القيم

تأتي بعد ذلك شخصية «زعتر النوري» في فيلم «أهل القمة»، الذي يمثل صعود فئة اللصوص، ليصبحوا هُم مَن يمثلون المجتمع، ليسير وفق تقاليدهم وقيمهم. لص قديم أصبح يمتلك كل الوسائل والرؤى التي تمكنه من مواجهة ضابط الشرطة الشريف، حتى أنه يرتبط بابنة أخت الأخير، رغم علم الجميع بتاريخه المشبوه. هذه الفئة التي تمت صناعتها والحفاظ عليها في ظل قوانين فاسدة، وبالتالي خلق حياة أفسد. فالمفاهيم تباينت تماماً وانقلبت، ليصبح اللص هو مَن يقود ويهيمن على مقدرات ضابط الشرطة، مع التشديد على صفة الشرف، التي لا يملك الضابط سواها!

الحرب الباردة في ظِل الفتوات

جسّد نور الشريف شخصية «شطا الحجري» في فيلم «الشيطان يعظ»، الحالم بالفتونة، ويريد أن يصبح أحد أتباع فتوة الحارة الكبير/الديناري. لكن الفتوة يؤهله لمهمة يشعر معها شطا بالعار، بأن يراقب فتاة يريد الديناري الزواج منها، فيحبها شطا، ويتزوجها ويهرب بعيدأ عن سُلطة الديناري. فيصبح هروبه جحيماً بأن يقع في عالم فتوة آخر/الشِبلي، الذي يغتصب زوجته أمام عينيه! لم يع شطا اللعبة وقواعدها، فالهرب من جبروت الدب الروسي، أوقعه في جحيم فتوّة العطوف/الولايات المتحدة، ليحمل العار على وجهه من ضربات وتشويه، وفي لحظة انتقامه يكون الموت نهايته. الفيلم يشي برموزه في سهولة، وعقد المقارنات محتوم، لكنه مُعبّر تماماً عن اختيارات سياسية وتبعاتها على مصر.

الوعي الفلسفي والاجتماعي

وضمن مسيرة نور الشريف في تجسيد شخصيات نجيب محفوظ، التي ناقشت مسألة الوجود والوعي بالمصير نجد أعمال مثل .. «وصمة عار» و»قلب الليل». ففي «وصمة عار» يُعيد نور الشريف تجسيد شخصية صابر في فيلم «الطريق» المأخوذ عن رواية محفوظ، تحت اسم «مُختار»، وهو فيلم يعالج فكرة فلسفية في المقام الأول، عن طبيعة وماهية وجود الإنسان، وهل مستقبله في أن يعمل ويُشكّل مصيره بيده، أم ينتظر الحل القدري الهابط من السماء، هذا التردد واختيار أسهل الحلول، جعل من بطل الفيلم في النهاية مجرد قاتل يُحكم عليه بالإعدام.

فطوال الفيلم لا يجد مختار معنى حياته إلا بالوصول إلى أبيه، والعيش من خلاله، متمثلاً الثروة والنسب الجليل. لم يعثر صاحب «الطريق» في الرواية أو الفيلم على الأب، لكن في وصمة عار قابله في لحظة فارقه.. لحظة موته، وقد رآه يمثل «عشماوي» الرجل الذي يقوم بتنفيذ أحكام الإعدام بشنق الجناة. فسيجده في الموت، وهو تفسير أو توضيح للرواية بشكل ما.

ونأتي إلى فيلم «قلب الليل» الأجرأ في ما كتبه نجيب محفوظ ــ مقارنة بـ»أولاد حارتنا» ــ وما قام به نور الشريف من أدوار، وهو عن شخص يحاول البحث عن وجوده، بعيداً عن سُلطة مُطلقة يمثلها جده «الراوي الكبير»، مُقتدياً بأبيه، الذي دفع ثمن اختياره، ليصبح هذا الأب ــ طريد جنة الجد ــ أحد ضحاياه، والمثل الأعلى للحرية، التي يبحث عنها الحفيد (جعفر)، فيدفع ثمن ذلك بدوره ــ عصيان الأمر ــ سنوات من الشقاء والعذاب، لكنه يعرف قيمته جيداً، ويظل هو الوحيد رغم بؤسه القادر على تحدي سلطة هذا الجد، وكما قالها (جعفر) بطل الرواية والفيلم … «إني أتمرّغ في التراب، ولكنني هابط في الأصل من السماء».

المُختفي الحي

لم تكن شخصية «عاشور الناجي» التي جسدها نور الشريف في مسلسل «السيرة العاشورية» ــ الجزء الأول منها، التي صاغها بوعي شديد كاتب السيناريو محسن زايد ــ مجرد شخصية مؤسِسَة للحكاية، أو ملحمة الحرافيش التي أطلق عليها محفوظ هذا الاسم. فالشخصية تتماس وشخصية الأنبياء والأولياء، من دون الانتقاص من إمكانية ارتكابها الأخطاء، لما تحمله من طابع إنساني، بعيداً عن هالات التقديس أو متاهات التقديس التي تحيط بالشخصيات الدينية.

التقديس هنا يأتي من تجربة عاشور الناجي ــ الوحيد الذي نجا من الوباء وعاد سليماً ــ الحِس الأسطوري المتمثل في ميلاد عاشور ــ لقيط لا أب ولا أم له ــ ونجاته بعد ذلك، وتأسيسه لقواعد العدالة بالحارة، وتمتعه بالثروة والأبناء، مسيرة من الأهواء والرغبات، الصواب والخطأ، حياة إنسانية حافلة، استطاعت أن ترسي قواعد العدالة بين الناس، وأن تتحدى سلطة أصحاب الثروة. ليمثل منظومة القيم في حياة مخاليق الله بالحارة، فهو الأساس وهو المنتهى. وكما جاء مُصادفة، اختفى، فلا عُثر له على جسد، ليصبح فكرة تراود الجميع، وكلما ضاق بهم الحال يتذكرونه، ويحاولون التمثل والاقتداء بتعاليمه، حتى يحيون حياة إنسانية تليق بهم.

ومن خلال هذه الشخصيات المتباينة، وحيواتها الأكثر صعوبة بأن تبدو من خلال الممثل، نجد إلى أي مدى نجح نور الشريف في تجسيدها، بموهبة شديدة ووعي أشد.

نور الشريف وشخصيات نجيب محفوظ: من كمال عبد الجواد حتى عاشور الناجي…الرحلة التي بدأت بالتساؤل وانتهت بالاختفاء

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)