بعد كل هذا العطاء ماذا بقي من نجيب محفوظ

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 03/09/2015، العدد: 10027، ص(15)
الصفحة : ثقافة
ممدوح فرّاج النابي


آفة مؤسساتنا الجحود والنكران والإهمال


مرّت منذ أيام ذكرى رحيل الأديب العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل نجيب محفوظ (1911 ــ 30 أغسطس 2006)، ومع مرور تسع سنوات على رحيله يحضر نجيب محفوظ -الحاضر دوما- بأفكاره ورؤاه التي مازالت ترسم مآلنا، فلقد كشف إبداع الرجل عن رؤيته السّياسية ومواقفه إزاء التحوّلات التي مرّت بها مصر عبر تاريخها العريض، وكيف اتّخذ من هذا التاريخ الضّارب في القدم دليلا ومرشدا لحاضر مصر ومستقبلها، ومن ثمّ لا نغالي إذا قلنا: إننا إزاء حالة خاصّة من حالات الإبداع قلّما تتكرّر في إبداعنا المعاصر.

وتجربة الكتابة عند الراحل نجيب محفوظ كما يقول الغذامي الذي قرنه بالجاحظ في مواجهة النّسق المتشعرن في ثقافتنا «هي عمل واقعيّ وتمثيل معيشيّ يوميّ» فقد عبّر بالمجاز السّردي عن الواقع، وهذا المجاز الذي يعرّي ولا يغطي كما يقول الغذامي «هو مجاز غير خياليّ ولكنه نقدي وتلقائي، وعبر تلقائيته النقدية، فإنه يشخّص الدّاء، ولا يسمّى الورم شحما -كما ادّعى الفحول- ولكنه يعلن عن العلّة ويمنحها اسما».

مع أهمية كتابات محفوظ إلا أن السؤال الذي يتجدد مع ذكرى رحيله: ماذا بقي من نجيب محفوظ بعد رحيله؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال نقرّ بأنه لا يوجد كاتب ضاهى نجيب محفوظ في حجم الدراسات التي تناولت أعماله، حتى أن الناقد لويس عوض وصف هذا السيل من الكتابات بـ«كورس النقاد»، ورغم ما يحمله الوصف من تبكيت وسخرية من هذه الكتابات إلا أنها في الحقيقة جاءت معظمها متنوّعة وحاوية لكافة المناهج التي أخرجتها النظرية الأدبيّة على مدار تاريخها، لكن الأهمّ من هذا كله هو ثراء العوالم القصصيّة، وعلاقاتها المتعدّدة اللذان يجعلان منها أفقا قابلا للتفسير وحمّالا للتأويل المتعدّد، وهو ما يدفع إلى رحابة في التفسير والتحليل. ومع كون الأسباب السّابقة قد تكون حائلا يعوق الباحثين الجدّد عن الاقتراب من العوالم الإبداعيّة عند نجيب محفوظ، إلا أنّها في الوقت ذاته بمثابة الحافز لمواجهتها ودافعا إلى إعادة قراءة نتاجاته، وفق سياقات جديدة، فرضتها تلك الدلالات التي تولّدت وأفرزتها قراءة النصوص مما جعلها صالحة لكل زمان ومكان.

ميزة نجيب محفوظ

فالميزة التي اتّسم بها إبداع نجيب محفوظ خاصة -وهي ما ساهمت إلى حدّ بعيد في أن يحافظ على ديمومته وازدياد الطلب على قراءته، رغم اختلاف السياقات الثقافية والسياسيّة والاجتماعيّة التي تولّدت فيها نصوصه، وكذلك اختلاف الأجيال والأذواق الأدبّية- هي تجاوز إبداعه لزمكانيته وقابليته للتأويل والتفسير الجديدين، مع إعطاء دلالات تحيل إلى وقتنا الراهن رغم اختلاف زمن الكتابة، وهي الصّفة التي تدفع بإبداع نجيب محفوظ إلى القمّة والريادة دون منازع، وتجعله محلّقا بتعدّد دلالاته واتساع رؤاه، وتشابك قضاياه مع انشغالاتنا الحالية بتنوّعها سياسيا واجتماعيّا وأيديولوجيا، رغم ما تطرحه المكتبة العربية من كتابات جديدة، لكن ظلّت (وتظلّ) إبداعات محفوظ بمثابة الذّاكرة الحيّة والأمينة، لتاريخنا الوطني بنضالاته وإخفاقاته وانتصاراته، وبتغيّر (أو انحراف) مساراته السّياسية والأيديولوجيّة وهو ما أوقعنا في مآزق كبيرة وجسيمة.

كانت كتاباته نبراسا لتفادي الانزلاق فيها، لكن للأسف لم يلتفت القائمون إلى بصيرته الثاقبة التي كانت ترسم بعناية فائقة مآلنا الحالي (راجع حلم 60، 202 من أحلام فترة النقاهة) وتحذيراته التي لم تؤخذ مأخذ الجد، كما تجلت في نهاية «رادوبيس» حيث السهم الطائش مجهول المصدر الذي حاد عن هدفه، في إشارة إلى إمكانية إصابته الهدف لو تضافرت الجهود كما تجلى بصورة واضحة في «كفاح طيبة»، أو حتى تلك الدلالات التي قصدها من رمزية التوت والنبوت في «الحرافيش» والتي سجّل فيها قصّة الضمير الإنساني، في إشارة واضحة، إلى أن مثل هذه الأمة لن تحصل على حريتها المرجوة، إلا بقوة العلوم والاستنارة، أو إعلانه أن رحلة الإنسان للبحث عن الحرية والعدل والجمال، لا تتحقّق إلا بالإنسان نفسه، وسعيه لهذا من خلال التسلّح بقوة العلم، والتشبّع بالقيم الروحية، التي تبعثها الأديان في نفوس البشر، وبالحوار المستنير مع الآخر وقبوله كما رأينا في «رحلة ابن فطومة»، وأيضا كانت بمثابة الرّواية «الصّادقة» والرّاوية «الأمين» لواقعنا الاجتماعي وللتغيّرات التي لحقت به وبمساره الديمقراطي والتحرّري.

كما ظلّت هذه الإبداعات على تنوّعها وثرائها بمثابة حائط الصّدّ المقاوم لتغريب الهوية وطمسها في بعض حالاتها على نحو ما كانت الثلاثيّة الاجتماعيّة (بين القصيرين، قصر الشوق، السكرية)، وقبلها الثلاثيّة التاريخيّة (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة)، فهي شاهدة على النسيج الوطني وتكاتفه من أجل هدف وحيد هو الاستقلال والحصول على الحرية، وظلت أيضا إكسيرا مقاوما للنسيان، في كلّ شيء، بدءا من ذاكرتنا وانتهاء بنكران الجميل.

الجحود

نعود للجواب على السؤال المطروح سابقا، فلا أجد أفضل من إشارة نجيب محفوظ ذاته على لسان أحد أبطال رواية «أولاد حارتنا» بأن «آفة حارتنا النسيان»، فمع قسوتها إلا أنّها الحقيقة التي تفسّر حالة النكران أو الجحود التي صار عليها الجميع (وهو الأمر الذي لحقه بعد وفاته). نعم، كان نجيب محقا عندما وصف حال الحارة التي هي عالم مصغّر للعالم الذي نحيا فيه.

أريد أن أتساءل وسؤالي إلى هؤلاء الذين حرمونا من متعة الجلوس في حضرة الرجل واستأثروا به لأنفسهم أو على الأدق احتكروه لأنفسهم، سؤالي ليس بمنطق المكسب والخسارة ماذا أخذتم من الرجل وماذا أبقيتم له؟ وحتى لا أكون قاسيا: ماذا فعلتم لشيخكم كما كان يحلو لكم تلقيبه؟! هل من قبيل الصّدفة أن يعترف أحد جلسائه في حوار له مع مجلة العربي بعد رحيل نجيب محفوظ بأنهم ولا نعرف من يقصد «ظلمنا نجيب محفوظ».

أي مفارقة هذه؟! تصدّر للمشهد وإعلان الحفاوة في وجود الرجل، ثم استغلال الاسم مرة ثانية بعد وفاته لتصدّر المشهد والبقاء في الصّورة على الدوام. لم يبق من الأشياء التي تحافظ على ميراث الرجل عدا دورية باسمه يشرف عليها الدكتور حسين حمودة ويصدرها المجلس الأعلى للثقافة على استحياء -وإن جاء متأخّرا- إضافة إلى السّلسلة التي تحمل اسمه، وتصدرها الهيئة العامة للكتاب، ومع الأسف حادت عن هدفها بإخراج الجديد الذي يحمل القيمة ويضيف إلى إبداع الرجل، إلى إعادة طبعات كتابات الصّفوة ممن يتربحون باسم الرجل حتى الآن. هل تراث نجيب محفوظ اختزل في مجلة وكتاب؟ الجواب: لا وألف لا.

كفى عبثا بهذا الكنز الذي لا نستحقه. فمحفوظ لو كان في أيّ بقعة أخرى لكانوا قد وضعوه في المكانة اللائقة على المستويين الإبداعي والقيمي كرمز. العجيب أنهم ضيّعوا علينا فرصة اللقاء والتزوّد من هذا المبدع العظيم، ومن ثمّ لم يبق لنا سوى الاقتراب من نجيب عن طريق غير مباشر، بالاقتراب من أعماله الخالدة، نعم، رحل نجيب محفوظ لكن بقي إبداعه خالدا وشاهدا على موهبة أصيلة، ورؤى حاضرة متجدّدة.

رحل نجيب محفوظ، وبقي إبداعه وسيبقى، رغم أنف المتحذلقين والنّفعيين والمتحوّلين، الذين استفادوا استفادات جمّة من الرّجل دون أن يبذلوا جهدا ليردّوا له ما أغدق عليهم به في حضرته، أو حتى يردّوا عليه بضاعته أو بعضا منها، لكن تبقى جملته الأثيرة تتردّد وكأنّها بمثابة الفعل المحرّض (والمؤنّب في الوقت ذاته) ضدّ تخاذلنا في حقّ قيمة الرّجل وربما تنكّرنا له، بأنّ «آفة حارتنا النسيان»، ويمكننا أن نقول تتمّة لقوله و«آفة مؤسساتنا الجحود والنّكران والإهمال».

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)