مقاهي الثورة في مصر القرن التاسع عشر

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 7855
الثلاثاء 2 أيلول (سبتمبر) 2014 - 7 ذو القعدة 1435هـ
عمرو عبد العزيز منير


مقاهي القاهرة القديمة ، عالم الرجال الساحر ، يصطف رواد المقاهي فوق الدكك هنا وهناك ، يحتسون فناجين القهوة الساخنة وهم يتجاذبون أطراف الحديث فتختلط أصوات ثرثرتهم العالية مع رنين الأدوات المعدنية وإيقاع العبارات المنغمة المتبادلة بين العمال ، ويزيد من روعة وحيوية المكان المناقشات الثقافية والاجتماعية والسياسية والفكاهية لتكتسب المقاهي مع مرور الزمان وظائف وأسماء جديدة فصار هناك مقاهٍ ثقافية ومقاهٍ أدبية ، ومقاهٍ اجتماعية ومقاهٍ للإنترنت وصار يطلق على المقهى كوفي شوب، أما في القرن التاسع عشر فقد كانت المقاهي بؤرة ثورية خلال القرن 13هـ / 19م ، وعلى سبيل المثال كانت حكومة محمد على شديدة القلق من أحاديث التمرد والعصيان في مقاهي القاهرة فجندت جواسيس وعيون لها لكي تصغي للأحاديث التي كانت تدور فيها.

وعندما نقتفي آثار موقظ الشرق الشيخ جمال الدين الأفغاني في مصر نفاجأ بأن الرجل اتخذ من المقهى في مصر بوقا إعلاميا يتصل بالجماهير وكانت مثل هذه الاجتماعات تمثل الدروس العملية التي يلقيها بين زواره ، وقد كان الأفغاني يدرس العلم في البيت الذي اتخذه بحارة اليهود والسياسة في قهوة البوسطة (متاتيا) بالعتبة الخضراء ، فضلا عن إلقاء دروسه بالجامع الأزهر الشريف حينا وفي بيوت العظماء حينا آخر . ولم تشتهر قهوة في تاريخ الفكر السياسي المصري مثل قهوة البوسطة بميدان العتبة الخضراء بالقاهرة والتي كانت لها صلة وثيقة بشيخنا الجليل وتلاميذه ومريديه ، وسبب هذه التسمية ، أنها كانت بالقرب من مبنى مصلحة البريد والتي كان يطلق عليها البوسطة وهو التعبير العامي عن كلمة بوست اللاتينية في اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وهى كلمة شائعة في اللهجة المصرية بحسب المؤرخ عصام الفرماوي في حديثه عن بيوت القهوة وأدواتها . كما كانت تعرف مقهى البوسطة بمقهى (متاتيا) وهي مقهى من الدرجة الثانية والتي تردد عليها فيما بعد إبراهيم الهلباوي وإمام العبد الزجال الظريف والمازني وعباس العقاد وحافظ إبراهيم والشيخ فهيم قنديل. ومن الواضح أن الأفغاني قد اتخذ من هذه القهوة مكاناً للاجتماعات حتى تكون كل الآراء التي تقتال والمناقشات التي تجري عليه يستطيع كل عابر سبيل سماعها.
وارتبطت قهوة البوسطة بتاريخ جمال الدين الأفغاني وهو فصل من فصول الفكر السياسي في حياة مصر الحديثة ، إذ كان الأفغاني يجلس في صدر المقهى وتتألف حوله نصف دائرة من مريديه الذين يتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه ، فيرد عليهم بلسان عربي مبين ويتفتق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال فيدهش السامعين ، بتلك الدروس الوطنية . وكان الأفغاني يمضي الليل في القهوة حتى يبزغ النهار فيعود إلى داره بعد أن يدفع لصاحب المقهى كل حساب جلساته.

وحدث ذات مساء أن وجد الأفغاني نفسه وحيداً في مقهاه فأخذ عصاه في يده وذهب إلى حديقة الأزبكية المجاورة للمقهى وقد كان الشيخ من عشاق الحدائق والأشجار فأحب أن يتنزه في حديقة الأزبكية وهناك وجد مقهى قد صف كراسيه ومناضده في الحديقة فجلس وجاءت إليه صاحبة المشرب وكانت سيدة بارعة في الجمال فجلست معه وسرها أن يكون من زبائنها هذا الشيخ الوقور وطلبت له كوباً من البيرة ما لبث أن سكبها على الأرض ثم أمسك بيدها وقال : حرام أن تحترق هذه اليد الجميلة في نار جهنم !. فما لبثت أن أجهشت الحسناء وتابت إلى من يقبل التوب ، وأغلقت المقهى وتابت إلى الله.

وشاهد بعض الناس الأفغاني جالساً في هذا المقهى فأبلغوا الشيخ محمد عليش العالم الأزهري والمناوئ للأفغاني وجماعته ، فبدأ الشيخ عليش مهمته ضد الأفغاني الذي يجلس في مقاهي الأزبكية واتهمه بالفسق والفجور وعظائم الأمور ، حيث كانت الأزبكية يوماً ما من الأماكن التي لا يبيح الشرفاء لأنفسهم الاقتراب منها فكيف بالشيخ الأكبر جمال الدين الأفغاني ؟!.
كانت أحاديث الأفغاني في المقاهي تمس شغاف قلب محبيه ومريديه الذين كانوا يناقشون أحوال مصر وما يتطلبه موقف مصر حين ذاك وما جلبته القروض على العباد والبلاد من الخراب والدمار وما عسى أن تسببه بتوسيع التدخل الأجنبي فشرع يقرب العوام إليه ويفسح صدره لهم بينما يقابل الحكام وذي الكلمة بالشدة والأنفة والعزة فأوغر صدور الكثيرين ضده حيث اجتماع مجلس النظار برئاسة الخديو توفيق وقرر نفي السيد جمال الدين ، وبعد مساء السبت السادس من رمضان 1296هـ ، 24(آب) أغسطس 1879م ، وبعد خروج الأفغاني من قهوة البوسطة في جنح الليل قُبض عليه هو وخادمه أبو تراب ، وحجز في الضبطية مهاناً معذباً وبعد ذلك اقتادتهما الشرطة تحت الحراسة إلى السويس حيث ركب سفينة خرجت به من مصر إلى الهند منفياً في عهد الخديو توفيق.

ولكن الشعلة ظلت متوهجة في رفاقه من أبناء ندوة قهوة البوسطة (متاتيا ) الذين ألهبوا شرارة الثورة العرابية ، لتستمر المقاهي تؤدي دورها السياسي والثوري حتى نهاية القرن 13هـ / 19م . حيث احتشد الخياطون في أحد المقاهي ، وانضم إليهم بعض أعضاء لفافي السجائر والكثير من الرابطات العمالية للقيام بوقفة احتجاجية ضد أوضاعهم الاجتماعية . وفي حي الصليبية وخلال منتصف القرن 13هـ / 19م . كان يوجد مقهى خاص بالأتراك الباشبوزق الذين كانوا يؤجرون أنفسهم للحرب والذين فنوا جميعاً في موقعة هكس في السودان بيد دراويش المهدية . كانوا يتخذونه مقراً لهم ونقطة انطلاق لتمردهم لتأخر مرتباتهم . وفي حقيقة الأمر فإن السلطات لم ترحب بتجمع الأهالي في المقاهي لما يحتمل أن ينتج من آثار سياسية تهدد الأوضاع القائمة وخاصة أنه يحدث في تلك المقاهي تبادل واحتكاك للأفكار ومناقشات للأوضاع السائدة في المجتمع تحريضاً للثورة ضد اللامألوف واللاإنسانى .. ضد الجموح .. الهيمنة .. ضد الطبقية .. الموت ما قبل الموت…ليبدأ ثورته بالكلمة..كلمات من هنا وهناك تعبر عن نبض هذا الشعب الذي ظن البعض أنه مغلوب على أمره..لا يجرؤ على الهمس وإذا ما جرأ على الكلام فإما بالشكوى أو بالرجاء ظانين أنه يكرر ملهاة الفلاح الفصيح الذي لم ترق مستوى آماله إلا لكتابة الشكاوى إلى الفرعون الواحدة تلو الأخرى .ليذكر بعدها الرحالة التركي تايتز Tietz :»أنه إذا تصورات المقهى كتجمع يضم الغوغاء والسوقة يصبح الأمر مخيفاً حقاً «. فكثيراً ما ينتهي الحديث في المقاهي إلى السياسات القائمة خاصة وقد بدأ أكثر من انقلاب سياسي في المقهى أو على الأقل رسمت خطوطه ، فهذه قصة ثورة لا قصة قهوة !.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)