جريدة النهار اللبنانية
الاثنين 05 كانون الأول 2011 - السنة 78 - العدد 24584
أدب فكر فن
مي منسى
المتاحف هي المكان الوحيد لا يتجرأ الموت على موجوداتها. صامدة في الزمن، تروي ما حققه الأنسان من تحف وابتكارات وروائع حتى لتبدو أحيانا أكثر بلاغة وفصاحة من كتب التاريخ. لعل أجمل مما كتبه المؤرّخون هي الآثار التي عثر عليها الأركيولوجيون، المنقبون في التربة، بحثا عن الإنسان القديم وأسلوب حياته من خلال ما طمره الزمن في جوف الأرض. هذه المطمورات هي خير دليل على تاريخ البشرية وما خلّفته من حضارة وأسلوب حياة.
الماضي حاضر في الشارقة من خلال متاحفها. متحف الحضارة الاسلامية، متحف الآثار تبدأ الزيارة فيه من العصر الحجري إلى بداية ظهور الإسلام ومتحف الفنون. المباني الشامخة عموديا، المواكبة تطوّر الزمن وحاجات الوطن للازدهار اقتصاديا واجتماعيا، لم تقف حاجبا أمام الهندسة التقليدية التي تضم ذخائر من الأزمنة الغابرة كما أهم مجموعات الفن الاسلامي في العالم العربي، بمقتنياته الممتدة على خمسة آلاف سنة. الانتقال من الحديث إلى القديم يعد بخطوات قليلة.
في العام 2008 الذي حملت فيه الشارقة لقب عاصمة عالمية للكتاب، اعيد افتتاح متحف الشارقة كمقر للحضارة الاسلامية. يثير الدهشة، التصميم الفريد لقّبته المطلية من الخارج بالذهب، محمولة على ستة عشر عمودا تتوسط الردهة الرئيسية. هذه القبة تغدو من الداخل سماء ليلية من فسيفساء موشاة برموز الأبراج الفلكية والنجوم الدالة إلى كل برج.
“في ذلك الزمان...”، هكذا تبدأ الحكايات، أما شهرزاد “ألف ليلة وليلة” فكانت دليلتنا في أنحاء قاعات المتحف، تقلّب صفحات الأزمنة التي نقشت فيها الحضارة الاسلامية. في ذلك الزمان كانت الأمبراطورية الاسلامية قد برزت إلى الوجود في القرن الهجري الأول/ السابع الميلادي. وكانت حضارات مصر واليونان والعراق وبلاد فارس والهند قد بدأ يشح وهجها، تاركة للحضارة الوليدة العلوم والأبحاث مكتوبةً بلغات تلك العصور كالفارسية القديمة والسنسكريتية والإغريقية والسريانية.
ننعطف في تجوالنا إلى عهد الخليفة المأمون، وإنشاء دار الحكمة في عاصمة الخلافة بغداد التي قام فيها دارسون وبحاثة مسلمون ونصارى ويهود من مختلف البلاد العربية وبلاد فارس والهند على ترجمة المحفوظات التعليمية التي وصلت سالمة إلى ذلك العهد، وساعدت على إطلاق هذا المشروع الجبار، النقاشات الدينية والفلسفية التي كانت تدور حول روائع الخلق الإلهي. نتيجة هذا العمل الذي رعته بغداد، أصبح في استطاعة كل الدارسين وطلاب العلم المسلمين من ربوع الأندلس غربا حتى تخوم الصين شرقا، دراسة النظريات القديمة وإعادة صياغتها.
في ذلك الوقت اصبح العالم الاسلامي مركزا في مجال أبحاث علم الفلك ودراسة حركة الشمس والقمر والنجوم، وقد نجم عن ذلك إنشاء أول مرصد فلكي في عصر الخلافة العباسية، تلته مراصد فلكية أخرى في دمشق والقاهرة والأندلس وفارس والهند والسند.
فيما التاريخ يروي مساهمات العلماء في صنع حضارة العالم، كانت المحفوظات في المتحف تنير توجهنا في هذا الماضي البعيد وتثبت وقعها في الحضارة.
مئة ألف كيلومتر هي ملحمة سفر وترحال صنعها إبن بطوطة الرحالة الشهير في القرن الثامن الهجري، جاب على مراحلها أصقاع العالم منذ انطلاقه من مدينته طنجة وصولا إلى الصين ثم جاب مجاهل إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حتى إذا لفحه العمر جلس إلى محبرته ينهل منها مغامراته الكبرى لكتاب مثير “رحلة إبن بطوطة” يحوي كنزا نفيسا من المعلومات العلمية والتاريخية.
على خطى إبن بطوطة نجول في قاعات المتحف، تأخذنا الايات المصكوكة على العملات، والخوذ المزركشة المصنوعة من المعدن الصلب والدروع بآياتها المضفورة بالرسوم النباتية. في صالة الفن الأسلامي، تتنوّع الروائع بما يغري العين ويثير الفضول سعيا إلى قراءة طلاسمها. كذلك الرداء السحري (الطلسماني) المزركش بنصوص دينية وأرقام سحرية، وتنبيه في الظهر يقول إن هذا القميص يحمي من يرتديه من أخطار السفر والحرب.
الخط هو اكثر المعروضات سموا وتنويعا. فمن بين المصاحف القديمة المحفوظة، نتوقف أمام صفحة مزدوجة مذهبة لفاتحة القرآن الكريم في مخطوط يعود إلى عهد السلطنة العثمانية. الى آيات الذكر والآيات الحكيمة المزدانة بالأرابيسك والمزخرفة بالورود.
ألف وأربعمئة سنة من الهندسة والحفر والتزويق والخط، جمعت في متحف الشارقة للحضارة الاسلامية. الصالة الأولى منه خصصت للقرون الأولى من الفن الاسلامي وتضم فخاريات ومعدنيات وزجاجيات. الصالة الثانية تحوي مصنوعات باتت نادرة تعود إلى القرن السابع الهجري. تأخذنا الصالتان الثالثة والرابعة إلى العصر الحديث، أي إلى القرن التاسع عشر للميلاد ومن الآيات المعروضة نستكشف ظاهرة المد الاستعماري الأوروبي، ما عزز التبادل الثقافي والفني بين الشرق والغرب.