طنجة الأسطورة... طنجة الواقع Maroc - Tanger

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي



11-03-2013
جريدة القدس العربي
يحيى بن الوليد


استلهامات فنية سافرة وتنميطات استشراقية باطنة


استوعب فضاء طنجة كتابا أجانب عالميين، ورسامين ورحالة وموسيقيين وسينمائيين وإعلاميين... إلخ. ويصعب حصر جميع هؤلاء الذين انشدوا إلى ’أسطورة طنجة’ على مدار الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وأبدعوا فيها أو حولها. وعلى هذا المستوى فقد خلـّف هؤلاء متنا قائما بذاته أو تراثا قريبا أو نصا يمكن الاصطلاح عليه بـ’النص الطنجي’ الذي لا يفارق، وفي حال هؤلاء تعيينا، نوعا من ’العالمية’ التي لا تذيب ’المحلية’ أو ’الخصوصية’.

غير أن ما يلفت النظر، ضمن لائحة الكتاب الأجانب الذين أقاموا بطنجة، كثرة الكتاب الأميركيين، مما يطرح أكثر من سؤال حول أسباب هذه ’الإقامة’ التي يلتبس فيها ’الشخصي’ بـ’الثقافي’ أو’التمثيل الثقافي’ بـ’الحضور الكولونيالي’ بالنظر إلى ’الحضور الأمريكي’ ككل في المغرب على مدار الفترة الممتدة من الحرب العالمية الثانية إلى العام 1973 الذي سيكشف عن منعرج الميل الأمريكي إلى ’الشرق الأوسط’ بسبب من ارتفاع أسعار البترول.

إجمالا لقد ’جاء الأمريكيون إلى مغرب ’فرنسي’ أفلت نسبيا من الأحداث التي روَّعت أوروبا منذ شتنبر 1939 وأدت إلى انتصار ألمانيا الهتليرية’. وقد كان، وللتذكير، الإنزال الأمريكي بالمغرب يوم 08 نونبر 1942. غير أنه لا ينبغي تلخيص الحضور الأمريكي بالمغرب في الإنزال العسكري فقط، ذلك أنه ثمة حضور من نوع آخر يمكن نعته بـ’الحضور الأمريكي البحثي’ وعلى ذلك النحو الذي أفضى بالبعض إلى الحديث عن نوع من ’المغرب الأمريكي’، وخصوصا من ناحية البحث الأنثروبولوجي الذي بموجبه يمكن الحديث عن نظريات وتيارات جعلت من المغرب، بزواياه وأسواقه... وأحزابه، موضوعا للدرس النظري والبحث الميداني.

ونجد بين الكتاب الأمريكيين الذين سيقيمون بطنجة بول بولز وليام بروز وألان غينسبرغ وبرين غيسن وترومان كابوتي وجون هوبكنز وتيد جونس وباتريسيا هايسميث وكافن لامبرت وجين بولز(زوجة بولز)... إلخ. وقد وفرت طنجة لهؤلاء فضاء يصعب العثور على ما يماثله في عواصم الغرب بل وحتى في نيويورك. يقول الكاتب جون هوبكنز موضحا: ’لا حظت أن هناك عددا كبيرا من غريبي الأطوار قد شدوا الرحال إلى طنجة من كل بقاع العالم. كتاب وفنانون وسينمائيون... لو كنت أقطن في نيويورك ذاتها لما سنحت لي الفرصة بالتعرف على كل هؤلاء كما هو الحال هنا بطنجة’ (’حوارات أمريكية في طنجة’، صص122 ــ 123(.

وفي الحق يكشف الكتاب الأخير (2005)، وهو لصاحبه الكاتب والصحفي عبد العزيز جدير، ومن قبل كتاب بوبكر الكوش ’Regarde، Voici Tanger’ (1996)، ومذكرات محمد شكري عن جانب مهم من قصة هذه ’الإقامة’ التي لا تفارق نوعا من ’الحتمية المكانية’ والإقرار، بالتالي، بأهمية دور ’الثقافة’ على مستوى الإسهام في تشكيل ’المكان’. وعلى هذا المستوى لا نرغب في السقوط في ذلك الطرح القومي التخييلي التبسيطي الذي يذهب إلى أن طنجة أفادت هؤلاء الكتاب الأجانب أكثر مما استفادت منهم. إننا نذهب إلى رأي الناقد المعماري محمد المطالسي الذي يتصور أن طنجة تغذت سمعتها، قبل كل شيء، من المتخيل الأدبي والفني الدولي الذي يعكس الطابع الكوسموبوليتي لتاريخها. فـ’المخيال الاجتماعي’، بدوره، يسهم في بناء الأمم.

وفي ضوء ما سلف فإن الأمر لا يتعلق بـ’شاعرية المكان’، أو بالأدق ’شاعرية الفضاء’ تبعا لعنوان الفيلسوف الفرنسي الشهير غاستون باشلار، ولا بـ’عبقرية المكان’ تبعا لمقابله المفكر والجغرافي المصري جمال حمدان. إن المكان، هنا، لا يحيد عن دائرة ’إحداث الآخر’ أو ’تشكيل العالم الثالث’ من قبل ’الغرب’، ’الغرب الكولونيالي’ تحديدا. ثم إن طنجة كانت تقع في صميم ’المحيط الإمبريالي’ في تفاعله مع المركز أو المراكز الإمبريالية، هذا بالإضافة إلى أنها كانت تحظى بموقع جغرافي استثنائي ومتفرد إذا ما ذكَّرنا بأنها بوابة ما تنعته الكتابات الكولونيالية بـ’القارة المظلمة’ و’المخيفة’ و’المتوحشة’ أو ’قلب الظلام’ إذا جاز عنوان رواية جوزيف كونراد الشهيرة والمتداولة بشكل واسع في ’نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي’... وكل ذلك في مقابل ’القارة البيضاء’ ’العقلانية’ و’المتحضرة’... إلخ. غير أن طنجة كانت استثناء داخل الغابة الإفريقية، كانت تنعم بأشكال من ’التمدن’.

وإضافة إلى ما سلف فإن طنجة، أو ’طنجة ــ الخطر’ (Tanger- Danger) كما كانت تلقب من قبل الأجانب وقتذاك، و’طنجة ــ المشكلة’ كما كانت تنعتها كتابات أجنبية في عشرينيات القرن الماضي، لم تتعرض لـ’استعمار تقليدي’ من قبل دولة أو إمبراطورية واحدة. كانت، وعلى مدار الفترة الممتدة من 1923 إلى 1957، تحت تصرف عشر دول أجنبية، بل إن ما كان سائدا فيها هو ’الطغيان الكوني الاستعماري’ (الدولي) كما لخصه محمد شكري.

وكان الأجانب ينعمون فيها باطمئنان تام وبحرية مطلقة، وقد استمر هذا الوضع إلى الخمسينيات الصاعدة. يقول الكاتب الأمريكي وليم بوروز عن مدينة طنجة التي زارها أول مرة العام 1952: ’مدينة الحرية المطلقة، تقريبا. مدينة افعل ما يحلو لك، فأنت حر. أنت في مكان يمنحك كل شيء أكثر مما لو كنت في بلدك الأصلي. أنت تقريبا مواطن فوق العادة. فوق القانون، تقريبا. يمكن أن تملك أنت الأجنبي السلاح وتستعمله ولا تخشى خطرا كبيرا...’ (’حوارات أمريكية في طنجة’، ص88). و’في حال نزاع بين عربي وأمريكي فهذا الأخير يكون له دائما الحق، تلقائيا’ كما يضيف وليام بوروز نفسه (’بول بوولز وعزلة طنجة’ (ص36). إنه ’المغرب الأمريكي’! لكن بغير المعنى الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل. وحتى في فندق ’المنزه’ و(كان ولا يزال أبرز فنادق طنجة) لم يسمح لمحمد شكري، كما يحكي في ’جان جنيه في طنجة’ (ص27)، بالدخول إلا مع جان جنيه الأجنبي. ومن قبل كانوا قد منعوه من الدخول، واعتبر الأمر ’إهانة’.

وفي طنجة كانت هناك مدينتان: طنجة الغارقة في ’التقليدانية’ وطنجة المشدودة إلى ’التمدن الأوروبي’؛ كانت توجد بها مدينتان في مدينة واحدة كما قال محمد المطالسي، غير أن الصورة الأخيرة هي التي ستكون مهيمنة على الرغم من مقاومة بعض الفقهاء. ونتيجة موقعها ’الجغرافي الثقافي’ كان من الطبيعي أن تكون ’دولية’، مما منحها بعدا كوسموبوليتيا متميزا عن المدن الكوسموبوليتية العربية المتوسطية كالإسكندرية وبيروت. وقد جعلها هذا الطابع الكوسموبوليتي ملتقى ثقافات ودبلوماسيات وحضارات... بل و’جنة للمترجمين’. وكل ذلك في المنظور الذي نجم عنه نوع من التمازج بين ثقافة ’الداخل’ و’الخارج’. وفي هذا السياق يمكن التشديد على مفهوم ’التهجين’ (Hybridation) الذي شددَّت عليه تنظيرات وكتابات ما بعد الكولونيالية، ولا سيما كتاب ’موقع الثقافة’ (1994) لصاحبه الناقد الهندي الأشهر هومي بهابها.

ويمكن أن نشير، هنا، وفيما يعكس مفارقة صارخة، ووضعا هجينا كذلك، إلى تعلم محمد شكري، الهارب من المجاعة بالريف في بداية الأربعينيات، كلمات من اللغة الإسبانية قبل تعلمه العامية المغربية؛ بل وإقدامه، وفيما بعد، على ’إملاء’ سيرته ’من أجل الخبز وحده’ (عنوان الترجمة الإنجليزية، 1973) على الكاتب الأمريكي بول بولز، جملة جملة، باللغة الإسبانية. ثم إن ’تواصلا’ من هذا النوع، بين أمريكي ومغربي، وبغير لغتهما الرسمية، ما كان يمكن له أن يتحقق، وفي دلالة على ذروة التهجين، إلا في مدينة كوسموبوليتية كمدينة طنجة. كلاهما سيساهم، إذا، في ’تهريب النص’ إلى اللغة الانجليزية؛ لكن عبر اللغة الإسبانية. فمفهوم ’التهجين الثقافي’ لا يمكن فهمه إلا في ضوء ’المكان’ أو أكثر تحديدا في ضوء مفهوم ’الفضاء الثالث’ الذي بلوره هومي بهابها في كتابه سالف الذكر. فـ’موقع الثقافة’، في حال طنجة، ’هجين’ و’عابر للقوميات’ و’ترجمي’.
وكان محمد شكري، الذي قدم ورفقة أسرته، إلى طنجة الدولية العام 1942، نموذجا دالاّ على ’الانتشار’ داخل فضاءات طنجة في عهد الاستعمار. وكان واضحا أن يحتك بالأجانب، وبخاصة من الأمريكيين، ومن الجيوش تحديدا، ممن كان يقلهم، وبكثير من المخاطرة، وفي لحظة متأخرة من الليل، وهم في أقصى درجات السكر والانتشاء، على متن قاربه الصغير، إلى بواخرهم، الحربية وغير الحربية، التي كانت ترسو في الميناء الذي كان يشكل العمود الفقري لطنجة على عهدها الدولي حيث التهريب و القرصنة والجاسوسية والمافيا والاغتيالات وتصفية الحسابات بالمسدسات... إلخ.

أجل لا ينبغي، وفي حدود فهم متعين، أن نرّد كل شيء في طنجة إلى الاستعمار بمفرده، وأن نخلد إلى القول بأن كل شيء دخل إلى المغرب في ’حقائب الاستعمار’، هذا وإن كان دور هذا الأخير لا ينكر على مستوى ترسيخ ’مفهوم المدينة’، أو أن نقول بأن صورة المدينة المكرسة ما كان لها أن تنتهي إلى هذه الحال لولا الاستعمار... ذلك أن المدينة كانت قد توافدت عليها أسماء وازنة قبل خضوعها للاستعمار ولا سيما من الرسامين والصحفيين. غير أن ذلك لا يحول دون القول بأن إقامة أغلب هؤلاء لم تكن تخلو من ’دافعية استشراقية مضمرة’ تجلت في رسوماتهم وكتاباتهم وتعليقاتهم. فالمرحلة السابقة أسهمت، ومن وجوه عديدة، في الإعداد للاستعمار وعدم جعله غريبا في الجسم الطنجي، بل وأسهمت في تفعيله على أرض الواقع.

طنجة كانت نموذجا للمدن التي توجد، وبتعبير رولان بارت، في الأسطورة والواقع؛ ولذلك أسهمت، وبشكل لافت، على مستوى إحداث ’نظرة الآخر’ إلى المغرب.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)