معنى الموسيقى ومعنى اللحن

, بقلم محمد بكري



جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون ـ العدد 8428 الجمعة 8 نيسان (ابريل) 2016 ـ 1 رجب 1437هـ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي


الحس والخيال والعقل


يرى الفيلسوف الفارابي أن «الألحان وما يُنسب إليها هي من الأشياء التي تُحسّ وتُتخيل وتعقل». والعالم الفارابي الذي لم يترك جانبا من الموسيقى إلا أشبعه علما وتفسيرا، في شرحه لماهية اللحن، ركز على الإحساس والخيال والعقل، أي أنه ركز على جسد الإنسان بأكمله، ولربما كتب كثير من الفلاسفة والمفكرين حول معنى الموسيقى ومعنى اللحن، غير أن الفيلسوف الفارابي استطاع بجملة صغيرة أن يشمل الموسيقى ليس بالجسد فحسب، بل بحياة الجسد أيضا وبالروح التي تسكنه.

التخيّل جزء رئيس من عمل الجملة الموسيقية، فالموسيقى التي لا تحمل الخيال بين مفرداتها تصبح مجرد أنغام متراكمة قد تحرك الجسد لكنها لن تستطيع أن تبلغ مرتبة تحريك العقل والخيال. الألحان الموسيقية التي تستطيع ان تستوفي شروط الفارابي هي الألحان التي تبقى وتستمر لأنها ببساطة متناهية تعدّ عملا متكاملا، تبني حياة داخل الجسد، وتعيد ابتكار مسميات جديدة للأشياء، وترسم ملامح جديدة لشكل الإنسان، وقد يرى فلاسفة آخرون أن الموسيقى هي رحلة تصوف مع الخالق بطريقة أكثر صفاء، ويكتفون بدورها هذا، لكن الموسيقى تحمل في طياتها أجنحة لا متناهية بوسع الإنسان أن لا يكتفي من خلالها بالتحليق فقط، بل يرى الدنيا كلها من الأعلى فيختار بحواسه وعقله التفاصيل بطريقة مختلفة، ليست هي تلك التي قرأ عنها أو رآها عابرة في مشهد سينمائي أو برنامج تلفزيوني.

بوسع الخيال أن يستفز العقل بواسطة الموسيقى ليؤنسن الجماد من حوله، وليفكر بها مليا بطريقة مختلفة. الأشخاص الذين يتعايشون مع الموسيقى بطرق خلاقة، سواء أكانوا موسيقيين أو مستمعين مبدعين يستطيعون أن يحركوا الموجودات التي حولهم ويستنطقونها ويعيدوا إليها الحياة بعد أن تكون قطعة من الجماد، فالزهرة التي توجد في مكان يصدح بالموسيقى تصبح أكثر صحة وشفافية من زهرة أخرى متروكة في إناء في حجرة لا يصلها صوت الموسيقى.

لكن هل تحتاج الموسيقى إلى دليل كعنوان على سبيل المثال حتى تُعرف عن نفسها؟ هل تحتاج إلى وثيقة تشرح حركاتها ومعانيها؟ الإجابة هنا قد تتخذ أوجها متعددة، فالعنوان أحيانا يقودنا إلى منطقة أخرى في إعمال الخيال والعقل ليست بالضرورة هي المقصد الذي كانت الموسيقى وحدها ستأخذنا اليه. كما أن العنوان في حد ذاته قد يلفت النظر إلى منطقة أو اتجاه ما كان المستمع سيذهب إليه وحده، وفي الحالتين فإن العنوان قد يُشكل ضرورة لفهم العمل الموسيقي والولوج إلى تعابيره القصوى، وهذا لا يعني إطلاقا أن على المستمع أن يقيّد خياله بالعنوان وحده، فبإمكانه أن يترك العنوان جانبا وأن يطلق لخياله التحليق في منطقة أوسع من ذلك، أو مختلفة عنه.

لنقل أن العنوان في المرة الأولى التي نستمع فيها إلى عمل موسيقي قد يشكل ضرورة نسبية حتى نذهب مع المؤلف في رحلته التي يريد، لكن مع تكرار سماعنا للعمل ذاته قد يصبح لا معنى للعنوان سوى أنه يحمل لنا موسيقى معينة، أو قد يكون تجسيدا عميقا للعنوان.

في سيمفونية القدر التي ذاع صيتها لبيتهوفن، قد يكون العنوان مرتبطا بما يريد أن يصل إليه المؤلف في تجسيد معنى القدر وحضوره المباغت في تغيير مصائر البشر، أو الحياة برمتها بما فيها من روح أو جماد، لكن من الممكن أن يستمع أحدنا إلى قدر بيتهوفن فيذهب مناحي أخرى لم ينتبه إليها حتى المؤلف، فقد يكون قدر بيتهوفن لدى مستمع ما حركة زهرة تتفتح عن برعمها، أو شمسا تصعد إلى أعلى السماء.

العنوان غالبا ما يحاصر خيالنا، حتى في حياتنا اليومية العادية، فالشاب الذي يحب فتاته ولا يعرف عنوان منزلها يظل يرسم في خياله طرقا ودروبا ووردا وأشجارا تؤدي إلى نافذتها، لكن بمجرد أن يتعرف إلى عنوانها يصبح الخيال قاصرا على ما رَآه في شارع بيتها.

المشاعر نفسها تحمل في طياتها عناوين عريضة للولوج إلى الحياة، والموسيقى تعتبر أكبر محرضات المشاعر على العمل، بل إنها تطلق المشاعر المكبوتة أو النائمة، وسماع الموسيقى يشبه تماما إطلاق خَيل ليركض بكل عزيمته بينما يتلاعب الهواء بشعره فيصبح صورة أخاذة لخيال لا يمكن اعتقاله.

يبقى أن العمل الموسيقي الخالص يجب أن يمنح لنفسه بطاقة فلسفية، وأن يبني من مناطق معرفية تتجدد باستمرار، لأن الحياة كلها تقوم على مبدأ إعمال العقل والخيال والحس لتجديد أدوات الحياة.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عن صورة المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)