ثقافة - سياحة - تراث - Culture - Tourisme - Patrimoine

لبناني يبتكر 1000 تحفة حديدية تخليدا لذكرى والدته Liban Sud - Artisanat

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
السبـت 09 جمـادى الاولـى 1433 هـ 31 مارس 2012 العدد 12177
الصفحة : عين الشرق
بيروت (لبنان) : مازن مجوز


معيدا إلى الذاكرة الحياة القروية داخل المنزل وخارجه


بعض مجسمات موسى قبيسي التراثية («الشرق الأوسط»)

هل جربت يوما أن تقف أمام تحفة صغيرة من الحديد مندهشا بروعة ما فيها من تفاصيل فنية دقيقة؟ ستكون، بالتأكيد، على موعد مع الدهشة والإعجاب حين ترى ابتكارات اللبناني موسى قبيسي، الذي حوّل منزله في إحدى بلدات جنوب لبنان إلى متحف يحوي المئات من التحف الحديدية المنمنمة.

قبيسي، الذي التقته «الشرق الأوسط»، قال في حوارنا معه «منذ طفولتي عشقت تجسيد التراث، وعندما توفيت والدتي شعرت برغبة في تخليد ذكراها من خلال أدوات كانت تستعملها داخل المنزل وخارجه. وعند هذه النقطة ولدت لدي فكرة النحت على الحديد». وحقا ما إن تطأ قدما الزائر غرفة الاستقبال في منزل قبيسي ببلدة أنصار، الجنوبية، حتى يشعر بحياة القرية تنساب إليه أثناء تأمل مجسم مصغر للبيت اللبناني التقليدي بكامل محتوياته. وحسب موسى قبيسي استغرقت صناعته سنة كاملة، وهناك أيضا مجسم آخر لكن للقرية، هذه المرة، بكل أدوات العيش التي كانت مألوفة فيها، وهي أدوات مصنوعة من الحديد، بعدما كانت في الماضي تصنع من الحجر والخشب والنحاس وغيرها.

أدوات صغيرة وبسيطة توحي بالماضي الذي تبدأ حكايته مع الحداد العربي، الذي يعمل داخل بيته، ثم ينتقل إلى تناول الطعام في المطبخ، وهنا يوجد «جرن الكبّة» التقليدي والطاولات والكراسي القديمة، وكذلك «المَجلى» القديم والهاون (الهون) لدق القمح وسكر النبات، والمخبز القديم، ومطحنة الحمص، ثم الغسالة اليدوية على مقربة من الحمام العربي القديم، تجاوره «الكبكة» (كانت بمثابة البراد أو الثلاجة قديما). وبعد تناول الطعام، يحين وقت الراحة في غرفة النوم، وإلى جانبها «مكبس» الدخان وآلة تقطيعه، وهما من أهم مقومات تراث الجنوب اللبناني.

وكما للنوم فإن للسهر مكانه الذي تجسّده غرفة الجلوس، حيث بنادق الصيد وأسلحة الدفاع عن النفس القديمة موزعة تبعا لأشكالها الهندسية على جدران الغرفة، ومنها «الطبنجة» (المسدس القديم) والسيف والترس ومجموعة من الخناجر القديمة، والقوس والنشاب (السهم).

واللافت داخل هذه الغرفة أنه بإمكان عاشقي لعبة طاولة الزهر (النرد) و«الداما» ممارستهما، على أنغام الموسيقى والطرب الأصيل الصادرة من الأسطوانة القديمة التي تعمل على الهواء، بينما يستمتع اللاعبون بارتشاف فنجان من القهوة أو الشاي، من دون أن يفوت الزائر فرصة الجلوس على الكرسي المتحرك، في حين يتكفل الشمعدان والشعلة القديمان بإنارة الغرفة، من منطلق أن التيار الكهربائي ما كان قد بلغ القرية في تلك الحقبة الزمنية (منذ أكثر من 50 سنة).

لكل يوم فكرة وتحفة حديدية من إنتاج موسى قبيسي، الذي يعمل منذ 15 سنة على استكمال مشهد التراث القروي اللبناني، من خلال زيارات دردشة واطلاع يقوم بها كل أسبوع للمسنين والمسنات في القرية والقرى المجاورة.

وردا على سؤال، أجاب قبيسي، الذي ترك العاصمة بيروت بعدما عاش فيها 20 سنة «حبّي للقرية وحياتها جعلني أشعر بلذة واستمتاع بحرفتي، التي علمتني الصبر وتحدي الذات وكيفية الابتكار، خاصة أنني أعمل بها منذ عمر السابعة، واليوم وغدا بإمكاني تنفيذ أي فكرة تراودني».

مراحل التصنيع عند قبيسي تبدأ من الرسم على الحديد بواسطة قلم حبر، ثم قص الرسوم بالمقص اليدوي، ومن ثم يأتي دور «الكماشة» والشاكوش وآلة تلحيم الحديد والمطرقة الصغيرة، بهدف تطويع التصاميم وجعل أطراف البعض منها بارزة. ولاحقا يأتي دور طلاء كل قطعة باللون المناسب.

نحو ألف قطعة صغيرة تشكل بامتياز إنتاج قبيسي الفردي. وهو يفضل أحيانا البقاء ساهرا لكي يترجم فكرة أو تصميما ما راوده خلال النهار. وخلال الحوار معه قال إنه لا يتردد في جمع الخردوات التي يرميها الناس في شوارع البلدة أحيانا، وشراء ألواح من الحديد أو صناعتها أحيانا أخرى، لتكون بمثابة المواد الأولية لابتكاراته.

ومن مجموعات المجسمات اللافتة مشهد الفلاح «أبو شكيب»، وقد جلس أمام فرن النار يصنع العربات ويبيعها، وهي مخصصة لنقل المياه يجرها حمار، وأخرى لنقل الناس. ولا يكتمل هذا المشهد إلا مع رؤية زوجته وهي تخبز على «الصاج»، وقربها «اللكن» (وعاء معدني كبير يوضع الخبز بداخله) و«الكارة» (وهي أشبه بوسادة دائرية تحمل العجين إلى «الصاج» لخبزه، و«الطبلية» الخشبية، يقابلها ما كان يسمى بـ«سكة الفلاحة» (عود الفلاحة أو المحراث) المتعددة القياسات، فضلا عن «المهباج» (الذي يطحن حبات البن) ومحمصة البن و«الجاروشة» لجرش الحبوب، ومكبس الزيتون وعصارة الليمون الحامض القديمة.

أيضا تستوقف الزائر «البوابير» (جمع «بابور» أي الموقد النحاسي الذي يعمل على الكاز/ الكيروسين) النحاسية من مختلف الأحجام، وطناجر إعداد الطعام والقمح القديمة، ومنها «الحلة» (الطنجرة الكبيرة)، بالإضافة إلى مجموعة من النراجيل (جمع نارجيلة أي «شيشة») بمقاسات متعددة، وهذا من دون أن ينسى «صانع القرية» تجسيد مدينة ملاه للأطفال فيها الحديث والقديم حيث البعض من ألعابها يعمل على الهواء. بل حتى «حرب غزة» عام 2008 فكر فيها قبيسي، فخصص لها مجموعة من الصواريخ والمقاتلين المزودين بالأسلحة الفردية، وفي ذلك أوضح «خطر لي أنه إذا كنا لم نستطع المساعدة باليد فلنساعد بالرمز».

زبائن قبيسي في معظمهم من داخل لبنان، لكن قصده أيضا من البحرين خمسة زبائن حتى الآن، وأرسل إلى أصدقاء له في المملكة العربية السعودية عددا من ابتكاراته كهدية، مع أنه يحرص على القول إنه يتمسك بالعديد من نتاجه لما يحمله من ذكريات.

نحو 3 ساعات يوميا يخصصها موسى قبيسي من وقته لصناعة مجسماته المنتشرة في أنحاء المنزل، وهذا بالذات أمر يثير امتعاض زوجته، ليأتيها الجواب «ما يهمني هو التعبير عن أفكاري، لا يهمني مبدأ البيع بقدر ما تهمني الشهرة». وحقا، شارك قبيسي في عدة معارض لبنانية، منها معرض «إبداع»، الذي عرض فيه مجسمات القرية والمنزل القروي.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)