الوسادة الخالية لـ إحسان عبدالقدوس
جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 7985 - الخميس 15 كانون الثاني (يناير) 2015 - 24 ربيع الأول 1436 هـ
عبدالله المدني، إعلامي وأكاديمي بحريني
شاهد جيلنا في سنوات مراهقته العسيرة أفلاما سينمائية كثيرة، عربية وهندية وأمريكية المنشأ. لكنه لم يتوقف كما توقف عند فيلمين مصريين أجزم أنّ أحداثهما لا تزال حاضرة وعالقة بأذهان الكثيرين، رغم تقادم الأيام والسنين وتنوع الاهتمامات وازدحام المخيلة بالصور والمشاهد والتجارب المختلفة.
الفيلم الأول الذي أسر جيلنا فانشغل به طويلا هو فيلم «الوسادة الخالية» المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب إحسان عبدالقدوس ابن إحدى أشهر صحافيات مصر في عهدها الذهبي، فاطمة اليوسف» الشهيرة بـ «روز اليوسف» من زواجها بالممثل محمد عبدالقدوس الذي شارك في عدد من أفلام الأربعينات والخمسينات مثل، «رصاصة في القلب»، و»أنا حرة»، و»رسالة من امرأة مجهولة) مؤديا أدوار الأب الحنون أو العجوز المتصابي أو صديق العائلة الظريف.
الميزة الأولى لهذا الفيلم، الذي أنتج عام 1957 وعرض للمرة الأولى في مصر في سينما ريكس في العام ذاته، وكانت البحرين أول أماكن عرضه في الخليج، في العام التالي، قبل أن يعرضه تلفزيون أرامكو من الظهران في عام 1959، هي أنه يجسد على الشاشة قصة الحب الأول ولوعاته في حياة الإنسان، ومدى ما يكابده من آلام ومتاعب وصراعات نفسية للوصول إلى محبوبته والاقتران بها، في مجتمع لا يعترف بالحب أو على الأقل لا يسمح به علنا. هذا الحب الذي يصفه البعض بحب المراهقة، قائلا إنه سرعان ما يذبل وتنطوي صفحته بمجرد أن يكبر صاحبه ويشق طريقه نحو الحياة العملية ويكوّن أسرته الصغيرة، بل الحب الذي وصفه كاتب الرواية نفسه بـ«الوهم الكبير»، حينما قال في مقدمتها: «هناك وهم كبير في حياة كل واحد منا، اسمه الحب الأول»، وكأنما أراد أن يقول إن الحب الحقيقي هو ذلك الذي يأتي بعد نضوج الإنسان فكريا واستقراره نفسيا. لكني أعتقد جازما أن الحب الأول ليس وهما، فقد ينسى الشخص حبيبته الأولى وربما تنساه هي أيضا، إذا ما تفرقت بينهما السبل والظروف، لكنه يظل حقيقة، ويبقى مدفونا في دواخل المرء مهما تقادمت به الأيام والسنون… يجتره كلما خلد إلى نفسه، وتعاوده ذكرياته وإرهاصاته حتى بعد أن يقترن بأخرى وينجب منها البنين والبنات، بل أن طرفي الحب الأول إذا ما صادف أن تقابلا فجأة في مكان ما بعد طول افتراق فإن كل ذكريات حبهما البريء ستعود دفعة واحدة، من دون أن يعني ذلك عودة الحب نفسه مرة أخرى. وهذا أكبر دليل على أنّ أثره كامن ويمكن أن ينفجر في صورة دقة قلب أو ارتباك أو رعشة أو دمعة. أما سبب نفينا لصفة الوهم عن الحب الأول فهو أنه حب زمن المراهقة الذي يمثل لكل إنسان مرحلة شبابه وطهره وبراءته وعفويته وأحلامه الوردية. فكم كان صادقا الشاعر الكبير أبوتمام حينما أنشد:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحـُب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منــزل
أما الميزة الأخرى لفيلم «الوسادة الخالية» فهي أنه لم يبالغ ولم يتكلف، فجاء مطابقا لواقع حال السواد الأعظم من المحبين والعشاق في تلك الحقبة الخمسينية. وبكلام آخر لم يلجأ منتج الفيلم «الشركة العربية للسينما»، ومخرجه صلاح أبوسيف إلى اختيار فتاة ذات جمال صارخ، وشعر ذهبي مموج، أو ذات الدلال الزائد والثراء الفاحش، لتلعب دور البطولة وإنما عمد إلى اختيار فتاة عادية – وإنْ كانت بقوام رشيق وعينين خضراوين وجفون ناعسة وصوت مغر هامس – مثل لبنى عبدالعزيز.
وبالمثل فهما لم يختارا لأداء دور البطولة أمام الأخيرة شابا رياضي البنية، يتقطر وسامة، وينتسب إلى أسرة ذات حسب ونسب، وإنما وقع اختيارهما على عبدالحليم حافظ، الطالب الجامعي الفقير الذي لا يرتدي طوال الفيلم سوى كنزة واحدة من النوع البسيط فوق بنطال بدا عليه أنه من خياطة دكانين الخياطة الشعبية في منطقة «العتبة»، ولا يجد قيمة فطيرة أو تذكرة دخول إلى «جنينة الحيوانات» إلا بالتحايل مع صديقيه في الفيلم أحمد رمزي وعبدالمنعم إبراهيم. وأخيرا فربما كان من الأسباب التي جذبتنا للفيلم احتواؤه على أربع أغنيات من أجمل ما غنى العندليب الأسمر من ألحان الثلاثي الخالد بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل. وهذه الأغنيات هي: تخونوه، في يوم من الأيام، مشغول وحياتك، وأول مرة تحب يا قلبي.
– المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf
أيامنا الحلوة عن رواية للفرنسي هنري ميرجيه
جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 7986 - الخميس 16 كانون الثاني (يناير) 2015 - 25 ربيع الأول 1436 هـ
عبدالله المدني، إعلامي وأكاديمي بحريني
أما الفيلم الآخر الذي انجذب إليه جيلنا وشاهده مرارا وتكرارا من خلال الشاشة الفضية، بل واندمج مع أحداثه إلى حد النواح والتأثر فهو فيلم «أيامنا الحلوة» المأخوذ (الأصح المسروق لأن منتجي الفيلم لم يشيروا إطلاقا إلى مصدره) عن رواية «البوهيمية» للكاتب الفرنسي هنري ميرجيه، الذي أخرجه حلمي حليم من إنتاج «شركة الفيلم العربي»، وتم عرضه للمرة الأولى في القاهرة بسينما ديانا في السابع من مارس/آذار 1955.
والحقيقة أن العنوان الذي اختير للفيلم بعد تمصير أحداثه على يد المبدع علي الزرقاني كان موفقا ومنسجما مع صلب موضوع الفيلم، وهو تعاون وتكاتف ثلاثة شبان فقراء على السراء والضراء في محاولتهم إاتمام تعليمهم وتحقيق طموحاتهم وسط ظروف اجتماعية صعبة، لكن داخل بيئة حميمة. فهذا كان واقع حال الكثيرين من شباب تلك الحقبة الزمنية من ذوي الإمكانيات المحدودة والطموحات الكبيرة.
وبطبيعة الحال، ما كان للفيلم أن ينجح لولا إسباغ شيء من الميلودراما العاطفية عليه، من خلال تنافس الأصدقاء الثلاثة (عبدالحليم حافظ وأحمد رمزي وعمر الشريف) على قلب فاتن حمامة، الفتاة اليتيمة التي دفعتها ظروفها المعيشية القاسية إلى استئجار غرفة متواضعة بجوارهم، إلى أن يظفر الأخير بقلبها ويتزوجها، لكن من دون أن يتسبب ذلك في حدوث شرخ في علاقات الزملاء الثلاثة بعضهم ببعض، بل من دون أن يؤدي ذلك إلى تخلي حليم ورمزي عن صديقهم الثالث حينما تصاب زوجته بمرض عضال يستلزم علاجه نفقات باهظة. وفي هذا أيضا تجسيد رائع للعلاقات الإنسانية والتكافل والمشاعر الدافئة التي كانت سائدة بين الأصدقاء والجيران في ذلك العصر المتميز ببساطته وحميميته.
أحسب أن هذين الفيلمين، وما شابههما من أفلام ظهرت في ما بعد، لم يجدا طريقهما إلى أفئدتنا وعقولنا إلا لتناولهما للحب البريء الطاهر البعيد عن الأغراض الدنيئة، خصوصا أن جيل تلك الحقبة كان بطبيعته محبا وعاشقا لكل شيء.. للجمال.. للأناقة.. للموسيقى.. للحياة.. للعلم.. للمجد. فمثلا كل واحد منا تقريبا كان متعلقا ببنت من بنات الجيران، أو كان يتوهم أنها تبادله مشاعر الحب بمجرد أن تمنحه ابتسامة طائرة من خلال النوافذ المتقابلة، أو تتبادل معه نظرات خجولة أثناء الذهاب إلى المدرسة والعودة منها، أو تهمس له من خلف الجدران الفاصلة ما بين سطوح المنازل المتلاصقة. فكان ذلك أسعد ما نمر به من لحظات، ويظل لصيقا بوجداننا طوال الأيام والأسابيع التالية، نتخيلها ونرويها عشقا وهياما ونبني الآمال العريضة عليها.
أما أكثر الأوقات التي كانت تراودنا فيها تلك الأحلام والتخيلات الوردية فهو وقت افتراشنا لسطوح منازلنا العربية البسيطة في ليالي الصيف الرطبة، وتلحفنا بسموات صافية مزينة بالأقمار والنجوم المضيئة. هل بإمكان أحد أن يخبرنا أين اختفت تلك النجوم التي كنا نحاول عدها إلى أن نغفو؟ ولماذا لا نرى اليوم سوى سموات داكنة تغطيها الأدخنة والعوادم السوداء؟
بقي أن نؤكد أن كل واحد من أبناء جيلنا أو أغلبهم لم يكن في عشقه وغرامه وهيامه منحرفا أو فاجرا أو متجاوزا للأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة بوقاحة. فغرامياته كانت سرية يحتفظ بها لنفسه ولا يفصح عنها إلا للثقاة من أقرب المقربين إليه، وتصرفاته كانت خجولة وفي حدود الأدب. وبكلام آخر لم يكن بواحا متفاخرا، أو خادعا يغري الفتيات بمعسول الكلام والوعود والمظاهر الكاذبة، مثلما يفعل أبناء الجيل الحالي – أو بعضهم كي نكون منصفين – ثم ينفض عنهن بمجرد أن تقع عيناه على أخرى أجمل أو أغنى.
وأخيرا فإن الرسالة (أو الخط كما كان يسمى قديما) كانت وسيلة الاتصال والاقتراب من المحبوبة لإشعارها بما يدور في الأعماق من ولـَه وعشق، كما أن طريقة إرسال الخط المزين في العادة بالورود والفراشات، والمعطرة بالرياحين كانت حذرة وتتم بتأن خوفا من وقوعها في أيد قد تصفع وجهك بـ «كف» «راشدي» ثلاثي الأبعاد لا تنساه مدى الحياة، وقد يغير خريطة وجهك. اليوم انقلبت هذه الصور رأسا على عقب، وصارت الرسائل وأصول كتابتها وثقافة التلهف عليها شيئا من الماضي، وحلت مكانها المسجات الطيارة، خصوصا أنّ الوسائط متوفرة بأعلى المستويات في أيدي المـُرســِل والمـُرسـَـل إليها، وتقوم بالنيابة عنهما في عمل كل ما يلزم… لكنه عمل ينقصه الدفء وصدق المشاعر.
– المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf
صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.