تراث

نوادر رؤية هلال شهر الصوم

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٨ يونيو/ حزيران ٢٠١٤
جريدة الحياة
عمرو عبدالعزيز منير


يتطلع المسلمون إلى هلال رمضان متوسمين في مطالع أقماره الآمال التي تحياها الأمم، فاعتنوا برؤية هلاله عناية فائقة. ولم تكن تلك الحفاوة مقصورة على عامة المسلمين، بل كان الخلفاء والأمراء في طليعة المهتمين بالصعود إلى الأماكن العالية صحبة القضاة والشهود لرؤية هلال الشهر الكريم بالعين المجردة والتي معها حدثت نوادر كثيرة. من تلك النوادر أن جماعة فيهم أنس بن مالك الصحابي، حضروا لرؤية هلال رمضان، وكان قد قارب المئة، فقال أنس «قد رأيته هو ذاك»، وجعل يشير إليه فلا يرونه. وكان إياس القاضي حاضراً، وهو أفطن أهل زمانه، فنظر إلى أنس وإذا شعرة بيضاء من حاجبه قد أنثنت فوق عينه، فمسحها إياس وسواها بحاجبه، ثم قال له: «أنظر يا أبا حمزة»، فجعل ينظر ويقول: «لا أراه».

وحدث أن اجتمع الناس لرؤية هلال رمضان فكانوا يحدقون في الأفق ولا يرون شيئاً، فصاح رجل من بينهم: لقد رأيته. فاستعجبوا من قوة إبصاره وقالوا له: كيف أمكنك أن تراه دوننا؟!

فطرب الرجل لهذا الثناء وصاح: وهذا هلال آخر بجواره. فضحك الحضور منه. وطلبوا ليلة رؤيته فقال لهم أبو مهدية المضحك: كفوا فما طلب أحد عيباً إلا وجده. وصعدوا ليلة لنظره فلم يروه، فلما هموا بالانصراف رآه صبي وأرشدهم إليه فقال له أحدهم: بشر أمك بالجوع المضني.

وقيل لرجل أما تنظر إلى هلال رمضان؟ فقال: «وما أصنع به؟ محل دين ومقرب حين «أجل» ومؤذن بالجوع». ونظر إعرابي إلى قوم يلتمسون هلال رمضان فقال: أما والله لئن أثرتموه لتمسكن منه بذنابي عيش أغبر! ولدينا في تراث الشعر العربي ما يساير فحوى هذه اللطائف الأخيرة حيث نجد أن العديد من الشعراء القدامى لم يكونوا يلقون هلال رمضان بالبشر والحفاوة.

فها هو ابن الرومي يقول: إني ليعجبني تمام هلاله/ وأسر بعد تمامه بنحوله. ويقول أبو الحسين بن سراج الأندلسي، معتذراً إلى بعض أصدقائه: وأنا أسأت فأين عفوك مجملاً/ هبنى عصيت الله في شعبان/ لو زرتني والآن تحمد زورة/ كنت الهلال أتى بلا رمضان.

فهو يجعله هلال ولكن لغير رمضان. ويقول بعض الشعراء إن هلال رمضان يحل بنحس على الكأس والعود:

تجلى علينا هلال الصيام/ بنحس على الكأس والبربط.

والحقيقة أن مجاهرة بعض الشعراء بعدم صيام رمضان والاستخفاف بمقدمه من الظواهر الملفتة في تاريخ الأدب العربي، وربما يدلنا ذلك على قدر الحرية التي كان يتمتع بها هؤلاء الشعراء حتى داخل بلاط الخلفاء. أما النوادر التي وردت في المصادر العربية حول مثل هذه المعاني السابقة فهي أكثر من أن تحصى، ومنها أن أعرابياً باشر الصيام فلما اشتد عليه أفطر فقالت زوجته أو بنته: ألا تصوم؟ فأنشدها مجيباً: أتأمرني بالصوم لأوردها/ وفي القبر صوم يا أميم طويل.

وقدم إعرابي على ابن عم له بالحضر فأدركه رمضان فقيل له: لقد أتاك شهر رمضان بالنهار. فقال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام. قال: أبا الليل أم بالنهار؟ قالوا: لا، بل بالنهار. فقال: أفيرضون بدلاً من الشهر؟ قالوا: لا. قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس. فصام أياماً ولم يطق أن يكمل الشهر فارتحل عنهم وهو يقول:

يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم/ تهيأ أبا عمرو لشهر صيام/ فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي/ سلام عليكم فاذهبوا بسلام/ فبادرت أرضاً ليس فيها مسيطر/ على ولا مناع أكل طعام.

ودخل عيينة بن حصن الفزاري، وكان معروفاً بالحمق على عثمان رضي الله عنه، فقال له: هل لك في العشاء؟ فقال: إني صائم. فقال عثمان: أمواصل؟ قال: وما الوصال؟ قال: تصوم يومك وليلتك ويومك حتى تمسي. قال: لا ولكني وجدت صيام الليل أيسر عليَّ من صيام النهار.

وقدم إعرابي إلى الوالي فقيل له إنه أفطر في رمضان. فقال الإعرابي: إن الله يعلم أني صائم، ولكني وجدت حماوة في فؤادي فأردت أن أطفئها بجرعة ماء. وعلى النقيض من ذلك فإن هناك من رحب بمقدم رمضان ورفع التهاني بحلوله إلى الخلفاء والأمراء والولاة. ذلك من المواقف المتباينة من رؤية هلال رمضان والترحيب بمقدمه أو ملاقاته بغير الترحيب الواجب، أما عن وقائع الاحتفال برؤية الهلال فهى تبدو متشابهة في أغلب الأقطار الإسلامية إذ كان القاضي يصحبه الشهود والأعيان والمشايخ يتجهون إلى الأماكن المرتفعة العالية لاستطلاع الهلال في موكب حافل ويظل الناس في الطرقات ينتظرون عودة هذا الموكب لتتعالى صيحات الفرح ومظاهر الاحتفاء به إذا ما ثبتت رؤية هلال رمضان. واحتفظت المصادر التاريخية بمعلومات تفصيلية عن تطور مظاهر الاحتفال برؤية هلال رمضان، يذكر ابن إياس صورة لما حدث في أحد أيام رمضان: «وأما في ليلة رؤية الهلال حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب. فلما ثبت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب الزيني بركات من هناك فتلقاه الفوانيس والمنجنيق والمشاعل والشموع الموقدة فلم يحصى ذلك لكثرته ووقدوا له الشموع على الدكاكين وعلقوا له التنانير والأحمال الموقدة بالقناديل من الأشاطين إلى سوق مرجوش إلى الخشابية إلى سويقة اللبن إلى عند بيته».

ويصف ابن بطوطة مسار احتفالية رؤية هلال رمضان في مدينة أبيار (كفر الزيات البحيرة بمصر حالياً) بقوله: «يجتمع فقهاء المدينة ووجهائها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشهر شعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلاً: باسم الله، سيدنا فلان ويذكر اسم القادم فيسمعه القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به فإذا تكاملوا هناك ركب القاضي ومن معه أجمعون وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موقع مرتفع خارج المدينة وهو مرتقب الهلال عندهم وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال ويوقد أهل الحوانيت حوانيتهم بالشمع ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم كل سنة».

أما الجبرتي فإنه أشار إلى أنه (ليلة الرؤية كانت مصر تتزين بآلاف القناديل والمصابيح في تلك الليلة، ويقوم كل شخص بتزيين واجهة حانوته وينتظر كل شخص مع خلانه احتفال موكب المحتسب، فكانت القناديل تضاء في الأسواق والشوارع، ويذكر أبي جبلى طائفة تسمى (القندلجية) وتضم مئتي فرد كان عملهم على وجه الخصوص هو تزيين الدكاكين بالفوانيس أثناء ليالي المولد وليالي رمضان». ففي كل ديار الإسلام يحرص المسلمون على زيادة الإضاءة حتى أن المؤرخ المقريزي ينعت ليالي رمضان بأنها «ليالي الوقود» ولا يقارب هذه الظاهرة في الانتشار سوى عادة مد الولائم في بيوت أهل الكرم، وهاتين الظاهرتين هما في حقيقة الأمر القاسم المشترك الأعظم في ما بين المسلمين أينما عاشوا خلال الشهر الكريم.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)