رسالة عن العميان في خدمة المبصرين، دني ديدرو، فرنسا Lettre sur les aveugles à l’usage de ceux qui voient, Denis Diderot, 1749

, بقلم محمد بكري


جريدة الرياض السعودية


النسخة الإلكترونية من صحيفة الرياض اليومية
السبت 9 شعبان 1435 هـ - 7 يونيو 2014م - العدد 16784
الصفحة : ثقافة اليوم
د. عبدالله إبراهيم

عبقرية الأعمى


في النصف الأول من القرن الثامن عشر انقسم الفكر الغربي بين القائلين بالعقل والقائلين بالحس، وتبع ذلك أن انشطر العالم عالمين: عالم المعقولات وعالم المحسوسات، ولما كان جذر القائلين بالعقل ضاربا في التاريخ منذ الفلسفة الإغريقية، فقد بدا وكأن القائلين بالحس زمرة من المارقين الذين طرأوا على الفكر الإنساني، وسعوا إلى تخريب مكتسباته، ولم يكن الأمر كذلك، فقد نشطت فعالية الحس، وبخاصة في انجلترا وفرنسا، وانفتح كتاب العالم على الحواس التي جعلته موضوعا للتجربة، وعلى خلفية من ذلك ظهرت رسالة “ديدرو” الموسومة “رسالة عن العميان في خدمة المبصرين”، ولا تكاد تخفي دلالتها، فهي غمز من طرف القائلين بتعذّر إدارك العالم إلا بالعقل وحده، وقد عجزوا عن معرفة حقيقته. إنهم مدّعو الإبصار الذين اخفقوا في رؤية العالم، فاتهموا سواهم بالعمى.

لجأ “ديدرو” إلى اصطناع حكاية برسالة بعث بها إلى السيدة “دي بويسييه”. ومع أنها شخصية سردية في عالم افتراضي، فقد كانت ظلا لسيدة ربطته بها علاقة خاصة، وعلى الرغم من اطراد السرد فيها؛ فقد تخللتها مساجلات عميقة حول دور الحواس، وفيها سعى “ديدرو” إلى إبطال جانب من أركان التفسير العقلي الموروث للعالم، واقتراح تفسير مستحدث مواز له تتولاه الحواس، والإطار الناظم للأفكار زيارة قام بها في الليل لفلاح أعمى في منزله، فوجده مستيقظا، وقد شغل “بجعل ابنه يقرأ بحروف نافرة”، فالنهار يبدأ عند المزارع الكفيف حينما ينتهي عند المبصرين، ومن عاداته أنه يتفرّغ لشؤون منزله حينما يخلد الآخرون إلى الراحة، فلا يضايقه منتصف الليل، ولا يتسبّب في إزعاجه، ففيه يعيد ترتيب كل ما جرى إزاحته من مكانه خلال النهار.

عبّر “ديدرو” عن دهشته من انتظام حياة الأعمى في نسق مرتّب يفوق نظام حياة المبصرين، ويعود حرص العميان على ترتيب الأشياء إلى صعوبة عثورهم على المتناثرة منها؛ فيحرصون على وضعها في المكان المناسب لها ليسهل عليهم العثور عليها حالما يقتضي الأمر، فتجدهم لذلك من “أصدقاء الترتيب”. وبالتدريب طوّر الضرير حواسه بالأشياء، وتمرّس في معرفتها بأفضل مما تقوم به حواس المبصرين. برع الأعمى في إدراك التناظر بين الأشياء، والانسجام فيما بينها، ف"لِفَرط ما يقوم به الأعمى، عن طريق اللمس، بتفحّص التنظيم الذي نفرضه على الأجزاء التي تؤلّف كلا، لكي ندعوه جميلا، يتوصّل إلى القيام بتطبيق صحيح لذلك المصطلح". أما الجمال عنده فهو"كلمة مجرّدة إذا كان منفصلا عن الفائدة" لأنه يقيم صلته مع الأشياء باللمس لا البصر. وحينما سئل الأعمى عن العين، أجاب أنها “العضو الذي يؤثّر فيه الهواء تأثير عصاي في يدي” فحينما يضع الأعمى يده بين عيون المبصرين وبين الشيء الموضوع أمامهم، لا يرون إلا اليد، أما الشيء فلا يُرى، وهو الأمر نفسه حينما يبحث الأعمى عن شيء بعصاه، فيصادف أن يعثر على شيء آخر.

ومن خبرات الأعمى قدرته على إدخال الخيط في سَمّ الإبْرة مستعينا بلسانه وشهيقه، وهو “يتمتّع بذاكرة الأصوات إلى درجة مدهشة، فالوجوه لا تقدّم لنا تنوعا أكبر مما يخلط في الأصوات، بل فيها كمية لا تحصى من الفروق الدقيقة التي تفوتنا، لأننا لا نقع في مراقبتها على الفائدة التي يقع عليها الأعمى”؛ فالمبصر يتفحّص الوجوه ليتذكّر الأشخاص الذين يقابلهم، وهو لا يتفحص وجهه لأنه لن يخلط بين وجهه ووجوه الآخرين، أما الأعمى فيعرف الآخرين من أصواتهم، وليس من وجوههم. وحينما سئل الأعمى إن كان يسرّه أن تكون له عينان، كان جوابه أنه يفضّل على ذلك ذراعين طويلين تعلّمانه ما يجري على القمر “بأفضل ما تعلّمكم به أعينكم ومناظيركم. زدْ أن الأعين تكشف عن الرؤية في وقت مبكّر عن الأيدي واللمس، وينبغي إذاً السعى لتطوير العضو المتوفّر بدلا من منحي عضوا ينقصني”. علما أن “ديكارت” قد ذكر في كتاب “العالم” أن" اللمس هو، من بين حواسنا كلها، الحاسة التي تعتبر أقلّها خداعا وأكثرها يقينا".

وإلى كلّ ذلك، فالأعمى أكثر مهارة من المبصر في معرفة مكان الأشياء، وقد حدث لهذا الأعمى أن تنازع في شبابه مع أحد أشقائه، وبعد أن تعرّض للإهانة على يد أخيه، أُجبر على الدفاع عن نفسه، بأن “أمسك بأوّل غرض وقع تحت يده فرماه به، فأصابه في جبينه، فطرحه أرضا”، فكان أن أُلقي القبض عليه، وأحيل على القضاء، فهدّده القاضي، وهو يستجوبه، بأنه إن لم يعترف بذنبه، فسيرميه في “هوّة مظلمة في أعماق السجن”، فردّ الأعمى عليه بأنه “مقيم فيها منذ خمسة وعشرين عاما”. والفارق بين المبصر والأعمى، هو أن الأول يغادر الدنيا، وكأنه “يخرج من صالة عرض سحري”، فيما يغادرها الثاني “مثل مَنْ يخرج من سجن”، فإذا كان المبصر يلتمس متعة يتعلّق بها في الحياة الدنيا، فالأعمى لا يأبه كثيرا حيال الموت. وللأعمى قدرة هائلة على معرفة قرب النار منه من درجة حرارتها، وامتلاء الأواني من صوت السوائل المسكوبة فيها، وتجاور الأجسام من أثر الهواء على وجهه، وهو يعرف تقلّبات الجو، والطرق، ووزن الأجسام، وسعة الأواني، إما بالإنصات أو اللمس، ودليله إلى كثير من الأشياء ذراعاه وأصابعه، وهو يحكم على الجمال باللمس، ورنّة الصوت، “أما جمال البشرة، وامتلاء الجسم، وتماسك اللحم، ومزايا الشكل، وعذوبة النَفَس، ومفاتن الصوت والنطق، فهي المناقب التي يقيم لها وزنا كبيرا بين غيرها”. وهو يفوق المبصر في تقدير الزمن اعتمادا على توالي الأفعال والأفكار. ويفصل الأعمى بين وظائف الحواس فيما يخلطها المبصر، فلا ينبغي استخدام حاستين في مناسبة تكفي فيها واحدة “إن إضافة اللمس إلى البصر حيت تكون العينان كافيتين، كمن لديه حصانان قويان ونشيطان، فيسرج ثالثا ويشدّه إلى العربة، فيجرّ من جانب فيما الآخران يجرّان من الجانب الثاني”.

لم يكتف “ديدرو” بهذه الملاحظات، إنما راح يستجوب الأعمى عن الرذائل والفضائل، فلاحظ أنه يمقت السرقة مقتا شديدا نتيجة السهولة التي يمكن أن يُسرق بها من غير أن يلحظ ذلك، وهو لا يقيم كبير وزن للحياء، ولولا عوادي الطقس ما أدرك الأعمى ضرورة الملابس على الإطلاق، وهو لا يفهم سببا لحجب جزء من الجسد دون الآخر، ولا العلّة وراء تفضيل هذا الجزء على ذاك من جسم الإنسان؛ لأن الفضائل مرهونة لديه بطريقة إحساسه بها، وتأثيرها في نفسه، فلا فرق عنده بين إنسان يتبوّل وآخر تسيل دماؤه، ولأنه لا يرى ذلك، فهو في حلّ من رؤية مبعث الألم، ولا استعداد لديه لإلحاق أذى بالآخرين، أو حتى رغبة في ذلك، أما المبصرون فلولا الخوف من العقاب ما وجدوا عناء في قتل الإنسان أكثر ما يجدون من عناء في ذبح الثور، فهم يتألّمون لمرأى حصان يتوجّع، ولا يدركون حال نملة يسحقونها بأقدامهم دون أن يطرف لهم جفن. وقد تبدو كثير من المبادئ التي يأخذ بها العميان منافية للعقل، أول وهلة، ولكن ينبغي القول بأن أغلب مبادئ المبصرين تبدو لهم غير معقولة، وكلّ يدرك الأشياء، ويفهمها، ويؤوّلها حسبما تتيح له حواسه ذلك؛ ومن ذلك فالعميان لا يعتبرون بالظواهر المرئية، فلا يأبهون لحركة الكواكب، فيما يراها المبصرون عِبرة من عبر الخلق.

ويعتمد الأعمى في معرفته على اللمس، فذاكرته مصدرها الأنامل، وبها يستطيع معرفة المساحات والسطوح والأشكال، وبها تتشكل انطباعاته عن الأشياء، وتكتسب خبراته عنها، فإذا ما “وقع يوما لفيلسوف أعمى وأصمّ بالولادة أن يصنع إنسانا على نمط ديكارت، فإني أملك الجرأة لأوكد لك ياسيدتي، أنه سوف يضع الروح في أنامله، لأن كل أحاسيسه الأساسية، وكافة معارفه، إنما تأتيه من هناك حصرا. ومَنْ عساه يحيطه علما بأن رأسه هو مستقرّ أفكاره؟”؛ فأحاسيس الكفيف التي اكتسبها باللمس هي قالب أفكاره، وعلى هذا فمخيلته إنما هي ملكة التذكّر باللمس، والتوفيق فيما بينها، أما مخيلة المبصر فعمادها تذكر الأشياء المرئية، والتنسيق فيما بينها؛ وعلى هذا فالأكمه يتبيّن الأشياء بتجريد أكثر مما يتبينها به المبصر، فيكون لذلك “أقل عرضة للخطأ في مسائل التأمل الخالص”.

عن موقع جريدة الرياض السعودية


جريدة الرياض أول جريدة يومية تصدر باللغة العربية في عاصمة المملكة العربية السعودية صدر العدد الأول منها بتاريخ 1/1/1385ه الموافق 11/5/1965م بعدد محدود من الصفحات واستمر تطورها حتى أصبحت تصدر في 52 صفحة يومياً منها 32 صفحة ملونة وقد أصدرت أعداداً ب 80-100 صفحة وتتجاوز المساحات الإعلانية فيها (3) *ملايين سم/ عمود سنوياً وتحتل حالياً مركز الصدارة من حيث معدلات التوزيع والقراءة والمساحات الإعلانية بالمملكة العربية السعودية، ويحررها نخبة من الكتاب والمحررين وهي أول مطبوعة سعودية تحقق نسبة (100٪) في سعودة وظائف التحرير.


رسالة عن العميان في خدمة المبصرين على ويكيبيديا بالفرنسية

عن الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)