ثقافة - سياحة - تراث - Culture - Tourisme - Patrimoine

جبيل.. صورة لماضٍ جميل جبيل - لبنان - Byblos - Liban

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الاربعـاء 07 ربيـع الثانـى 1433 هـ 29 فبراير 2012 العدد 12146
الصفحة : السيـــاحــــة
لندن : كمال قدورة


مدينة نظيفة.. شواطئها رائعة وسهولها معطاء


جبيل.. صورة لماضٍ جميل

رغم زحمة السير، وأن الزيارة إلى مدينة جبيل الجميلة كانت زيارة مفاجئة وبمحض الصدفة، فإنها كانت زيارة تستحق العناء. فالمدينة مدينة قديمة ونظيفة وجميلة جدا، تتمتع بكل ما تتمتع به مدن المتوسط التاريخية من مواصفات عامة مثل الشواطئ الرائعة والسهول المعطاءة والأجواء المعتدلة الطيبة. فهذه المدينة، التي تعرضت لتغييرات كثيرة عبر التاريخ الطويل والحافل بأهلها وسكان لبنان بشكل عام، وفقدت الكثير من معالمها الرومانية والإغريقية، حافظت على روحها مع بقاء مينائها الصغير والجميل على المتوسط شاهدا حيا على أيامها الغابرة، كما هو الحال مع بعض معالمها العمرانية ومقابرها. فالمدينة في مينائها القديم ومبانيها القرميدية ونخيلها، لا تزال تشبه الكثير من مدن المتوسط التي كنا نحن إليها في بطاقات الأعياد السوداء والبيضاء أيام الصغر.

يصعب التغزل بمدينة، إلا أن جبيل تضم بعض المعالم الأساسية التي يبحث السائح عنها عادة مثل الهدوء والمياه البحرية النظيفة والمشاهد الخلابة والهواء المنعش والطعام اللذيذ. وستضم المدينة حديقة جديدة باسم بيبلوس بارك ستكون مفتوحة أمام الجميع هذا العام، وذلك في إطار محاولات محلية وحكومية للاعتناء بالمدينة وتطويرها وتحديثها، وهي محاولات كثيرة.

نتكلم هنا بالطبع عن المدينة القديمة والسوق ومنطقة الميناء أو ما تبقى من جبيل القديمة والأثرية، وبعض أجزاء المدينة الأخرى التي ترتبط بالمناطق المحيطة لها سواء أكانت جبلية أم ساحلية مثل بلدات عمشيت وقرطبون وحبوب. فقد أصبحت هذه المناطق جزءا من المدينة بشكل أو بآخر مع الوقت ولذا يقال: إن عدد سكان جبيل يبلغ 100 ألف نسمة.

وهذه المدينة مختلطة جدا من النواحي الدينية، فأكثر سكانها من أبناء الطائفة المارونية وأبناء الطائفتين السنة والشيعة وبعض أبناء الطائفة الأرثوذوكسية والطائفة الكاثوليكية والطائفة السريانية. ومعظمهم من العاملين في القطاع السياحي والمحامين والمهندسين والمزارعين والأطباء والصناعيين.

ولهذا فإن المدينة من المدن اللبنانية الجامعة، التي تعبر عن الكثير من الأطياف ما يمنحها نكهتها الخاصة على الشاطئ اللبناني الشمالي الطويل.

وتعتمد المدينة في تاريخها الحديث على السياحة كمصدر رئيسي للدخل، ويأتيها السياح من جميع أنحاء العالم، وعادة ما تستقبل الكثير من المهاجرين اللبنانيين والسياح العرب والأجانب والسياح اللبنانيين من الداخل، وتعرف بمنتجعاتها التي يقال: إنها الأفضل في لبنان كما تعرف بالكثير من الأطباق البحرية، وخصوصا السمك المحلي. ولأنها سياحية من الدرجة الأولى تجد فيها الكثير من المقاهي والحانات الليلية والمطاعم التقليدية والأجنبية والملاهي ومحلات ببيع التحف والأعمال الفنية والأقمشة وكل ما يخطر على بال مثل الرحلات البحرية الخاصة في قوارب الصيادين.

وتقدم المدينة كثيرا، كما سبق وذكرنا، للسائح المهتم بالآثار والمتاحف، وقد كان العالم الفرنسي المعروف أرنست رينان في نهاية القرن التاسع عشر مهتما بهذه الآثار وبتاريخ المدينة لذا زارها ونجح في اكتشاف بعض معالمها. إلا أن المحاولات الجدية للكشف عن آثار المدينة لم يبدأ إلا بعد الحرب العالمية الأولى وحفريات الكشف عن العلاقة مع مصر الفرعونية.

ومن أهم الآثار بشكل عام هي المرفأ وأبراجه (هناك حملة للتنقيب عن المرفأ الأول والقديم)، والسوق القديمة وأساسات المعبد الكبير وموقع عين الملك وبقايا القصر الكبير ومعبد الأنصاب والمدافن الملكية ومستوطنة من العصر الحجري ومعبد «بعلة جبل» وبقايا الحصن القديم والمسرح الروماني وبقايا أسوار وبوابة المدينة بالإضافة إلى القلاع الفارسية والصليبية والكثير من الكنائس مثل كنيسة القديس يوحنا مرقس وسيدة الأم الفقيرة وسيدة النجاة وغيرها. ولا بد بالمرور أيضا على مسجدي السلطان إبراهيم بن أدهم والسلطان عبد الحميد الذي شيد في العصر الأيوبي على أنقاض مسجد من أيام الخلفاء الراشدين وتم ترميمه أيام الإمبراطورية العثمانية. وقد تم ترميم المسجد في نهاية القرن الثامن عشر أيام الأمير يوسف الشهابي، وأضيف إليه مصلى للنساء في القرن التاسع عشر لا يزال يعمل حتى الآن في الجهة المقابلة له. وكما هو معروف، يضم المسجد ثريات قديمة جدا ومكتبة تاريخية ومخطوطات عربية كثيرة، معظمها ديني معني بالفقه وعوالمه.

كما هناك بعض آثار الفترة الأمورية. ويقال تاريخيا إن الأموريين غزوا جبيل وأحرقوها في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد أي أيام ازدهارها وعزها التجاري مع مصر، لكن بعد استقرارهم واندماجهم بالسكان أعادوا بناءها وعزها القديم، وتشير الحفريات إلى أنها كانت مدينة ثرية أيام الأموريين والدليل المقابر الملكية التي عثر على آثارها.

كما تضم المدينة الكثير من المتاحف نسبة إلى حجمها: متحف موقع جبيل في القلعة الذي يعرض القطع الأثرية الخاصة بالمدينة، متحفا ذاكرة الزمن في ساحة القلعة والمتحجرات اللذان يعتبران من أهم المتاحف في حوض المتوسط، لأنهما يضمان أكبر مجموعة من المتحجرات اللبنانية والتي يعود تاريخ بعضها إلى مليون سنة وعادة ما تضم هذه المتحجرات الجميلة آثار السمك والنباتات.

وهناك متحف الشمع بالقرب من كاتدرائية مار يوحنا مرقس الذي يعرض تاريخ المدينة من أيام الفينيقيين حتى يومنا هذا، ومتحف بيبي عبدة الخاص الذي تعتني بحمايته منظمة اليونيسكو ويضم مجموعة بحرية ممتازة.

ولا تبعد هذه المدينة الهامة، أثريا، أكثر من 35 كلم شمال العاصمة بيروت، ولهذا يمكن خلال نصف ساعة الوصول إليها من المطار الدولي أو من أي منطقة من مناطق بيروت الغربية الساحلية عبر الأسواق القديمة أو ما يعرف حاليا بالـ«داون تاون» مرورا بالكثير من المناطق المعروفة مثل ميناء المدينة ومنطقتي الصيفي وبرج حمود وجل الديب والدورة ونهر الكلب وزوق مخايل والكسليك ومدينة جونية المذهلة والمعاملتين وطبرجا ونهر إبراهيم.

ويؤكد المؤرخون وعلماء الآثار أن جبيل من أقدم المدن المأهولة في العالم ويعود تاريخها فعلا إلى 6 آلاف سنة على الأقل، وقد بدأت كما بدأت معظم المدن الساحلية القديمة كمركز صغير لصيد الأسماك على التلال المواجهة للبحر، خلال الألف السادس قبل الميلاد. ولم تتمتع بصفة المدينة المستقلة والحيوية فعلا إلا في الألف الرابع قبل الميلاد (العصر الإنيوليتي الذي شهد ظهور الأدوات الحجرية والنحاسية)، أي عندما نظمت حياتها العامة وشوارعها وساحاتها وأسوارها وحياتها القانونية.

ولأنها اشتهرت وعرفت بخروج الأبجدية الفينيقية منها باتجاه العالم الخارجي وخصوصا اليونان قبل أن يعتمدها الرومان (أول أبجدية صوتية مؤلفة من 22 حرفا وتعتبر أساس الأبجدية المعاصرة - محفورة على قبر الملك أحيرام)، وعلاقاتها العميقة مع مصر الفرعونية في العصر البرونزي وبصناعة السفن وشحن خشب البناء وتصديره لها وصناعة الفخار الهامة، صنفتها منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة ضمن مواقع التراث العالمي أو الإنساني الذي يفترض حمايتها في منتصف الثمانينات من القرن الماضي.

وقد كانت علاقتهم متينة جدا بالفراعنة لدرجة أنهم كانوا يدفنون موتاهم مع ممتلكاتهم الدنيوية في جرار الفخار الواسعة والكبيرة كما كان يفعل الفراعنة ليأخذوها معهم إلى العالم الآخر.

وكان الفراعنة يعتمدون على خشب الأرز القادم من جبيل لصناعة سفنهم وبناء ناووسيهم (التماثيل) وإجراء مراسم الدفن، وكان أهل جبيل يعتمدون على الذهب والمرمر والكتان والحبال ولفائف ورق البردي القادم من مصر. وكانت هذه العلاقة التبادلية الهامة مصدرا للازدهار الكبير لكلا الطرفين ولسنوات طويلة. وقد عرف الفراعنة المدينة على أنها بوابة «بلاد الآلهة».

بأي حال، فإن دلالات اسمها ومعانيه واحتمالاته وتفسيراته تسلط الضوء على التاريخ الحافل والمتنوع للمدينة الصغيرة والجميلة أكثر من أي شيء آخر، وتشير هذه الأسماء إلى أنها كانت متحفا فريدا للحضارات والحقبات التاريخية المختلفة، إذ تؤكد المعلومات المتوفرة حاليا أن لفظة جبيل لا تزال تحمل نفس النبرات الصوتية لاسمها الكنعاني الفينيقي، رغم أن المصريين الفراعنة عرفوها باسمها الأصلي محرفا كما جاء في رسائل تل العمارنة المعروفة، أي «كبني» أو «مبن». لكن البابليين أطلقوا عليها في نصوصهم اسم «جوبلا» والآشوريين اسم «جبلي» أو «جبل». وبعد ذلك جاء الإغريق ليمنحوها اسمها المعروف بالإنجليزية وهو اسم «بيبلوس» (Byblos) نسبة إلى ورق البردي الذي كانت تزودهم به جبيل لصناعة كتبهم (كتاب في اليونانية: ) ورسائلهم ونصوصهم العلمية والحكومية والفلكية والدينية.

لكنها سميت «جبل» في كتاب التوراة وأطلق على أهلها اسم جبليين، أما الصليبيون فقد سجلوا اسمها على أنه «جبلات». ويقول بعض العلماء إن الاسم الحالي الذي نستخدمه وهو اسم جبيل هو الأقرب إلى اللفظ الأصلي الصحيح، وقد يكون جاء نتيجة اندماج كلمتين كنعانيتين قديمتين وهما «جب» (التي تعني البيت) و«إيل» (التي تعني كبير الآلهة أو الأب)، وعلى هذا الأساس يصبح معنى اسمها الحالي «بيت الله» أو «بيت الرب». لكن من المؤكد أنه لا علاقة للاسم بالمنطقة الجبلية المواجهة للبحر أو ما نعرفه بـ«الجبل» كما كان يقول البعض رغم أن المدينة «تحتل جزءا من مرتفع صخري يحده غربا جرف ساحلي من الحجر الرملي وشمالا وجنوبا منخفضان يفضي كل منهما إلى خليج طبيعي. ويشكل هذا المرتفع منفذا لمنطقة زراعية ضيقة تحدها شرقا سلسلة جبال لبنان». بعد الفترات الفرعونية والأمورية جاء دور «شعوب البحر» التي استقرت على معظم الساحل الفلسطيني واللبناني الذي كان يعرف بساحل بلاد كنعان الجنوبية آنذاك، وفترة شعوب البحر التي انتشرت فيها الكثير من المعارف وخصوصا المعارف البحرية هي الفترة الفينيقية الهامة جدا. ويقول المؤرخون إن الاجتياحات الكثيرة التي تعرضت لها المدينة أيام الفينيقيين في الألف الأول قبل الميلاد من الشرق وخصوصا بابل وآشور وبلاد فارس، لم تكبح جماحها الاقتصادي والتجاري فواصلت ازدهارها حتى مجيء الإسكندر المقدوني والفترة الإغريقية. ففي تلك الفترة تحولت المدينة إلى مدينة إغريقية بكل ما للكلمة من معنى كالكثير من مدن المنطقة بعد سيطرة اللغة اليونانية، وقد ساهمت هذه الفترة في رقي المدينة وزيادة تنوعها وغناها الثقافي. وبعد أن جاء الرومان في القرن الأول قبل الميلاد مع «بمبيوس» فشقت الطرق وبنيت الحمامات والمعابد المختلفة.

ولا يوجد كما يبدو أي آثار فعلية للفترة البيزنطية، وقد تضاءلت أهميتها التجارية والتاريخية مع مجيء العرب في القرن السابع، لكن الصليبيين سيطروا عليها في القرن الثاني عشر لفترة طويلة نحو مائتي سنة، قبل أن تعود إلى الحظيرة العربية وتساهم في الصراع بين العرب والمسلمين وبيزنطيا، وببناء أول أسطول حربي عربي أيام معاوية وتسليحه وغزو جزيرة قبرص وإعادتها إلى الحظيرة الشرقية. مع هذه المساهمات كانت المدينة تستعيد أمجادها القديمة. وقد مرت على المدينة الحقب الفاطمية والأيوبية والمملوكية قبل مجيء العمانيين عام 1516. وأيام العمانيين انتقل انتماء المدينة الرسمي والجغرافي من منطقة طرابلس كما كان الحال أيام الصليبيين إلى منطقة إمارة جبل لبنان التي كان مركزها دير القمر.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)