كرنفال - Carnaval

موسم الكرنفالات والأقنعة : تظاهرات تعبيريّة وإحتفالات طقوسيّة رمزيّة ضاربة في القدم

, بقلم محمد بكري

06-02-2013
جريدة القدس العربي
غرناطة - محمّد محمّد الخطّابي


جريدة القدس العربي


تنظّم في العديد من مناطق العالم في هذه التواريخ (خلال النّصف الاوّل من شهر فبراير (شباط) من كل عام) تظاهرات إحتفالية تقليدية متوارثة كبرى تعرف بـ’الكرنفالات’.

ومن أشهر هذه التظاهرات في العالم يأتي في المقام الاوّل كرنفال البرازيل في مدينة ’ريّو دي جانيرو’(من 9 إلى 12 من الشهر الجاري) والذي يقوم أساسا على إستعراض مواكب عربات مزكشة كبرى، وإرتداء أقنعة، ومشاركة أجواق موسيقية تسير كلّها خلال هذه الإستعراضات الضّخمة التي تتميّز بالخصوص بموسيقى السّامبا الصّاخبة، وبالإضافة إلى الشوارع الفسيحة التي تسير فيها هذه الموالكب المبهرجة يقام إستعراض كبير كذلك في مكان يسمّى ’امسو درومو’ شيّد خصيّصا في ريّو دي جانيرو لهذه الغاية بالذات.

ومن أشهر الكرنفالات في العالم كذلك كرنفالات مدينة ’ برّا نكييّا ’ الكولومبية، وجزيرة ’ ترينيداد وطوباغو’ والعديد من بلدان أمريكا الجنوبية الأخرى وفي منطقة الكرايب، فضلا عن كرنفال ’ماردي غراس’ في ’نيو أورليانز ا الأمريكية’ وهو احتفال كبير تستعرض فيه أجمل العربات المزدانة، فضلا عن ارتداء أغرب ما يمكن أن يصل إليه الخيال في عالم الأقنعة و’المتوجّهين’ (لابسو الوجوه والأقنعة المستعارة).

ومن الكرنفالات الشهيرة في العالم التي تنظم في (أوائل وأواسط شهر فبراير(شباط) الجاري كذلك) تلك التي تقام في الأرخبيل الكناري (جزر الخالدات) خاصّة في جزيرتي ’تينيريفي’ و’غران كاناريا’، وهذه الجزر هي تابعة لإسبانيا اليوم والمحاذية لسواحل المغرب الجنوبية، وتختلط في هذه الكرنفالات الكنارية بعض تقاليد المناطق الاستوائية بالعادات الشعبية الأوربية في مجال الرّقص والغناء. ويعتبر مهرجان مدينة ’البندقية’ الإيطالية من أشهر الاحتفاليات الكبرى التي تقام في هذا القبيل وما يتخلله من عروض وأزياء غريبة، وأقنعة مثيرة ورقص مقنّع، وحفلات تنكّرية، وموسيقى وغناء وبهرجة لا حدود لها، ويعود هذا المهرجان إلى القرن الحادي عشر الميلادي. (ينظّم هذا العام 2013 من 2 إلى 12 فبراير) . وأمّا كرنافال مدينة ’قادس’ الإسبانية الشهير فينظّم من (7 إلى 17 فبراير) قادس هي مسقط رأس الشاعر الإسباني الكبير رفائيل البرتي.

وفي مدينة ’بلنسية’ الإسبانية يقام كلّ سنة كذلك (خلال شهر مارس) مهرجان إحتفالي آخر كبير يسمّى ’فاياس’، تصنع خلاله العشرات من المجسّمات والأقنعة والصّور من الخشب أو الكارتون المقوّى ثم تلوّن جميعها بألوان وصور زاهية مزركشة، وعند نهاية هذا المهرجان الصّاخب تحرق جميع القطع التي صنعت والتي قدّمت أثناء العرض بإستثناء قطعة واحدة فقط تنجو من لهيب النار، وهي التي تحظى بالعفو عليها خلال هذا العرض المثير.

تقاليد ضاربة في القدم

ولا مجال في هذه المهرجانات والاحتفالات والكرنفالات للحزن والشكوى والأنين أو للعزلة والانزواء، فقد إستمرّت هذه التقاليد قائمة حتى في أحلك وأقسى الظروف التي مرّت بهذه البلدان باستثناء حالة إسبانيا على وجه الخصوص، حيث كان محظورا على عهد الجنرال فرانكو إقامة هذه الكرنفالات.

هذا التقليد في هذا البلد الشاسع والمترامي الأطراف عادة لصيقة بحياة كلّ برازيلي . وكرنفال ريّو دي جانيرو عالم آخر صاخب متعدّد الألوان والألحان والهرج والمرج، والصّخب والدّأب واللّجب، تمتزج فيه كلّ أنواع البشر وأصناف الأعراق والأجناس على إختلافها، فضلا عن العديد من ضروب الأزياء الملوّنة والمزركشة والمثيرة، والأقنعة على اختلاف أشكالها في بلد خلاسيّ ومولّد ينحدر سكانه من كلّ جنس وعرق.

وتستمدّ هذه التظاهرات الفنية والشعبية أصولها من تقاليد عريقة ضاربة في القدم، وتنحدر كلمة ’كرنفال’ في اللغة اللاتينية السّوقية (عامية القرون الوسطى) من مصطلح ’كارني ليفار’ التي تعني أهجر أكل اللحم وذلك بسبب الإحتفالات المبالغ فيها حيث كانت تقدّم فيها جميع أنواع المأكولات ببذخ كبيرخاصة اللحم .في تواريخ كان محظورا فيها أكل اللحم عند المسيحيين (الكواريسما). وقد أنتقلت عدوى الاحتفالات بالكرنفالات من البرازيليين وغيرهم من شعوب أمريكا اللاتينية إلى بعض الشعوب الهندية والمولّدين الذين ينحدرون من أصل إفريقي أو اسيوي أو من مناطق أخرى من العالم.

الأقنعة .. والكرنفالات

تعتبر الأقنعة من أولى الوسائل التي يتمّ إستعمالها خلال الاحتفالات بهذه الكرنفالات، ولقد وجد الإنسان منذ أقدم العصورفي العديد من مناطق العالم في هذه الأقنعة والكرنفالات وسيلة تعبيرية أثيرة، ومتعة مثيرة لما يختلج في نفسه من مشاعر ورغبات، وذلك عندما يخفي وجهه إمّا للدّفاع عن نفسه أو لإحياء عوائده المتوارثة باحثا عن تفسير أو تبرير لما يساوره من شكوك، وما يعتمل في نفسه من خوالج وتطلّعات .

ويأتي ظهور الأقنعة أيضا في العديد من الحضارات والمجتمعات القديمة للتوصّل إلى إمكانية تجسيد صور وموجودات أخرى كانت في غالب الأحيان بالنسبة للإنسان القديم بمثابة رموز ذات قدرات هائلة، وهو بواسطة ذلك يفرض سيطرته على المحيطين به. ومن ثمّ نجد في مختلف الثقافات القديمة أنّ ’القناع’ كان يعني رمز القوّة والسلطة لإثارة الرّعب والهلع في الآخرين.

ولم تكن قيمة الأقنعة التي كانت تستعمل في الرقصات وبعض الطقوس القديمة تكمن في حدّ ذاتها كأقنعة، بل فيما كانت تقدّمه أو تشخّصه أو تجسّده. وما زالت هذه التقاليد الشعبية المتوارثة حاضرة في معظم بلدان أمريكا اللاتينية إلا أنّ معناها الرمزي تحوّل إلى مظاهر إحتفالية.

إحتلت الأقنعة التي ارتبطت بإحتفاليات المهرجانات والكرنفالات على إمتداد مختلف مراحل تاريخ الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في القارة الأمريكية مكانة مرموقة ،خاصّة في مجال الفنون الشعبية، مثل الرقص، والغناء وبعض التظاهرات التي ترجع أصولها إلى فجر التاريخ.

ويتفنّن كل بلد من بلدان أمريكا الجنوبية في صنع أشكال عديدة متباينة من الأقنعة التي لها صلة بتاريخ هذه البلدان وبالأحداث التي تعاقبت عليها ،وقد أصبحت هذه الاقنعة اليوم تشكّل جزءا أساسيا من التراث الثقافي والحضاري لهذه البلدان.

وهذه الوجوه المستعارة هي من الغنى والتنوّع، مّما يبعث على الإعجاب والحيرة ،إذ ثمة آلاف الأشكال والأحجام ذات الرموز والإيحاءات المتعدّدة، وتعكس كلها عادات وتقاليد السكّان الأقدمين لهذه المنطقة من العالم، وقد خضعت هذه الأشكال لتأثيرات واضحة بعد إكتشاف أمريكا، وتظهر فيها قوّة الإبداع لدى السكان الأصليين وعفويتهم، وهي تعبّر عن إحساس مرهف بالتعامل مع الطبيعة ومحاولة فهمها وتفسيرها.

إنّ المسرحيات والمهرجانات التي عرفتها الحضارة الإغريقية القديمة وكذا مناطق أخرى من العالم في آسيا خير دليل على مدى أهمية هذه الوسيلة في المجتمعات الغابرة، وقد إستعمل سكان أمريكا هذه الأقنعة كذلك في المعارك والحروب والمواجهات التي كانت تنشب فيما بينهم في مختلف حقب التاريخ، كما إستعملها السّحرة والمشعوذون في التطبيب وطرد الأرواح الشرّيرة . وهناك أساطير تحكي أنّ الحكام في المجتمعات الهندية عندما كانوا يصابون بمرض أو أذى أو علّة كانت تغطّى وجوههم بأقنعة معيّنة معروفة عندهم ،ولا تنزع إلا إذا مات حاملها أو شفي من علّته، كما كانت لديهم أقنعة خاصّة بالمراسيم الجنائزية، حيث كانوا يدفنون موتاهم من عليّة القوم بها.

وكان المحاربون الذين يخرجون للدفاع عن القبيلة أو الجماعة يرتدون بعض الأقنعة التي تحمل صور الصقورأو النمور وبعض الحيوانات المفترسة الأخرى لإثارة الرّعب والفزع في قلوب خصومهم ذلك أنّ ضراوة تلك الحيوانات كانت معروفة عندهم. وكان هؤلاء المحاربون في أحيان أخرى لا يكتفون بوضع الأقنعة وحسب بل كانوا يتسربلون بجلود هذه الحيوانات وريشها. وكان النمر الأرقط يحظى بأكبر نصيب في هذه الحالات.

وبعد أن إستقرّ الإسبان في القارة الامريكية أصبحت الأقنعة تستعمل في الإحتفالات والمهرجانات التي تقدّم فيها الرقصات التي تذكّر بالصّراعات والمواجهات القتالية سواء بين السكان أنفسهم أو بينهم وبين الحيوانات المفترسة، وصارت هذه الأقنعة شيئا فشيئا تكتسب أشكالا جديدة إستقدمها المكتشفون معهم من عالمهم العتيق ونشروها بواسطة المبشّرين، ومن هذه الأقنعة والأردية تلك التي كان يرتديها الإسبان خلال الإحتفالات التي تجسّد مواجهات وحروب ’المسلمين والنصارى’ أيام الحملات الإستردادية التي خاضها الإسبان ضد معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية في آخر عهودهم بها، وتعرف هذه التظاهرات باحتفالات (موروس إي كريستيانوس) والتي ما زالت تقام حتى اليوم في المنطقة الشرقية من إسبانيا خاصة في مدينتي بلنسية وألكوي وسواهما من المدن الأخرى خاصة في مدريد التي إستحدث بها هذا التقليد لاوّل مرّة عام 2002 خلال إحتفالات هذه العاصمة بعادات وتقاليد المدن الإسبانية الأخرى، و انتقل هذا التقليد مع الإسبان إلى معظم بلدان أمريكا الجنوبية التي أصبحت هي الأخرى تقيم هذا النّوع من الاحتفالات حتى اليوم في المهرجانات الشعبية والكرنفالات.

أنواع الأقنعة

أدخلت على أشكال الأقنعة التي استقدمها الأوربيون معهم إلى هذه البلدان إضافات عدّة حيث طبعت بطابع كل بلد وما تمليه تقاليده، ومعتقداته، وحضارته. وقد إنتقلت هذه الأشكال الجديدة من جيل إلى جيل. ويتسابق الصنّاع التقليديون في صنع هذه الأقنعة التي ما فتئ الإنسان ’المتحضّر’ يستعملها هو الآخر حتى اليوم في حفلاته التنكرية التي تضرب أصولها في التاريخ القديم. وخلال الحفريات الآثارية في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية عثر على أنواع عديدة من هذه الأقنعة المصنوعة من مختلف المعادن كالذهب والفضّة والنحاس والسبج والأحجار البركانية ،والأحجار السوداء الزجاجية والجزع وهو نوع من العقيق، والمحارات، والصدف واليشم الذي كان يستعمل كثيرا في تزويق وتنميق مختلف هذه الأقنعة. وبالإضافة إلى وظيفته الجمالية والطقوسية كان القناع يحظى عند السكان الأصليين باحترام كبير.

وهناك ضروب أخرى من الأقنعة الخفيفة التي يحملها أصحابها في المهرجانات الشعبية، وهي مصنوعة من الورق المقوّى المبلّل الذي يمكن طيّه بسهولة وإعداده بمختلف الأشكال المطلوبة، ثم يوضع في مكان حارّ ليجفّ وأخيرا يلوّن حسب نوعية الحفلات أو الرّقصات أو المناسبات، وتجتهد القرائح الشعبية في صنع أغرب الأقنعة والأردية والتي يكون لها وقع وتأثير في الجماهير،وتصنع أقنعة وقبّعات عريضة مزيّنة بريش الدواجن والطيور النادرة . وقد إعتاد السكان في العديد من المناطق على طلاء أبدانهم بخطوط ملوّنة، وتغطية وجوههم بأقنعة حيوانية ويبدأون في خوض غمار معركة حامية بين قوّى الخير والشرّ حيث تكون الغلبة في الأخير للجانب الخيّر على الجانب الشرّير فتشيع السعادة ويعمّ الحبور جميع الحاضرين.

وهناك نوع آخر من الأقنعة التي لا توضع على الوجه بقدر ما هي تستعمل في بعض الحفلات والرقصات حيث يتمّ وضعها للزينة، وهي تصنع من جذوع الشجر ولحائها ويقوم الفنان بنحتها بمختلف الأشكال المتفاوتة بين الفرح والحزن، والملهاة والمأساة والدعة والعنف. وما زال هذا النوع من الإبداع الفنيّ مستعملا بكثرة في مختلف بلدان أمريكا الجنوبية ،كما تصنع من جذوع الشجر كذلك تماثيل كاملة لأناس في أوضاع مختلفة (صياد، إسكافي، عازف على القيثار..إلخ) وقد إعتاد سكان هذه المناطق على لمس اللحى والشوارب التي تصنع لهذه التماثيل حيث يعتقدون أنّ في ذلك مجلبة للسّعد وحسن الطالع.

وهناك أقنعة تصنع خصّيصا لتقديم رقصات في مواسم معيّنة تؤرّخ لأحداث مشهورة في تاريخ هذه الشعوب كالإحتفالات التي تقام للشمس والأهرامات أو البحر أو لبعض تقاليد الصّيد ،حيث تستعمل في مثل هذه الحالات رؤوس الحيوانات المحنّطة مثل الأيّل أوالنمر ثم تلبس هذه الأقنعة على رؤوس الراقصين الذين يقومون بدور الحيوانات التي تركض في أعداد هائلة في مختلف الإتّجاهات مذعورة محاولة الفرار من سنان الرّماح والنبال التي تطاردها وتنثال عليها من كل جانب، ثم تذعن أخيرا وتخرّ أمام الضّربات الفاتكة وتهلك في تشنّج عضلي وإرتعاش، وتذكّرنا هذه الصّورة بالبيت العربي الطريف الذي يقول :
تكاثرت الظباء على خداش...... فما يدري خداش ما يصيد

عن موقع جريدة القدس العربي

 مقال جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)