“سمٌّ في الهواء” لجبور الدويهيّ...قصيدة عبر عَقد السيرة الذاتيّة. الرواية العاشرة للكاتب اللبناني جبور الدويهيّ، “روائيّ الحياة اللبنانيّة”

“سمٌّ في الهواء”(*) الرواية العاشرة لجبور الدويهيّ، “روائيّ الحياة اللبنانيّة” كما صُنّف بأدبه في المجلَّد الرابع عشر من سلسلة “أسماء علَم” التي تصدرها الجامعة الأنطونيّة، وهو فعلاً لا يخرج فيها عن هذا المسار الذي طبع أدبه. وإن كان في رواياته السابقة قد احتجب وراء شخصيّاته ليعبّر عن رؤيته إلى هذه الحياة اللبنانيّة بمختلف وجوهها، فإنّه في روايته هذه ترك لبطله، الراوي، أن ينخرط في سرد الأحداث انطلاقاً من ذاته ومن منظوره. فهو للمرة الثانيّة، بعد روايته الأولى اعتدال الخريف يعتمد أسلوب الراوي المتكلّم، الأنا الراوية الطاغية المعنيّة الأولى والأخيرة في حبكة الرواية.

عشرة عناوين لعشرة فصول تختصر مسار الراوي البطل منذ خروجه من بلدته حتّى عزلته الأخيرة في قرية مشرفة على العاصمة بيروت، وتتوالى فيها الأحداث والحالات التي كوّنت شخصيّته أو جعلتها تتكشّف على حقيقتها، تتعرّى أمام ناظريه أوّلاً ثمّ في نظر القارئ وصولاً إلى مآلها النهائيّ.

“سفر الخروج” عنوان الفصل الأوّل، لا يخرج بمدلوله عمّا هو في التوراة، من بداية مرحلة من الترحال والتجوّل، مرحلة “التيه” التي ستقود الراوي البطل في تحوّلات ومآلات يكتشف فيها نفسه والعالم. من مسقط رأسه حيث انطبعت شخصيّته بما عاشه في محيطه الضيّق، الأهل والأقارب، وبالأحداث والمشاكل الداخليّة في بلدته التي أدّت في النهاية إلى ارتحال العائلة للمرة الأولى، من حيّ إلى آخر، ثمّ إلى بلدة جبليّة حيث عرف “مراس الحبّ والكتابة”، (عنوان الفصل الثاني) قبل أن تنتقل العائلة إلى بيروت حيث تفاعل مع ما انفتح له من “قمقم المدينة” (عنوان الفصل الثالث)، حيث “الإبيفانومانEpiphenomène” (الفصل الرابع) أي الأحداث الثانويّة الطارئة والمؤثّرة في المسارات الأساسيّة تدفع إلى انتقال جديد نحو المنطقة الشرقيّة من بيروت إبّان الحرب الأهليّة، وهناك أعادته عزلته القسريّة إلى ذاته فيغوض فيها ويرى نفسه على رأس موكب من كلّ من ساهموا في تركيب شخصيّته ممّن يسمّيهم “أشباحي الأليفة” (الفصل الخامس) مؤلّفي الكتب التي غذّت فكره وروحه، وأفراد العائلة الذين ورث عنهم مزاجاً أو “لوثةً” ما. يترك أهله والبيت وينتقل للعيش وحده في أحد فنادق العاصمة البسيطة، غريباً بين أناس يجهلهم ويجهلونه، وينفتح أمامنا “فصل النساء” (الفصل السادس) وهو يروي ما جرى له من مغامرات مع النساء. ينتهي به الأمر مطروداً من الفندق بعد استياء صاحبه من مغامرته مع زوجته لينتقل إلى حياة جديدة في منزل مستقلّ مع معلمة الفلسفة التي تزوّجها بعد أن تحوّل إلى “الأشوريّ المؤقّت” (الفصل السابع)، هذا المذهب الذي اعتنقه مؤقّتاً ليتمكّن من الزواج بها، هي الشيعيّة، بعد تعذّر عقد قرانهما عند أي من طائفتيهما. انتقالٌ آخر مهمّ ولافت يحدث في حياته، إثر دخوله السجن حيث أمضى ما يزيد عن السنتين بعد ضربه زوجته وكسره يدها واتّهامه بمحاولة قتلها، ويبدو أنّه دخل السجن طوعاً “سجيناً متطوّعاً”، راضياً بمصيره، وفيه يصاب بتلك “السويداء” (الفصل الثامن) فيبدو مستخفّاً بكل ما في العالم الخارجيّ، بماضيه كما بمستقبله، ويبني علاقات إنسانيّة مع السجناء ويخرج منه بصداقة تركت أثرها في نفسه لاحقاً. بعد خروجه من السجن يجد نفسه وحيداً بعد غياب آخر أصدقائه ورفاقه في الحياة، ابن خالته أسود البشرة الذي عاد إلى إفريقيا، وصديقه السوري الكرديّ الآتي من سوريا وقد تعرّف به في السجن، وكان الراوي قد ساعدهما كليهما ماديّاً ومعنويّاً، غادر كلّ منهما إلى البلد الذي أتى منه “ياماسوكرو وتلّ الذهب” (الفصل التاسع)، إلا أنّه يكتشف أنّ كليهما لقي مصيراً مأساوياً، الأوّل يخطف ويختفي، والثاني يموت غرقاً في محاولة هجرة غير شرعيّة إلى أوروبا. يقرّر هجر المدينة وضواحيها، ويفتّش عن بيت معزول في قرية مشرفة على بيروت، حيث يدخل في عزلة طوعيّة وكلّية منقطعاً عن العالم، وينساق وراء تخيّلاته وأوهامه وهو يتأمّل من نافذته، على حافّة سطح مقابل الصراعات اليوميّة بين “الهرّ والحمام” (الفصل العاشر)، الهرّ البرّي، وحده روح الشرّ، والحمام المهاجر الساعي إلى ملاذٍ آمن بعيداً من شرّه، تماماً مثل البطل الراوي الساعي إلى خلاصٍ في العزلة والغياب من أعباء هذا العالم...

رابط : مقال جان هاشم على موقع جريدة المدن الألكترونيّة

أخبار أخرى

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)