الفيلم المصري والسلطة السياسية… بين التبعية والدعاية

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 7952 الثلاثاء 9 كانون الأول (ديسمبر) 2014 ـ 17 صفر 1436هـ
القاهرة ـ «القدس العربي» - محمد عبد الرحيم


تمثل السلطة السياسية عنصراً رئيسياً في الفيلم المصري، وإن كان يتم تناولها إما بشكل مُباشر، أو كانعكاس لواقع اجتماعي، هو من نتاج أفعالها وممارساتها، حيث أنه في هذه النوعية من الأفلام لا يمكن الفصل بسهولة بين ما هو سياسي واجتماعي.

لذلك سنتناول نماذج مُختارة من الأفلام التي تتركز فيها الرؤية تجاه السلطة السياسية ــ سواء ضدها أو معها ــ وهل عبّرت هذه الأفلام بوعي عن رؤيتها لما تدّعيه، أم أنها على العكس تماماً، فما هي إلاّ شكل دعائي يؤسس لهذه السلطة، ويُروّج لها، ومن خلال مُحاولة الربط بين هذه الأفلام ونظريتين جماليتين مختلفتين، نجد أن الفيلم المصري في مُجمَل تاريخه كان بوقاً دعائياً للسلطة الحاكمة ومروّجاً لها، وهو بذلك تمثل بفكرة «التطهير» الأرسطية.

أما الاستثناءات فنجدها انحازت إلى فكرة لوكاتش حول «البطل المُشكِل»، حيث أن هذا البطل يحمل سمات جمعية في فترة ما، وعبر هذه السمات يكشف عن ممارسات للسلطة ويفضحها من خلال تبعات فسادها.

من انقلاب يوليو/تموز 1952 حتى هزيمة 1967

اتسمت العلاقة بين السلطة السياسية والسينما في تلك الفترة بالتبعية الشديدة، حتى في الأفلام التي تتظاهر بتقديم نظرة انتقادية للواقع، وهي أفلام قام بها مخرجون كبار حاولوا التظاهر بالموضوعية، لكن أعمالهم كشفت عن مدى تزييفهم للواقع، ومنهم ..

يوسف شاهين/صلاح أبو سيف/بركات/كمال الشيخ.

فكلهم أذعن وسار في فلك السلطة، مُردداً شعاراتها، مُحققاً رغباتها، ومُعبّراً عن سياساتها.

«فقد كانت السينما في خلال تلك الفترة من 52 حتى 67 تمارس دورها في تغييب الواقع وتزييف الوعي» ومن هذه الأفلام على سبيل المثال لا الحصر…

«صراع في الوادي» ليوسف شاهين 1953/ «الفتوة» لصلاح ابو سيف 1957/«أرض السلام» لكمال الشيخ 1957/ «بور سعيد»، «رد قلبي» لعز الدين ذو الفقار1957/«الحرام» لبركات 1965/«القاهرة 30» لصلاح أبو سيف 1966.

فصلاح أبو سيف في «القاهرة 30»، يُعيد تقديم الرواية التي كتبها نجيب محفوظ) عام 1945، بإعادة صياغة العديد من أحداثها، وعلى رأسها وضع الحل على يد البطل الاشتراكي، الذي يعلق في حجرته إطاراً خالياً للزعيم الجديد، الذي سوف يأتي، بجوار صور زعماء الحركة الوطنية.

وبالتالي تتحول الموضوعية والانتقادية في الرواية إلى جانب كبير من الدعاية للنظام الجديد.

ويقوم يوسف شاهين بدوره فيقدم أفلاماً تنتقم من الماضي والعهد البائد «صراع في الوادي» 1957، ويؤسس وينادي بزعامة الفرد، وأنه هو الأمل والخلاص الوحيد من خلال فيلم «الناصر صلاح الدين» 1963، من خلال إسقاط تاريخي لا يخلو من مُغالطات فادحة، عن شخص صلاح الدين، الذي يكاد يُقارب الآلهة ــ وهو ما يُخالف تاريخه الحقيقي ــ تماماً كما كان يريد تصوير زعيمه الوهمي، ثم يقدم نموذجاً آخر للدعائية الفجة متمثلاً في فيلم «فجر يوم جديد» 1965.

«فقد هادنت السينما العهد الجديد، ووظفت إمكاناتها لخدمة نظام يحتاج إلى تبرير سياسي وإيديولوجي لدوره، فجاءت هذه الأفلام، إما بهدف التنفيس، أو تسريب قضايا بشكل غير مباشر، فهي تؤدي دورها على نحو مقنع، وبشكل خفي». وبذلك نجد أن سينما تلك الفترة كانت تنتقد الماضي فقط، وتعلّي من شأن العهد الجديد، الوحيد القادر على إزالة الفوارق الطبقية.

فانصبت الأعمال على الصراع الطبقي، وفساد العهد الملكي، رغم أن المشكلات الأساسية كانت لم تزل ولا تزال قائمة حتى الآن.

ومنذ عام 1955 بدأ ظهور ضابط الجيش ممثلاً الضباط الأحرار، كنموذج جديد للبطل السينمائي فيلم «الله معنا» لأحمد بدرخان، صعد هذا النموذج وتنوعت أشكاله، ليُعبّر عن الفئة الجديدة، التي أصبحت بيدها الأمور.

«حتى أن إسماعيل ياسين قد شارك هو وفطين عبد الوهاب بمجموعة من الأفلام تدّعم الصورة الجماهيرية للجيش». فالقاعدة في السينما هي السير في ركاب السلطة والتهليل لها، ونشر أفكارها، حتى لو تظاهر البعض أنه ينتقدها، فإن ذلك يتم وفق نظرية التطهير السابق الحديث عنها. ولعل هذا ما يُفسر عدم اصطدام الرقابة بصانعي هذه الأفلام صداماً عنيفاً، هذه الرقابة التي منعت من قبل أفلاماً على رأسها «السوق السوداء» لكامل التلمساني 1943.

فأفلام تلك الفترة في مجملها كانت تدافع عن وجود وأفكار السلطة، سواء كانت مؤمنة بأفعالها في الحقيقة أم لا، ومن دون أن تسعى لنقد المشكلات الاجتماعية القائمة ومواجهتها. «فتسلم الطبقة الوسطى المتعلمة سلطة الحُكم بعد الثورة، جعلها هي السائدة، كما كانت تريد تأكيد وعي ثقافي جديد، أسرعت السينما للترويج له ».

لذلك نجد أن تلك الأفلام عملت كبوق دعائي للنظام الجديد، سواء بطريقة مباشرة، كما في الأفلام التي استمدت موضوعاتها وأصبح أبطالها من ضباط الجيش، أو بطريقة غير مباشرة توجهت في الأساس بانتقاد العهد الملكي في سذاجة وسطحية، بهدف دعم وإظهار مدى شرعية السلطة العسكرية الجديدة.

من بعد هزيمة 67 حتى الألفية الجديدة

السبعينيات

لم تختلف السينما كثيراً طوال تاريخها في علاقتها المتواطئة مع السلطة السياسية، في كونها تابعة ومؤيدة لها، فمن الحُكم الشمولي في الستينيات، إلى الديمقراطية الكاريكاتورية في السبعينيات، وحتى الديمقراطية الهزلية التي انتهت بالثورة على المخلوع ونظامه.

إلا أن هناك محاولات قليلة جداً وجيدة ناقشت في اتزان طبيعة هذه السلطة، وتجلياتها الواقعية.

فبعد ثورة التصحيح في 15 مايو/أيار 1971 تغيرت وجهة الأفلام، وتحولت كعادتها لانتقاد العهد المنقضي «إذا كانت الأفلام التي وقفت مع الثورة قد صورتها باعتبارها أنهت عصراً من الفساد السياسي والاجتماعي، فالأفلام التي صُنعت بعد مايو 1971 ركزت على الموقف العدائي من الثورة، خاصة عبد الناصر ورجاله، ومنها.. «الكرنك/إحنا بتوع الأتوبيس/وراء الشمس/آه يا ليل يا زمن».

وبدأ منذ ذلك الوقت ظهور موجة من الأفلام تحاكم مراكز القوى، وعصر الاستبداد وقمع الحريات وما شابه، بهدف الدعاية والترويج للنظام الجديد (عهد السادات) على حساب مَن هللت له من قبل ودعمّت نظامه.

ورغم وجود القليل من الأفلام التي لا تتجاوز أصابع اليد، حاولت التعرض للسلطة في عهدها «زائر الفجر» لممدوح شكري/«العصفور» ليوسف شاهين، إلا أنها لم تقترب من النظام السياسي، فـ«العصفور» في النهاية يُطالب ببقاء الرئيس المهزوم، فإذا كان الشكل الخارجي يدعو للنقد، فالنهاية تبارك استكمال المسيرة من دون أي مساءلة.

و«هناك ظاهرة أخرى هي إعادة الاعتبار للماضي ممثلاً في رموزه من الباشوات وكبار رجال السلطة والإقطاعيين، حتى تهجو عناصر السلطة في الفترة الناصرية.

فالأفلام التي سبقت وأدانت العهد الملكي لحساب العهد الناصري، مارست بعضا من الذكاء الساذج، وردّت الاعتبار للعهد الملكي نكاية بالعهد الناصري لحساب عصر السادات، هذا الذكاء نفسه وبشكل آخر سيتم التعامل من خلاله، وحتى الآن. ومع بعض الحرية المزعومة لتأييد النظام السياسي في مشروعاته في السبعينيات.

ومع الضغوط الاقتصادية والتحول في طبيعة المجتمع من الاشتراكية للرأسمالية، سُمِح للسينما بأن تجادل في حدود، والانتقام من بعض العناصر الفاسدة، من دون الاقتراب من النظام السياسي.

من هذه الزاوية جاءت الأفلام لتنتقد طبيعة الانفتاح الاقتصادي، حيث انحلال القيم والتغيرات غير المسبوقة في سلوك المجتمع المصري. وأهم هذه الأفلام …

«على مَن نطلق الرصاص» لكمال الشيخ/«المذنبون» لسعيد مرزوق. «وفي تلك الفترة تراجعت قضية الصراع الطبقي، لتحل محلها قضايا الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولم تصور السينما قضايا الانفتاح باعتبارها قضايا سياسية، ولكنها قضايا انحرافات في الأغلب الأعم .

ورغم توافر بعض الوعي لهذه الأفلام، إلا أنها لم تستطع الوصول إلى تحليل عميق لهذه الظاهرة، كتمهيد للتوجه السياسي الجديد، بل على طريقة ربط النتيجة بالسبب.

وكان هذا هو هدفها في الأساس، فأصبحت تلك الأفلام أشبه بالمعادلات الجبرية.

«إلا أن تلك الأفلام مع شجاعتها في مواجهة الظروف المعاصرة (السبعينيات) فإنها لم تتعد الجانب الاقتصادي والاجتماعي، من دون الاقتراب من النظام السياسي، أو اتجاهاته وممارساته ».

ورغم إلصاق مصطلح «الفيلم السياسي» ببعض هذه الأفلام، إلا أنه من الخطأ الانسياق وراء هذا الرأي.

فظهور شخصية رجل يرتدي الزي العسكري، أو ينتمي لأي وظيفة سياسية ما، لا يجعل من الفيلم فيلماً سياسياً، خاصة أن هذه الأفلام لم تتعرض للسلطة مباشرة ولا لطريقة نظام الحُكم، ومدى مشروعية قراراته.

الثمانينيات

تعتبر تلك الفترة من أهم فترات السينما المصرية على مستوى الوعي الفكري والتقني، الذي تميز به صناعها.

فرغم أن هناك أفلاماً انتقدت ظاهرة الانفتاح في شكل مباشر يقترب من الفجاجة، إلا أن أفلاماً أخرى نظراً لوعيها الشديد، اتسمت بالفنية العالية، واقتربت من الشكل الفلسفي النظري (البطل النموذجي كما أطلق عليه لوكاتش). وأهم هذه الأفلام …

«العوامة» 70 لخيري بشارة 1982/سواق الأتوبيس لعاطف الطيب 1983/حب في الزنزانة لمحمد فاضل 1983/ الحرّيف لمحمد خان 1983/الصعاليك لداوود عبد السيد 1985/أحلام هند وكاميليا لمحمد خان 1988».

هذه الأفلام تميزت بالصدق الفني والوعي الشديد.

فمساوئ العهد الناصري وعصر الانفتاح أنتجا معاً شكلاً ونمطاً جديدين للحياة، أمكن تحليله بعمق شديد، وتحول البطل وأصبح لا يمارس التطهير الأرسطي المعهود للجمهور، بل يكشف له عن حجم الكارثة، ويدعوه للتفكير في ما حوله، من دون أن يستدر عطفه أو يستمد الحلول الوهمية وفق رغبة نظام سياسي يريد ذلك في الأساس.

ويعتبر فيلم «أحلام هند وكاميليا» أهم هذه الأفلام من هذه الناحية.

على الرغم من وجود الأفلام الجادة السابقة، إلا أن هناك أخرى كانت ولا زالت تمارس الدور الدعائي المعهود، وتنتقم من نظام قديم لصالح الجديد، وكأنها تقدم أوراق اعتمادها لدى هذا النظام. مثال فيلم «الغول» لسمير سيف 1983 فهو فيلم دعائي في المقام الأول، رغم ما أثير حوله من مشكلات مُصطنعة !

التسعينيات وما بعدها

تحولت الطريقة في التسعينيات وحتى الآن في الترويج والدعاية للسلطة السياسية، فلم تعد تنتقد سياسات النظام السابق، ولكن تتبنى وجهة نظر الجمهور في انتقاده للسلطة الحالية، وبهذه الطريقة يتميز الفيلم بالجرأة، وتتميز السلطة بالديمقراطية ! إلا أن الفيلم في الأساس يحمي هذه السلطة، ويصبح مُقتصراً على تفريغ انفعالات الجمهور ضدها…

هذه الأفلام تكشف دور الدولة في توجيه الفيلم السياسي ــ نعترض على المصطلح ــ وذلك بهدف إما التنفيس أو تسريب قضاياها بشكل غير مباشر، وتكشف أيضاً كيف عولجت قضية الحرية لصالح السلطة والنظام ..

وبهذه الطريقة تتم استعادة العدالة والتوازن في المجتمع، فمثل هذه الأفلام تعد نظام أمان سياسي .

فهذه النوعية من الأفلام تنحاز تماماً إلى نظرية التطهير الأرسطي، وأكبر ما يمثلها أعمال كاتب السيناريو وحيد حامد، رغم ما تدعيه من الانتصار للحق، وللفرد في مواجهة سلطة الدولة، حتى لو اتخذت هذه الأعمال شكل ..

الانتقام من الأغنياء وتصويرهم لا يمتلكون أي قيم أخلاقية فيلم «المنسي» تخاذل النظام الحكومي، خاصة الأمني، فيلم «الإرهاب والكباب» كبت الحريات.

فيلم «النوم في العسل» التحذير من الرجعية وقوى الظلام.

فيلم «طيور الظلام»، وفيلم «دم الغزال» الذي جاء في معالجة مباشرة للحال السياسي والاجتماعي المصري.

ولكن هناك بعض الأفلام جاءت على سبيل الاستثناء مثل .. «يوم مُر ويوم حلو لخيري بشارة/سارق الفرح، أرض الخوف، ومواطن ومخبر وحرامي لداود عبد السيد».

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)