الإثنين، 23 كانون الثاني/ يناير 2012
جريدة القبس
علي حسن الفواز
كلما اشعر ان ثمة صدمة تهز حياتنا العربية، استعيد ما تعالق في الذاكرة من مراث لهذه الحياة المدماة دائما، اذ لا تبدو خريطة بلدانها الاّ وهي مباحة للحروب الصغيرة والكبيرة، مثلما تبدو كائناتها وكأنها شبيهة بكائنات جورج اورويل ممن يبحثون عن هروبات سرية خارج اوهام السلطة/ المزرعة، والسلطة الرمزية للاخ الكبير.
البلدان والكائنات والمدن في هذه الحياة معرضة للاصابة بعدوى الجدب والتصحر والثورة، مأخوذة بنوع من الاندفاع الميتافيزيقي الى جغرافيا طرق لا تؤدي الاّ الى المزيد من مدن «الملح» تلك التي تصطنع لها على الدوام اشكالا من الطاعة والمازوخيا التي كثيرا ما تتحول الى عقائد وايديولوجيات وطوائف ومحاربين وفتاوى.
لا اعرف حقا لماذا استعيد عبد الرحمن منيف وانا اتمرأ امام هذه الصدمات التي تجتاح امكنتنا العربية، ربما لانه الكائن العارف بسرديات وشيفرات هذه الامكنة، وربما هو الاكثر تلصصا على اسرار المدن ورمزية الكائن/ المثقف المتسلب والمنفي فيها، وربما هو ايضا القريب من مراثي المعايش التي تصنعها «اقتصاداتها الشوهاء» تلك التي لم تترك الاّ المزيد من الجياع وانصاف الثوار والحالمين المهووسين بعقدة الشبع وليس الحرية.
فوبيا المثقف
عبد الرحمن منيف هو اكثر موتانا استعادة لفكرة الحياة الصاخبة بالاسئلة، واكثرهم رميا للحجر على اليافطات العالية، واحسبه ايضا الاكثر قلقا ازاء فوبيا المثقف العربي، المثقف المخذول، والمسكون بسايكوباثيا الحكومات التي حملت شرق المتوسط الى شرق آخر، وتركت الكثيرين عند ضفافه التي لايعبرها الاّ «العداؤون وراكبو الدراجات» كما يقول محمد الماغوط.. عبد الرحمن منيف كان هو الاكثر مهارة في الدعوة للتفرج على لعبة هذا «اللاعبور» التي نكرر في نصوصها صناعة احزاننا وهزائمنا ومنافينا وموتنا في الامكنة الوطنية.
علاقة منيف بالموت علاقة حاضرة ومشدودة بقسوة الى مرجعيات متعددة في نصوص مشبعة بالغياب والاقصاء، اذ «نستشعرها هائمة حولنا، تلمسنا انفاسها احيانا، او نكاد نجزم اننا نسمع وشوشاتها» كما يقول سليم بركات. ولهذا فان قراءة خطاب الموت في السيرة «المنيفية» تبدو وكأنها محاولة مفتوحة لقراءة موت هذه الامكنة العلني عبر اشهار موت بطولتها الرمزية.
قلق الكائن العربي
في هذا السياق تضعنا الشواهد الروائية لمنيف امام احتمال قراءتها دائما، ليس لانها زاخرة بالاصوات والاسئلة، بقدر ما انها تستعيد قلق الكائن العربي عبر استعادة الوجوه الشاحبة لأمكنته، اذ يسرد اغتراب هذا الكائن بنوع من المفارقة، وكأنه يكتب سيرتنا السرية، اوجاعنا المكشوفة، صراعاتنا غير المجدية.
مقترح استعادة قراءة يكتسب اهميته من خلال تلمسه لمعطيات وتحققات ما يحتدم به السري (المسكوت عنه) في حياتنا العربية عبر ما يتمظهر فيها من صراعات وجودية يتشوه فيها الكائن والهوية والمكان، والتي كانت حاملا لهاجس انهيار النموذج الرومانسي الثوري للبطل القومي واليساري التقليدي الذي جعل من شرقه المتوسط (المكان ونمط العيش الصانع للازمات) حاضنة انطولوجية تشي بمدونات المخيال السردي التي تشبه وقائع التاريخ كثيرا.
أزمة البطل
عند استعادة الذكرى الثامنة لرحيل عبد الرحمن منيف، نقف امام غابة من الاسئلة، تلك التي تنكشف على أزمة البطل السردي والتاريخي (السياسي والاجتماعي والايديولوجي)، وأزمة العقل الثقافي الباحث عن شيفرات الخروج من «مدن الملح وارض السواد» الى مدن واراض لتجاوز مسخ الكائن، ومسخ هويته ووجوده.
فهل هذه المدن والارض التي تحدث عنها منيف كثيرا تخصنا حقا؟ وهل نحن مصابون فيها بفوبيا التاريخ والمقدس والسلطة؟ وهل ازمة العلاقة ما بين الكائن والمكان هي علاقة قهرية وصانعة لاغترابات عميقة وطاردة ايضا؟
وهل شرقنا المتوسط السياسي والسلطوي ما زال مكانا مفتوحا على انتاج اقصاءات واوهام دائمة لمسجونيه العاطلين عن البهجة؟ وهل حاضرنا بكل ما يحمله من اسئلة وحروب صغيرة وكبيرة، واحزان دامية يشبه ما تركه لنا مخياله السردي في مدن الشرق المتوسط ومدن الملح والسواد من خواء وخيبات ومرائر وخيانات؟
هذه الاسئلة هي جزء من فجيعة عبد الرحمن منيف الانسانية والثقافية التي اكتشف من خلالها خديعة احلامه الثورية، وخطيئة ما تركته السرديات الكبرى في الايديولوجيا والتاريخ، لذا اقترح الهروب الى نصه السردي المضاد، نصه الباهظ والغاوي في تخيله وتلصصه على انماط اوهام البطولات والثورات والثروات، وعوالم الحالمين الراحلين الى موتهم. نصه السردي الذي ظل يناظر التاريخ ويناهضه تماما، سرد يحرضه على استعادة فكرة الموت، وكأنه مثال لاعلانه الرمزي عن موت اكثر عمومية، هذا الموت الذي يكشف عن هموم الجسد العربي، والعقل العربي، والمكان العربي.
رعب السلطة
تلك الهموم العاتية التي تكشف ايضا عن مخاوفه من رعب السلطة وطوطمها، ورعب الايديولوجيا والثروة، اذ يتحول المكان العربي في نصوص سردياته الى سجن كبير، وتتحوّل مخالب السلطة ذاتها الى سجّان اكبر.
يموت عبد الرحمن منيف منفيا عن كل الامكنة التي توزع مرعوبا ومتشظيا بين جغرافيتها الجينية والوجودية، يموت غريبا في «مقبرة الغرباء» مثل الغرباء الآخرين الذين شاطروه مطرودية الامكنة (الجواهري، البياتي، مصطفى جمال الدين، هادي العلوي). يموت عبد الرحمن منيف بعد تراجع الاسئلة الى حدودها الاولى والى عمق السواد الذي هبط على ارض السواد ليقول للاحياء الموتى وداعا، فما عاد الزمن صالحا لابطال مهذبين عالقين بأصابع السماء، انه زمن الاحتلالات الكبرى، زمن الاحتلالات الوطنية، مثلما هو زمن الحرائق والقسوة وفتاوى الارهاب ووصايا الحكومات التي تطبخ لمحكوميها الاف الخرائط المؤدية الى سجون ومناف تشبه الشرق المتوسط كثيرا. وسط هذا الزمن ووسط حاجتنا الى فقهاء واصحاب وصايا لا يشتمون بعضهم بعضاً، ولا يكفرون بعضهم بعـضاً، نسعى إلى استعادة عبد الرحمن منيف، وكأننا نستعيد القوة الاخلاقية الخبيئة لمواجهة اسئلتنا المرعبة والطاعنة، اسئلة الخراب، اسئلة الوصايا القديمة والامكنة القديمة والمنابر التي انتجت نعاسنا وبلاغتنا البليدة..
متحف التاريخ
كان عبد الرحمن منيف ينسج في فضاء انتماءاته المتعددة هويات ناتئة، تخوّل له ممارسة لعبة السيادة على «الثقافي النكوصي» بكل فخاخه الموهومة بأمجاد عاطلة. يستقرىء عبر حفرياته السردية في تلمس ما تركه من اثر لا وجود له، اثر يستعير من متحف التاريخ الكثير من صناديقه، اقترح كتابة مضادة لمواجهة ازمة المكان العربي عبر سرديات «الجسر المتروك، السجن في شرقه المتوسط، الاغتراب، المدن المالحة، المدن السوداء، الاشجار التي تغتال مرزوقها، التوهم المجوسي» وهذه السرديات بما تحمله من استعارات وشيفرات لغوية هي الاقرب الى ما يشبه النص المضاد، النص التطهيري، الذي يضعه امام لعبة اعتراف سردي هائلة.
عبد الرحمن منيف في هذا السياق هو اكثر الروائيين العرب كتابة لسردية الاعتراف، الاعتراف الذي يقوم على تقنيات روائية تنحني على تفكيك المكان، والخطاب والوعي، وتلمس ازمة الشخصيات من خلال هذه التقنية، فضلا عن استغراقه في كشف مستويات الزمن السياسي الماكث في الثبات والمقصي عن اي غواية في التحول.
نمط الكتابة التي استغرقت عبد الرحمن منيف حولته الى خصم شعبي للدولة التقليدية التي ورثت غلاظة الحكام القدامى وقسوة اغترابها لمواطنها الحالم، وهذا ما جعله لا يبحث في التاريخ الذي صنعته الدول السرية ومزاجيات رواتها المهووسين برعب الايديولوجيات والمخيال الشعبي، بقدر ما يبحث عنه كنوع من السرد المقصود بوعي، والحامل لمعان اشكالية تجسد الصراع الانساني الازلي ضد القبح والشر.
كل القراءات المحرضة
السلطة هنا هي الشر، والمكان/ السجن/ مدينة الملح، هو المنفى الحقيقي. الانحياز الى هذا التوصيف جعله قريبا من كتابة المختلف المثير للاسئلة والمسكوت عنه الذي يحتاج دائما الى اصوات عالية، والذي يدعو الى ضرورات الانحناء على توجيه كل القراءات المحرضة على نزع الاغطية عن التاريخ القمعي القديم وعادات القمع الموروثة وانماط السلطات التي افقدت العالم القديم علياءه الاخلاقي وربما افقدته عقلانيته ووظائفه في الحياة وفي الفاعلية التاريخية.
وهذا ما تمظهر في روايات «قصة حب مجوسية» و«الاشجار واغتيال مرزوق» و«شرق المتوسط» و«ارض السواد» و»شرق الاوسط مرة اخرى» وغيرها، اذ عمدت هذه الروايات الى كشف ثيمات الحزن الذاتي والخواء السياسي وفضح بنيات السلطات الموهومة، تلك التي انتجت هذا الحزن والخواء، مثلما عبرت على المستوى الفني على قدرة استثنائية في توظيف السردية الواقعية كفن متعال لانتاج الخطاب والحكاية والمكان واعادة انتاج الثيمة التاريخية.
استعادة تذكر عبد الرحمن منيف، تعني استعادة فاعلية القراءة التي تضعنا امام مستويات اخرى من فاعليتها كما يقول ريفاتير، تلك التي نستعيد معها ازمات الامكنة العربية التي كانت الثيمة الرئيسية لمنيف.
رمزية السواد
توظيف عبدالرحمن منيف للحدث واشتغاله على منظومة مفاهيمية مركبة اعطت له مساحات اضافية هي في جوهرها بنيات رمزية عكست وعيه «الظاهراتي» باشكالات المكان/ الشرق وسلطاته، اذ جعل هذا المكان هو القمع والحرية في تضادات متوالية، وجعل غيابه هو التماهي مع الرموز والشيفرات التي تحيل الى المسكوت عنه في التاريخ الافتراضي وعقله الحكائي والذي تجسد اكثر وضوحا في خماسية «مدن الملح» وفي رواية «ارض السواد»، ففي هذه الرواية امتزج الحدث بقوة المخيال والبنية الحكائية ونصوص المؤرخين للتمظهر في نص سردي تتراكب فيه الوقائع مع سيرة المكان التي تحمل معنى معكوسا، اذ يتماهى مع سيرته الذاهبة بعيدا في شغف الكشف والتعرية، هي مقابل منظوره العميق الغائر في شيفرات النصوص الاسلامية التي استقرأت رمزية «السواد» بوصفها كناية عن الوفرة.
لكن منيف استعادها لتكون محموله الرمزي في التعبيرعن الوحشة والموت والفقر والحرمان والخيانات والاوهام والقمع والعلاقة المأزومة بين الحاكم والمحكوم.
أحلام اللذة الغائبة
استذكار موت عبد الرحمن منيف بعد زمن من الحزن المكثف يدعونا الى يقينية البحث عن حلول لهذا الحزن الطويل، وكيفية انقاذ الجلد العربي من بثوره السامة، والبحث عن اطمئنان صالح للاستعمال، وعن ثقافات تدخل في الزمن اليومي للمواطن مثقفا او سلطانا او صانعا للمهارات، لتعيد تأهيلهم لممارسة تنظيف شمولي للقواعد الخلفية والامامية للعقل العربي، واحلام يمكنها ان تنقلنا الى فضاء من اللذة الغائبة والمدن الحقيقية التي ينام بها السيد المواطن، بعيدا عن شواردها!!
وعن اوطان تصلح للمواطنة والسكنى والمعيش والوفرة، وتملك القدرة على انتاج معارضات لا تملك اسلحة نووية وسكاكين للذبح العشوائي وعقائد انيقة وغير نافذة المفعول، ولا تعاني عقد الاحتلال والعسكر والامبرياليات السياسية والثقافية، لها القدرة على الحوار البشري وتغيير جلد الحكومات باطمئنان كامل.
لقد كان عبد الرحمن منيف شاهدا على سايكولوجيا القلق التي همشتنا كثيرا وتركتنا عند نوبات طويلة من الصرع الوطني، وهو ايضا الشاهد المدني على ازمات الحكومات العربية والمدن العربية وهو ايضا المثير الدائم لممارسة لعبة الاحلام التي هي شهادته التي لا تقبل التزوير لانها جزء من اوراقنا الثبوتية.
دار القبس للصحافة والطباعة والنشر مؤسسة صحفية كويتية يشرف عليها ويديرها مجلس إدارة مكون من المساهمين وعددهم خمسة أعضاء .صدر العدد الأول منها بتاريخ 22 فبراير 1972 وترأس تحريرها جاسم احمد النصف لغاية 1983 ، ثم تولى رئاسة التحرير محمد جاسم الصقر من فبراير 1983 ولغاية 4 يوليو 1999 ثم تولى رئاسة التحرير وليد عبداللطيف النصف منذ 5 يوليو 1999 وما زال لتاريخه .