ثقافة - سياحة - تراث - Culture - Tourisme - Patrimoine

قلعة موسى المعماري بناها صاحبها بمفرده تحديا.. بسبب حبه الأول Citadelle - Liban - Chouf

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الاثنيـن 23 جمـادى الثانى 1433 هـ 14 مايو 2012 العدد 12221
الصفحة : عين الشرق
بيروت (لبنان) : مازن مجوز


محولا حلمه إلى أحد معالم لبنان الأثرية الفريدة


قلعة موسى.. كما تبدو من الخارج («الشرق الأوسط»)

يقولون: «من الحب ما قتل»، أما بلغة موسى المعماري فإن «من الحب ما بنى قلعة غريبة الشكل والقصة». إنها قصة تؤكد أنه لا شيء مستحيل في قاموس الإنسان، وذلك بعد أن تحولت قلعته إلى مثال ساطع للتحدي والإرادة القوية، وإلى معلم من أهم معالم لبنان السياحية...، وكل هذا في سبيل تحقيق حلم راوده منذ طفولته.

قال موسى المعماري لـ«الشرق الأوسط» عندما التقته، راويا قصته مع قلعته الشهيرة اليوم: «عندما كنت طالبا في المدرسة عمري 14 سنة، أحببت إحدى زميلاتي وكان اسمها سيدة وكان والدها ثريا يملك قصرا. وعندما صارحتها بحبي، أنا الفتى الصغير ابن العائلة المستورة، سخرت مني وأجابتني (عندما تملك قصرا يصبح بإمكانك أن تتحدث إلي).. وحقا، منذ ذلك اليوم صارت هوايتي في المدرسة رسم القصور والقلاع». «قلعة موسى» - كما تعرف - تقع قرب بلدة دير القمر في منطقة الشوف بجبل لبنان، على مسافة 40 كلم عن بيروت. وبدأت معالمها تتبلور على الورق بادئ الأمر، ما أثار استهجان الأستاذ أنور، أحد مدرسي موسى في مادة الرياضيات، الذي أكمل معه ما بدأته سيدة. إذ قال له ساخرا عندما شاهده منشغلا بالرسم «ماذا تفبرك (تصنع)؟ هل تصور قصر والدك يا فقير..؟» فرد موسى يومذاك بأنه رأى هذه القلعة في الحلم، فراح مدرسه يضربه بقضيب رمان، ثم مزق الرسم ورماه أرضا.

وبعد يوم على إعلان هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ترك موسى المدرسة منتقلا من مدينة طرطوس السورية حيث كانت تقيم أسرته، قاصدا عمه عيسى المعماري في مدينة صيدا، بجنوب لبنان. ويومذاك كان عمه يعمل في ترميم قلعة صيدا البحرية، ومن ثم شق موسى طريقه محترفا ترميم المباني الأثرية.

وعام 1949 انتقل موسى إلى قصر بيت الدين، قصر أمير جبل لبنان الأمير بشير الثاني الشهابي، ليرمم متحف القصر. وكان عمله في المتحف سببا في اختياره موقع القلعة التي بناها لاحقا، نظرا لوقوعه في الجهة المقابلة تماما عبر الوادي الفاصل بين دير القمر وبيت الدين.

بمبلغ 15000 ليرة لبنانية باشر موسى بناء قلعته، بمشاركة زوجته عام 1962، واصلا الليل بالنهار. وهنا يتذكر فيقول «حملت حجارتها على ظهري، وقد تجاوز وزن بعضها 150 كلغم. لقد نقلت 6540 حجرا ضخما إلى موقع القلعة، ما تسبب لي بمرض ترقق العظام الذي أعاني منه حتى اليوم».

حجرا على حجر شيد موسى قلعته الشهيرة التي تجتذب منذ سنين السياح اللبنانيين والعرب والأجانب. وهي تنتصب بناء فريدا من نوعه، تتميز كقلاع القرون الوسطى ذات الأبراج، بجانب الحجارة الصخرية المنحوتة والمنقوشة، إذ على كل حجر رسم موسى نحته بإبداع وفرادة بحيث لا يوجد حجر مشابه للآخر.

وردا على سؤال أجاب موسى، ابن الثمانين سنة، أن رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون (حكم بين 1952 و1958) وعقيلته زلفا كانا أول من زار القلعة، مضيفا «آنذاك ساعدني الرئيس شمعون في الحصول على قرض مصرفي طويل الأمد (60 ألف ليرة)، بعدما أهداني الجنسية اللبنانية»، كذلك كان من بين أشهر الزعماء الذين زاروا القلعة كمال جنبلاط الذي ساعده في الحصول على قرض ثان بقيمة 10 آلاف ليرة ساهمت في تحقيق حلمه.

يلج الزائر باب القلعة على جسر خشبي متصل ببوابة رئيسية مصنوعة من الرصاص القاسي، يعود تاريخها إلى زمن المماليك والصليبيين، وقد نقش عليها صاحبها عبارة «دخلناها شبابا وخرجنا شيبا». المشاهد داخل القلعة كثيرة ولافتة. ففي الطابق الأول هناك 75 شخصية جسدها صاحبها عبر تماثيل شمعية، تضم أفراد عائلته وأقربائه وجميع الفلاحين والعمال الذين آزروه في بناء القلعة، ولقد أناط بكل شخصية حرفة، ليصبح القصر أشبه بمجتمع مكتمل الأركان.

سراديب تمتد إلى الطابقين الثاني والثالث، حيث يستقبل الزائر في الطابق الثاني مشهد الأمراء ومشهد الوحدة الوطنية المتمثل في جلسات رجال الدين الذين يمثلون طوائف لبنان الـ18، إلى مشاهد المحاكمات التي كانت تجري في أزمنة عدة من التاريخ، ثم هناك مشاهد الينابيع وملء الجرار والعلاقة مع القمح ودرسه في البيادر على النورج... وصولا إلى المطحنة ورغيف الصاج، ثم هناك الآلات الموسيقية القديمة كالمجوز والدف والربابة والبزق والعود وغيرها. واللافت أيضا وجود مجسم لموسى وآخر لأستاذه أنور وهو ينهال عليه ضربا، بينما رفاقه يتضاحكون على مقاعد الدراسة، وكذلك جلسة الضيافة، وبالأخص، جلسة القهوة العربية.

وفي أحد ممرات القلعة، تطالع الزائر مقولة لموسى هي «علمتني الحياة أن هذا العالم لن يتوقف عن استمراره بعد موتي، كما أن الأرض لن تحجم عن دورانها، والشمس لن تكف عن شروقها وغروبها».

وفي آخر المطاف، يتربع متحف الأسلحة - الفريد من نوعه في الشرق الأوسط الذي جرى تدشينه هذا العام - ويضم نحو 32000 قطعة سلاح من مختلف العصور، لا سيما العصر العثماني وفترة الانتداب الفرنسي، فضلا عن المعادن والحجارة الثمينة والأساور والألبسة وغيرها.

ولم ينس موسى، صاحب كتاب «حلم حياتي» الذي طبع منه 150000 نسخة عام 1986، حبيبته الأولى سيدة التي زارته فعلا بعد فراق طال 67 سنة، مستقبلا إياها على طريقته الخاصة. وهنا علق قائلا: «كنت أحرص على دخولها من الباب المنخفض للقلعة أردت أن تركع أمامي، مثلما ركعت يوم ضربني أستاذي...».

أخيرا، أمام القلعة، أنشأ موسى البرك والساحات وجعل فيها المقاعد المتنوعة الأشكال والأحجام، وإلى جانبها بنى استراحة مشابهة جدا في شكلها وهندستها للقلعة، تقام المناسبات الخاصة صيفا وشتاء. وطبعا لا يكتمل المشهد السياحي من دون الجمل والحصان والحمار وعربة الخيل عند من لقب بـ«المعماري» نظرا لتشييده قلعة بمفرده، وهو اليوم يقص على زواره برفقة زوجته رواية القلعة بناء لطلبهم. غير أن ما يحز في نفس موسى، رغم نجاح تحديه، أن وزارة السياحة اللبنانية لم تضع قلعته على الخريطة السياحية حتى اليوم، مشيرا إلى أنه «راحل غدا لكن القلعة باقية»، وأن أولاده «قد يستفيدون منها لكنها لن تكون لهم، بل ستبقى معلما لبنانيا بامتياز».

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)