جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 23-07-2018
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي
بحثاً عن أسمهان... البدايات
<article4822|cycle|docs=5765,5766,5767,5768,5769,5770>
في العاشرة من صباح 14 تموز/يوليو 1944، قضت أسمهان غرقاً في “ترعة الساحل” مع مرافقتها ماري قلادة، وذلك قبل أن تنهي تصوير المشاهد الأخيرة من فيلم “غرام وانتقام”. بحسب الرواية التي نقلتها الصحافة، كانت السيارة التي استقلّتها النجمة تتجه في أقصى سرعة من القاهرة إلى رأس البرّ حين هوت في المياه، ولم ينج غير السائق.
أتمّ يوسف وهبي الفيلم بعد رحيل بطلته ليُعرض في نهاية العام. وأعلنت الصحافة إعادة عرض فيلم أسمهان الأول، “انتصار الشباب”، في نهاية تموز/يوليو، وكتبت مجلة “الإثنين” في تعليقها على هذا الخبر: “قامت شهرة النجمة الخالدة الذكر أسمهان على كونها مطربة نالت أسمى مكانة في نفوس الجماهير. لكنها عندما مثّلت دور البطلة في فيلم”انتصار الشباب" أثبتت أنها تمتاز بموهبة عظيمة كممثلة تغزو القلوب بمواقفها الرائعة. وستشاهدونها إلى جانب شقيقها المطرب المحبوب فريد الأطرش في هذا الفيلم الغنائي الاستعراض العظيم. ويبدأ عرضه في سينما الكورسال وسينما الأهلي بالقاهرة في يوم الإثنين 31 يوليو الجاري".
بدأ عرض “غرام وانتقام” في 10 كانون الأول/ ديسمبر، وحضر العرض الأول الملك فاروق الذي أبدى إعجابه بالفيلم، وأنعم برتبة البيكوية على مخرجه وبطله يوسف وهبي، كما نقلت “الإثنين”: “وأبى عطفه السامي ألاّ يشمل أسمهان، فأمر الملك بأن يُسمّى الصندوق الذي سينشأ لإعانة المحتاجين من الفنانين باسم”صندوق أسمهان" كتحية لفنّها، وتبرّع جلالته بمبلغ 500 جنيه لهذا الصندوق". إلى جانب الملك، حضر عدد كبير من أهل الفن والسينما، وكان ممّن حجزوا الكراسي العليا ودفعوا مبلغ خمسين جنيها لكل منها محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عزيزة أمير، محمود ذو الفقار، توجو مزراحي، جبرائيل نحاس، وبديعة مصابني. وتبرّعت الأخيرة بمبلغ خمسين جنيها لصندوق أسمهان، وقيل إن الكثير من العاملين في حقل السينما سيتبرعون بمبالغ أخرى لهذا الصندوق، وان هذا الافتتاح يمثّل “أعظم تقدير نالته ذكرى أسمهان”.
خطأ في التنفيذ plugins/oembed/modeles/oembed.html
سجّلت أسمهان خلال حياتها القصيرة عدداً محدوداً من الأغاني، واقتصر نتاجها السينمائي على فيلمين، إلا أنها نالت بعد رحيلها شهرة واسعة لم تعرفها خلال مسيرتها الفنية التي بدأت في مطلع 1931 وانتهت في صيف 1944. رحلت أسمهان باكرا عن هذه الدنيا، غير أن أخبارها الخاصة عادت لتغزو الصحافة بشكل واسع بعد مرور سنتين. في تموز/يوليو 1946، ولمناسبة الذكرى الثانية لوفاتها، كتب زوج أسمهان الأخير، أحمد سالم، في مجلة “الصباح” مقالة بعنوان “كيف كانت أسمهان من أسباب انتصار الحلفاء في الشرق الأوسط”، ونقل رواية تقول إن أسمهان عادت إلى سوريا في مهمة سرية تقوم على دعوة أهل الجبل لمناصرة قوى المحور في حربهم على فرنسا المناصرة لألمانيا في ظل حكومة فيشي. وبعد عامين، قدّم محمد التابعي روايته للأحداث في سلسلة من المقالات استعاد من خلاله قصته الشخصية مع أسمهان، ونقل رواية أخرى لمسيرتها في الفن والسياسة والحياة. جاء الردّ النقدي على هذه الروايات من لبنان حيث كتب سعيد فريحة في مطلع العام 1949 في مجلة “الصياد” سلسلة من أربعة مقالات حملت عنوان “أسمهان في لبنان”، وقدّم رواية معاكسة تعزو اختلاط المطربة في هذه الحرب إلى حس المغامرة لديها، وسعيها إلى الحصول على المال الوفير الذي يؤمّن لها حياة الترف والعبث التي تعشقها. وتمثل هذه الروايات شهادات من رواة عرفوا أسمهان عن كثب، ورافقوها في حياتها الصاخبة.
هكذا تشكّلت اسطورة أسمهان بعد رحيلها، مع العلم بأننا لم نجد حتى اليوم أي حديث لها في الصحافة. في أيار/مايو 1957، بدأت مجلة “الكواكب” بنشر سيرة مصوّرة لأسمهان حملت عنوان “النغم الحزين”، واستهلّتها بالقول “كانت حياتها لامعة كالشهاب، قصيرة كعمره”. وفي مطلع الستينات، كتب فوميل لبيب في “المصور” سلسلة من المقالات استعاد فيها فريد الأطرش سيرة حياة شقيقته من المهد إلى اللحد، وخرجت هذه السلسلة في كتاب بعنوان “قصة أسمهان يرويها فريد الأطرش”، كما خرجت سلسلة مقالات التابعي في كتاب “اسمهان تروي قصتها”. تحولت هذه الروايات إلى مراجع استند إليها عدد من الكتّاب وضعوا بدورهم كتباً تروي سيرة أسمهان، منها “أسمهان ملهاة الحقيقة ومأساة اللغز” لعبد العزيز القويعي، “نجمة عابرة” لماري سورا، “أسمهان ضحية الاستخبارات” لسعيد الجزائري، و"أسرار أسمهان: المرأة، الحرب، الغناء" لشريفة زهور. بعد هذه السلسلة من الروايات والأبحاث، سطع نجم أسمهان في مسلسل تلفزيوني استند بشكل أساسي إلى كتاب “أسمهان لعبة الحب والمخابرات” للكاتب سعيد أبو العينين. عُرض هذا المسلسل عام 2008، وحصد نجاحا عظيما، وأعيد عرضه مرارا في السنوات الأخيرة. ومع هذا النجاح الكبير، عادت أسمهان إلى الواجهة، وعاد السجال القديم الدائر حول ظروف حياتها وموتها.
في الواقع، بقيت أسمهان خلال حياتها في الظل، كما تشهد الصحافة التي رافقت خطواتها، ولم تحتلّ إلا حيزاً بسيطاً في المساحة الإعلامية، على عكس ما يُمكن تصوّره. قبل ظهور اسم أسمهان، ظهر اسم أمل الأطرش في نهاية كانون الثاني/يناير 1931، حيث تحدثت مجلة “الصباح” عن “مطربة جديدة”، وجاء في هذا الخبر القصير: “تُقيم في مصر آنسة من كرائم آنسات لبنان وسليلة من أعرق بيوتاتها في الشرف والمجد، ويكفي أنها من عائلة الأطرش المعروفة، وهي الآنسة أمل، وقد عني بتلقينها أصول فن الموسيقى والغناء الأستاذ الموسيقار الكبير داود حسني، لما آنسه فيها من مخايل الذكاء والاستعداد الموسيقي النادر وستظهر للجمهور عما قريب تحفة من التحف الفنية النادرة”. بعد أسبوع، عادت المجلة ونشرت رسالة وصلتها من شقيق “المطربة الجديدة” التي أعلنت عنها، ونصّها: “صاحب الصباح، تحيةً واحتراماً، قرأت في عدد الصباح الأخير كلمة عن ظهور مطربة جديدة اسمها الآنسة أمل الأطرش، وانها ستظهر للجمهور قريبا، والحقيقة ان الآنسة طالبة بالمدارس، ولم تتم دراستها بعد، ولا بد لها من الاتمام، ولما كانت تميل بطبعها إلى فن الموسيقى، فهي تتلقى أصوله على يد الأستاذ داود حسني، كما تتلقى غيرها من الأوانس دروساً فنية للفن فقط، ارواءً للنفس منه، واني مع احترامي لهذا الفن وتقديري لأهله، أكذّب إشاعة قرب ظهورها للجمهور كمطربة، وخصوصاً أنها تنتمي إلى أسرة لها مركزها الخاص في بلاد العرب وهذا مما لا ترتاح إليه تقاليدنا ولا يسمح به مركزنا الاجتماعي والعائلي، وتفضلوا بقبول احترامات شقيق الآنسة الأكبر فؤاد الأطرش”.
ظهر اسم آمال الأطرش في “الصباح”، ثم غاب. وفي 23 حزيران/يونيو، ظهر اسم أسمهان في باب “الأغاني العصرية”، من دون أي إشارة إلى الاسم الأصلي، مع نص أغنية بعنوان “كلمة يا نور العيون”، وهي بحسب التعريف المرافق: “طقطوقة، نظم يوسف بدروس، تلحين الأستاذ محمد القصبجي، تغنّيها الآنسة أسمهان”. في 2 أكتوبر/ تشرين الأول، عادت “الصباح” إلى الحديث عن “النجمة الجديدة أسمهان”، من دون أي إشارة إلى “آمال الأطرش”، وقالت في حديثها: “لا يكاد أيّ محب للموسيقى والغناء يستمع قليلا إلى الآنسة أسمهان وهي تغرّد بصوتها العذب الحنون في أسطوانات كولومبيا حتى يقول في عجب وطرب: مدهش. ولا يلبث يكرر ليقول القارئ بدوره: مدهش. وأيضاً فإن إحدى الشركات الأخرى رغبت التعاقد معها، فأخبرتها شركة كولومبيا بما ينصّ عليه العقد، وهو دفع أي شركة تحاول التعاقد معها غرامة مالية كبيرة لشركة كولومبيا. ولقد خُصّص لها كبار الملحّنين كالأساتذة محمد القصبجي وداود حسني وزكريا أحمد وفريد غصن، فجاءت قطعها رائعة فذة تطرب لما تحسه فيها من روح آسية خلقت لتشجي النفوس. ويسحرك الصوت العذب الرائق فتستمع حقاً بنشوة الغناء، فكم من ضجة وأثر سوف تحدثهما في الوسط الفني، من غير حاجة إلى الدعاية والاعلان، فستكون اسطواناتها خير دعاية وأكبر اعلان لها”.
في عددها التالي، نشرت المجلة إعلاناً احتلّ صفحة كاملة من صفحاتها، مع نص يقول: “تدعوكم شركة كولومبيا لسماع النجمة الجديدة الآنسة أسمهان لتحكموا بأنفسكم انكم تستمعون إلى أعذب صوت حنون”. هكذا أطلقت شركة كولومبيا أسمهان في عالم الغناء، وقدّمتها في قصيدة “أين الليالي” وطقطوقة “يا نار فؤادي”، والقصيدة من نظم اسماعيل أفندي صبري وتلحين محمد القصبجي، أما الطقطوقة، فهي من شعر يوسف بدروس وتلحين فريد غصن. ونقع على إعلان آخر يقول “النجمة الجديدة بالقطر المصري أسمهان، وهي المطربة الجديدة التي لم تبلغ من العمر أكثر من 14 سنة، وقد حازت من الفن ما لم تحزه كبيرات المطربات”.
يقول التابعي ان أسمهان ولدت في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1912، ويتبنى فكتور سحاب هذا التاريخ في كتابه “السبعة الكبار” ليؤكد أن أسمهان سجلت أغانيها الأولى وهي في العشرين من عمرها. في المقابل يقول إعلان شركة كولومبيا بأن المطربة “لم تبلغ من العمر أكثر من 14 سنة”، واتضح أنها سجلت “يا نار فؤادي” في 1931، وليس في 1937 كما ذكر فكتور سحاب في كتابه. بعد “كلمة يا نور العيون”، “اين الليالي” و"يا نار فؤادي"، سجّلت أسمهان “في يوم ما شوفِك راضية عني” و"كنت الأماني"، من شعر يوسف بدروس وتلحين القصبجي. و"عاهدني قلبي"، نظم محمود إسماعيل، وتلحين زكريا أحمد.
دخلت أسمهان عالم الفن من الباب الكبير في العام 1931، ولفتت الأنظار إليها بسرعة. نقلت مجلة “الكواكب” خبرا يقول بأن إحدى الشركات السينمائية تتفاوض مع أسمهان “للقيام في دور غنائي” أمام بدر لاما في فيلم بعنوان “خفايا القاهرة”، والأكيد أن هذا المشروع لم يتحقّق. توقّفت انطلاقة أسمهان، ولا نجد في الصحافة الفنية التي رصدت هذه الانطلاقة أيّ تفسير لذلك. والأكيد أن آمال الأطرش احتجبت فترة زمنية تخلّت فيها عن الفن، وعاشت كأميرة “تنتمي إلى أسرة لها مركزها الخاص في بلاد العرب”، بحسب تعبير شقيها الأكبر فؤاد. بعد فترة يصعب تحديد مدّتها، عادت آمال الأطرش إلى القاهرة، وتقمّصت دور أسمهان من جديد.
تكررت هذه التجربة في السنوات الأخيرة من عمر أسمهان القصير، كما تشهد الصحافة التي رافقت هذه المسيرة الصاخبة. ويتّضح عند مراجعة هذه الصحافة ان الكثير من الروايات التي سادت بعد مرور سنوات عديدة على رحيل أسمهان تفتقر إلى أي سند متين.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.
جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 29-07-2018
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي
بحثاً عن أسمهان.. سيرتها اللامعة كالشهاب والقصيرة كعمره
<article4822|cycle|docs=5771,5772,5773,5774,5775,5777,5778>
دخلت أسمهان عالم الفن من الباب الواسع في سنة 1931 حين تبنتها شركة أسطوانات “كولومبيا”، وأنتجت لها سلسلة من الأغاني لحّنتها كوكبة من كبار الملحنين، لكنها احتجبت بسرعة بعد هذه الانطلاقة المميزة، وغابت عن الفن سنوات عدة. قيل الكثير في تفسير هذا الغيبة، إلا اننا لا نجد تفسيرا مقنعا لها حتى اليوم.
تقول الرواية الشائعة ان شقيق اسمهان الأكبر فؤاد، سافر إلى جبل الدروز سنة 1933 وهو في السابعة والعشرين، وسانده هناك ابن عمه الأمير حسن. وسعى فؤاد إلى قطع مشوار أخته الفني لإنقاذ مكانة العائلة، واستطاع أن يبعدها إلى دمشق، ثم إلى الجبل، حيث اقترنت بابن عمها وأنجبت منه ابنتها الوحيدة كاميليا، ثم انفصلت عنه، وعادت إلى القاهرة في 1937 لتكمل فيها مشوارها الفني. ويُمكن القول إن هذه الرواية تحتاج إلى شهادة صحافية من تلك الفترة تدعمها وتؤكدها، قبل الأخذ بها بشكل مطلق.
في استعادته لمسيرة شقيقته، اعتبر فريد الأطرش ان زواج أسمهان من الأمير حسن تمّ بعد فيلم “انتصار الشباب”، ونقل فوميل لبيب هذه الرواية في كتابه “لحن الخلود”، واعتبر أغلب البحاثة ذلك “خطأ واضحاً” كما أشار فكتور سحاب في كتابه “السبعة الكبار”. الأكيد، أن أسمهان عادت إلى القاهرة لتشق من جديد مشوارها في عالم الفن والغناء، وظلّت تُعرف بلقب “الآنسة” وليس “السيّدة”. بعد “كولومبيا”، تبنّت شركة “بيضافون” الصبية العائدة إلى ساحة الغناء، وأطلقت “الآنسة أسمهان”، ووصفتها بـ"أصغر المطربات سناً وأعذبهن صوتاً"، كما تقول إعلانات اسطواناتها. في بداية هذا التعاون، أصدرت الشركة أربع أغنيات. اثنتان منها من تلحين فريد الأطرش، وهي “المحمل” (عليك صلاة الله وسلامه) من تأليف بديع خيري، و"رجعت لك يا حبيب" من نظم يوسف بدروس، واثنتان من تلحين محمد القصبجي، وهي “فرّق ما بينا ليه الزمان” من نظم علي شكري، و"يا طيور" من كلمات يوسف بدروس.
استمرّ هذا التعاون، وسجلت أسمهان لحساب “بيضافون” من تلحين شقيقها فريد، “نويت أداري ألامي” كلمات يوسف بدروس، ومن تلحين القصبجي قصيدة الشاعرة الجاهلية ليلى العفيفة، “ليت للبراق عينا”، وقصيدة بشارة الخوري “اسقنيها بأبي أنت وأمي”، وطقطوقة “فرّق ما بيننا ليه الزمان” من كلمات علي شكري. كما سجلت من تلحين مدحت عاصم “دخلت مرة في جنينة” من كلمات عبد العزيز سلام. وغنّت كذلك أغنية أخرى من إعداد مدحت عاصم، “يا حبيبي تعال الحقني”، وهي في الأصل لحن أجنبي قُدّم في فيلم “زوجة بالنيابة” الذي قامت ببطولته ماري كويني.
في عام 1939، سجّلت أسمهان من ألحان عبد الوهاب وكلمات بيرم التونسي “عيشة الفلاح”، كما شاركت عبد الوهاب الغناء في أوبريت “مجنون ليلى” من نظم أحمد شوقي. قُدّم العملان في فيلم “يوم سعيد” عام 1940، غير أن أسمهان لم تظهر على الشاشة إلّا صوتاً. في 17 آذار/ مارس، احتلت صورة المطربة الشابة غلاف مجلة “الراديو” في بيروت، مع تعريف مرافق يقول: “الآنسة أسمهان الأطرش. ننشر رسمها لمناسبة نجاحها الباهر، وان لم تظهر في فيلم”يوم سعيد"، وقد ضربت الرقم القياسي بجودة الغناء وحسن التعبير في القطعتين الخالدتين: قيس وليلى، ومحلاها عيشة الفلاح". ويتّضح هنا أن اسمها بقي “آنسة” في القاهرة كما في بيروت.
دخلت أسمهان الإذاعة المصرية، ونشرت مجلة “الراديو المصري” صورتها لمناسبة تقديمها مع فرقتها في 12 حزيران/ يونيو حفلة غنائية غنّت فيها طقطوقة “أعمل ايه علشان انساك” من كلمات يوسف بدروس ولحن فريد الأطرش. وأدّت أغاني أخرى، منها قصيدتان طويلتان سجّلتهما على الأرجح لحساب الإذاعة البريطانية، الأولى نظم أحمد شوقي وألحان القصبجي، ومطلعها “هل تيّم البان فؤاد الحمام فناح فاستبكى جفون الغمام”. والثانية قصيدة “حديث عينين”، نظم محمد فتحي وتلحين السنباطي، ومطلعها: “يا لعينيك ويالي من تسابيح خيالي/ فيهما ذكرى من الحب ومن سُهد الليالي”. إلى ذلك، قدمت أسمهان في تلك الحقبة من حياتها أعمالا أخرى ضاع أثرها. من هذه الأعمال المفقودة، ثلاثة ألحان لزكريا أحمد: قصيدة “غير مجد في أمّتي” من شعر أبي العلاء المعرّي، و"هديتك قلبي" من كلمات أحمد رامي، و"عذابي في هواك أرضاه" من كلمات أحمد رشدي. ولحنان للسنباطي: “قرطبة الغراء” من شعر ابن زيدون، و"الدنيا في إيدي" التي تُنسب طورا إلى يوسف بدروس، وطورا إلى محمد السعيد عبده.
في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1940، ظهرت أسمهان مع شقيقها فريد على غلاف “الراديو المصري”، وكانت المناسبة الإعلان عن فيلم “انتصار الشباب” الذي أخرجه أحمد بدرخان. في هذا الشريط، قدمت أسمهان مجموعة من الأغاني لحّنها شقيقها، وهي “كان لي أمل”، “ياللي هواك شاغل بالي”، “الشمس غابت أنوارها”، “إيدي فإيدك” و"أوبريت انتصار الشباب"، من كلمات أحمد رامي، و"يا ليالي البشر" من كلمات يوسف بدروس، “يا جمال الورد” من شعر محمد حلمي الحكيم. كانت أسمهان بحسب القانون، سورية تعيش في مصر، وتزوجت عرفياً من مخرج الفيلم أحمد بدرخان كي تحصل على الجنسية المصرية وتبقى في مصر كما يُقال، وانتهى هذا الزواج بعد أقل من خمسين يوما بسبب غيرة الزوج من شهرة زوجته وسطوع نجمها، وقيل في مقالة تعود إلى تلك الفترة: “لا ندري مكان الحقيقة في المعسكرين، ولكننا ندري أن أسمهان ساخطة هذا السخط الذي دفعها إلى الاحتفاظ بملابس زوجها الداخلية والخارجية، وإلى الآن ترفض تسليمها له”.
عاشت أسمهان حياة مترفة، وعاشرت أسياد مصر في مطلع الأربعينات، ثم غابت عن الحياة الفنية، وعادت من جديد إلى سوريا لتنتحل مرة أخرى شخصية الأميرة، وظهرت في العديد من المناسبات الاجتماعية إلى جانب زوجها الأمير حسن. اللافت هنا، ان الصحافة المصرية نقلت بعضا من أخبار هذه المناسبات، وذكرت اسم “آمال الأطرش”، مكتفيةً بوضع اسمها الفني بين هلالين، وكأنها فنانة معتزلة. في 5 حزيران/يونيو 1942، تحت عنوان “رئيس جمهورية سوريا في ضيافة آمال الأطرش”، نشرت “المصور” خبرا يقول بأن الشيخ تاج الدين الحسني زار بيروت في أيار/مايو، “فأقامت له الأميرة آمال الأطرش (أسمهان) مأدبة عشاء دعت إليها رئيس الجمهورية اللبنانية والجنرالات سبيرس وهاملتون وكاترو ووزراء لبنان وسوريا”.
ونشرت المجلة صورة للأميرة وسط فريق من مدعويها “وإلى يمينها الأستاذ الفريد نقاش رئيس الجمهورية اللبنانية، وإلى يسارها قرينها الأمير حسن الأطرش ووزير الدفاع اللبناني”، كما نشرت صورة أخرى لها “وهي تستقبل الشيخ تاج الدين الحسني، وقد ظهر خلفها ابن عبد الغفار باشا الأطرش”.
كما في الثلاثينات، غابت أسمهان ثم عادت وظهرت فجأة من دون مقدمات. في 12 مارس/آذار 1944، كتبت مجلة “الإثنين” في زاوية “أخبار في سطور”: “عادت المطربة أسمهان إلى القاهرة، وتنوي أن تمضي في مصر حوالى ثمانية أشهر. وقد قالت أم كلثوم إنها دهشت من الإشاعة التي أطلقها بعض المغرضين، وفحواها انها حاولت ان تمنع أسمهان من الحضور إلى مصر”. في مطلع أيار/مايو، ذكرت المجلة ان أسمهان “أقامت حفلة ساهرة في فيلتها بالهرم، ودعت إليها طائفة من أهل الفن وعدداً من صديقاتها وأصدقائها، وكانت سهرة فنية شائقة لعب فيها على البيانو الفنان مدحت عاصم، وغنّت أسمهان مع الأستاذ محمد البكار بعض الأغاني المصرية واللبنانية وغيرها. وكان الإعجاب بأغانيهما شديدا، حتى اقترح البعض ظهورهما معا في فيلم واحد”.
بعد فترة وجيزة، تبيّن أن أسمهان عادت إلى مصر لتلعب دور البطولة في فيلم “غرام وانتقام”، واحتلت صورتها غلاف “الاثنين” في أيار/مايو، مع تعليق يقول: “نجمة ستوديو مصر اللامعة، وكوكب فيلم يوسف وهبي الذي سينتجه الاستديو الآن”. ضمّ الفيلم مجموعة بديعة من الأغاني، منها أربع من تأليف أحمد رامي، وهي “ليالي الأنس”، “أيها النائم”، “إمتى حتعرف”، و"نشيد الأسرة العلوية". لحّن فريد الأطرش الأغنية الأولى، ولحّن السنباطي “أيها النائم”، والنشيد الذي اشتهر باسم “بنت النيل”. في المقابل، لحّن القصبجي “إمتى حتعرف”، إضافة إلى “أنا اللي أستاهل” التي كتب كلماتها بيرم التونسي. كذلك، أدّت أسمهان من تلحين شقيقها موال “يا ديرتي” من كلمات علي الخياط، و"أهوى" من تأليف مأمون الشناوي. تزوّجت أسمهان في تلك الفترة من الممثل السينمائي أحمد سالم، وعاشت معه حياة فضائحية صاخبة تناقلت الصحافة أخبارها المثيرة بلهفة. وانتهى هذا الزواج بعد فترة قصيرة بتبادل للرصاص كاد يودي بالزوج وبضابط للشرطة، كما نقلت الصحافة يومذاك.
قضت أسمهان غرقا في النيل قبل أن تكمل تصوير مشاهد الفيلم الأخيرة، وكتب الأخطل الصغير في رثائها، قصيدةً مطلعها: “أضاع جبريل من قيثاره وتراً/ في ليلة ضلّ فيها نجمه الهادي”. في الذكرى الثانية لرحيلها، كتب زوج أسمهان الأخير، أحمد سالم، مقالة بعنوان “كيف كانت أسمهان من أسباب انتصار الحلفاء في الشرق الأوسط”، وروى للمرة الأولى رواية تقول إن النجمة عادت إلى سوريا في مهمة سرية تقوم على دعوة أهل الجبل لمناصرة قوى الحلفاء في حربهم على فرنسا المناصرة لألمانيا في ظل حكومة فيشي، وبدت المطربة الشابة في هذه القصة “امرأة غلب طموحها السياسي على طموحها الفني” بحسب تعبير فكتور سحاب. وبعد عامين، كتب الصحافي محمد التابعي سلسلة طويلة من المقالات استعاد فيها قصته الشخصية مع أسمهان، وسلّط الضوء على نضالها الوطني. بدوره، كتب سعيد فريحة في مطلع عام 1949 سلسلة أخرى من أربعة مقالات طويلة في “الصياد”، وقدّم رواية معاكسة كليا تعزو اختلاط أسمهان في هذه الحرب في الدرجة الأولى إلى سعيها للحصول على المال الوفير الذي يؤمّن لها حياة الترف والعبث واللهو.
ظهرت صور أسمهان التي تعود إلى تلك الحقبة بعد رحيلها بسنوات، ومنها صورة تجمع بينها وبين الجنرال ديغول، وأخرى مع الجنرال غورو، وثالثة وهي تتقلّد “وسام اللورين”، أي شارة “فرنسا الحرة”. دفعت هذه الصور بعدد من الكتّاب إلى البحث عن “أسرار أسمهان: المرأة، الحرب، الغناء”، كما يقول عنوان كتاب شريفة زهور. بعدها، تبنّى مسلسل “أسمهان” الرواية الوطنية، ونسج سيرة أسمهان من حولها.
في الخلاصة، يُمكن القول إن فريد الأطرش شقّ طريقه بخطى ثابتة، وعاش لفنّه باسم واحد وقدر واحد منذ بداياته في عام 1933، إلى أن رحل عن هذه الدنيا في نهاية 1974. في المقابل، حملت شقيقته منذ انطلاقها في عالم الفن وجهين، وضاعت بين قدرين، فـ"كانت حياتها لامعة كالشهاب، قصيرة كعمره"، كما كتبت “الكواكب” حين باشرت نشر سيرتها المصورة في أيار/مايو 1957.
(*) الحلقة الثانية والأخيرة عن ذكرى رحيل أسمهان
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.