هل تخدم السوسيولوجيا الأدب ... أم تحدّ من أفقه التخييلي ؟

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٥ أبريل/ نيسان ٢٠١٤
جريدة الحياة
مايا الحاج


«الرواية مرآة تتجوّل معنا على طول الطريق»، عبارة كتبها الروائي الفرنسي ستندال في رائعته «الأحمر والأسود»، لتتحوّل في ما بعد شعاراً يحمله روائيو المدرسة الواقعية، أو بتعبير أدق كتّاب الرواية الاجتماعية. فالأدب الذي طالما كان وثيق الارتباط بالخيال أو المخيلة، تحوّل مع الرواية الواقعية إلى مختبر اجتماعي أداته اللغة. وهذا ما يجعلنا في حيرة إزاء هذا النوع من الأعمال الأدبية. فهل التماثل بين الرواية والواقع - بشخوصه وأحداثه وأمكنته - يحدّ من عمل المخيلة أم أنّه يزيدها ثراءً؟

عبر التاريخ، اختار روائيون مثل تولستوي وستندال وغيرهما أن تكون رواياتهم تعبيراً عن المجتمع وربما محاولة لتغييره، فيما ارتأى آخرون مثل غي دو موباسان أو فرنسوا مورياك ألاّ تكون رواياتهم أكثر من صنيع فني يكون ثمرة المخيلة الفردية.

السؤال عن علاقة الأدب بالمجتمع حاضر وثابت، وتحليل العلاقة بين الأدب والمجتمع ليس عملاً مستحدثاً، بل إنه بدأ منذ القرن التاسع عشر مع نقّاد مثل مدام دوستايل، ومع فلاسفة مثل هيغل وماركس، وضعوا أسساً ومبادئ ارتبطت بها التطورات التي جاءت في عالم الرواية وفي علاقتها مع المجتمع والمكان. بل إنّ سوسيولوجيا المكان وعلاقته بالأدب تعود إلى العصور القديمة وتحديداً الى أفلاطون في كتابه «الجمهورية». ومنذ ذلك الحين عُرفت كلّ محاولة منهجية لفهم النص الأدبي انطلاقاً من المعطيات الاجتماعية والمكانية بـ «سوسيولوجيا الأدب». وأيّ دراسة أدبية تقوم على هذه المقاربة تعني وجوب التعامل مع النصّ كما لو أنه «قطعة من الحياة». وفي هذا السياق، يقول الناقد الروسي تينيانوف إنّ تطوّر المجتمع يستدعي تطور الأدب، فيما يؤكد باختين أنّ النص الأدبي يتشرّب الخطاب الاجتماعي أو بالأحرى المكاني الموجود فيه. من هنا نقول إنّ المكان لا يمثل ديكوراً في البناء الروائي، بل يغدو في الكثير من الأحيان العنصر الأهمّ في الرواية. فهو لا يجعل الأحداث أكثر واقعية فحسب، إنما يشير إلى طبيعة شخوص الرواية وسلوكها ومسارها.

يُشكّل المكان مثلاً في سلسلة إميل زولا المعروفة «لي روغون ماكار» (مؤلفة من عشرين رواية)، عاملاً أساسياً يساهم في صعود الشخصيات وهبوطها، بل ويتدخّل في مصائرها وتحديد أمزجتها. فيقدم زولا شارع «لا شابل» الباريسي مثلاً كأنه شخصية إضافية وثابتة في أكثر من رواية، شخصية لها ملامح وتفاصيل وأفعال وتأثيرات.

يستعير زولا زيّ الرسّام ليصوّر شوارع باريس الشعبية بعماراتها وأروقتها وحركة المارين. يكتب بعين فنان يفهم لغة المكان ويحللها. وهذا التماثل بين الواقع المعيش والواقع المفترض في روايات زولا أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الثقافية الفرنسية، وما زال صدى السؤال نفسه يتردد: «هل يُفقد التحليل الاجتماعي والوصف المكاني من قيمة العمل الفني المتخيّل؟».

مثلما حضرت باريس في روايات زولا ولندن في كتابات ديكنز، ودبلن في أعمال جيمس جويس وبوينس آيرس في نصوص بورخيس، كانت القاهرة هي الشخصية الثابتة في أعمال نجيب محفوظ. فهو يصوّرها فوتوغرافياً من خلال اعتماده الوصف الدقيق للأبنية والدكاكين والمقاهي والمارّة، حتى بات «حي الجمالية» مثلاً معروفاً ومحفوراً في أذهاننا وإن لم نزره قطّ. ومن يقرأ روايات محفوظ من ثلاثيته الشهيرة إلى «زقاق المدق» و»أولاد حارتنا» يشعر بأنّ المكان هو فعلاً الركن الأهم في عمارة محفوظ الفنية، وأن الكاتب مسكون بذاك المكان الذي يعكس هوية الحارة المصرية القديمة، وبالتالي هوية المواطن المصري. وانطلاقاً من أعمال صاحب «اللص والكلاب»، يمكن القول إنّ الشخصيات الروائية يمكن أن تكون امتداداً للمكان الذي نشأت فيه. وهذه الإشارة يُمكن توضيحها أيضاً على ضوء رواية علاء الأسواني الشهيرة «عمارة يعقوبيان»، التي تختزل صورة القاهرة في التسعينات من القرن العشرين، وقد قال فيها أحد النقاد الفرنسيين في مقالة له: «لو كانت القاهرة عمارة، لكان اسمها عمارة يعقوبيان». فالمكان يتغلغل في نفوس الشخصيات، يقهرهم أحياناً، ويسعفهم في أحيان أخرى. وقد يتدخل في تركيب طبائع او كاراكتيرات الشخوص، النفسية والجسدية أيضاً.

لا تستوجب القصة المتخيلة بناء مدن متخيلة، بل إنّ إقحام الواقع الاجتماعي في حبكة خيالية لا يتعارض ومفهوم الخلق الأدبي الذي يكون في معظم الأحيان تعبيراً صريحاً عن هموم الواقع المعيش.

يأتي الحديث عن سوسيولوجيا المكان في الرواية في سياق اختبار جديد أطلقته مجلة «البوابة التاسعة» في عددها الثالث، وهي مجلة ذات اهتمامات ثقافية مدينية، تصدر مرّتين في السنة من بيروت باللغتين العربية والإنكليزية. وتتمثّل هذه التجربة بنشر نصوص عربية وروسية معاصرة عن المدينة ودورها في العمل الإبداعي، منها قصة «نقّل فؤادك» للروائي اللبناني حسن داود، الذي انخرط في تيار «رواية المكان» من خلال عمله «بناية ماتيلد». وهو النص الذي عكس مزاج مدينة بيروت بالوجه الجديد الذي نبت لها فجأة بعد الحرب. وقد تولت المترجمة لينا مُنذر ترجمتها إلى الإنكليزية. وتحتوي إصدارات العدد الثالث من المجلة نصاً للروائية المصرية منصورة عزالدين بعنوان «طيف الصقلي»، وفيه تكتب عن معماري قاهري، يدعى آدم خليفة، همّه رصد المدينة المحجوبة المكتنفة بالأسرار: «خيّل إلي أنّ القاهرة تهمس ساخرة أني لن أعرفها، سأعيش فيها كعابرة سبيل، كمخمورة لن تستفيق أبداً». والنصّ الذي كتبته عزّ الدين للمجلة أوحى للمؤلفة بفكرة رواية هي الآن قيد الكتابة. ومن الأدب الروسي المعاصر، اختارت المجلة قصصاً تكرّس الحضور المكاني في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، هذا المكان الذي ترى «البوابة التاسعة» بأنّ أمر اكتشافه بات أكثر إلحاحاً من ذي قبل، لما أظهرته أحوالها المستجدة من وقائع شديدة التقاطع مع وقائع منطقتنا العربية. ومن هذه النصوص ثمّة «المَخرج» للروسية إرينا بوغاتيريفا التي تغوص في الحياة المدينية في روسيا المعاصرة من خلال شخصية بطلها الذي يعمل دليلاً سياحياً محاولاً تأدية وظيفته بانفصال عن مشاعره الشخصية تجاه مجموعات السيّاح المتبدلة في كلّ مرّة، والتي يقودها ذهاباً وإياباً من روسيا عبر البلدان الإسكندنافية، وهو يردّد دوماً عبارة «كلّ حرٌّ بتصرفاته». وأخرى بعنوان «مساعد ستيفن سيغال» للروسي أرسلان خسافوف الذي يُقدّم بطلاً روسياً مسلماً داغستانياً، مثله، يبحث عن عمل في موسكو يقرّبه من حلمه المثالي عن نفسه ككاتب موهوب.

لعلّ السؤال الذي يظلّ مطروحاً: هل تنزع السوسيولوجيا عن الأدب جماليته عبر تقليص مساحة الخيال فيه أم أنّها تُضفي عليه واقعية يستسيغها القارئ في كثير من الأحيان؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)