جريدة العرب
نُشر في 25-01-2018، العدد : 10880، ص(20)
الصفحة : حياة وتحقيقات
العرب - القاهرة - محمـد عبدالهادي
اندثرت الفتوة في مصر وبقيت النبابيت والشومة
وراء العصيّ الخشبية الغليظة “النبابيت” بمصر حكايات يحفظها بائعوها، وتجسد سير الحرافيش والفتوات بالحارات الشعبية القديمة، وتخلد أسماء أبطال قاوموا المحتلين المدججين بالأسلحة، وتفضح أعمال البلطجية الذين يزاولون ممارسات السيطرة والتهديد.
لا يزال “النبوت” أو “الشوم” صديقا ملازما للكثير من المصريين، يعتبرونه أداة للدفاع عن حياتهم وقت الشدة، وسندا في الكبر، وأرشيف ذكريات يحفظ لحامله سلسلة انتصاراته وهزائمه ومناسباته الاجتماعية في الأفراح والأعياد.
لم تختف “النبابيت” من مصر رغم اندثار الفتوات، إنما استمرت لاعبة أدوارا جديدة في حياة المصريين ما بين حملها كسلاح للدفاع عن النفس، وحلولها أداة في فقرة استعراضية أمام العروسين خلال حفلات الزفاف، واحتفاظها بعرش الألعاب التقليدية الإجبارية في صعيد مصر؛ “التحطيب”.
والنبوت أو الشوم، عصا غليظة مستقيمة ضخمة تنتهي في طرفها بكتلة مستديرة، وتعود أصول التسمية إلى كلمة “نبا” الهيروغليفية التي تعني العمود أو السارية الخشبية، وكانت وحدة لقياس الطول عند الفراعنة.
انضمت العصي الغليظة إلى كادر العمل في الكثير من الأعمال الدرامية والروايات المصرية، لتلعب في بعضها دور البطولة ملتصقة بيد البطل باطشة بأعدائه، أو في دور “الكومبارس” فاشلة في تغيير حظه ومنحه النصر ليطلى خشبها بدمائه.
يقول سعيد الصعيدي، الشاب الثلاثيني، من أمام محله لبيع النبابيت وعصي الخشب والخيزران، إن بضاعته رغم تراثيتها تعتمد في المقام الأول على الاستيراد من الخارج، فخشب النبابيت مستورد من بلغاريا، وعصي الخيزران إما من ماليزيا وإما من سنغافورة، ويقتصر دور البائع أو الصانع على تشكيلها بثني طرفها أو تهذيبها أو تجميلها.
ويعرض الصعيدي، الذي ورث تلك المهنة أبا عن جدّ، سلسلة من الشوم والنبابيت والعصي مختلفة الأحجام وكلها كفيلة بشق الرأس حال تلقي ضربة بها، بعضها كلاسيكي لا يتضمن أي تدخل بشري، والبعض الآخر منقوش بزخارف إسلامية، ولكل نوع منها زبونه.
ويقول، لـ”العرب”، إن بعض الزبائن لن يستغنوا عن بضاعته، كتجار الماشية الذين يشترون الثيران الضخمة باستمرار، فلا يوجد تاجر ماشية بمصر لا يحمل نبوتا يدافع به عن نفسه من الإنسان أو الحيوان في الوقت ذاته.
ويشير الصعيدي إلى أن النبابيت لا تزال واجهة لدى البعض حتى الآن خصوصا في صعيد مصر، فلا يستطيع التحرك دونها، أو بمعنى آخر باتت مكونا من مكونات الزي والشخصية الذي تتوارثه الأجيال.
ويُعتبر حمل العصا في صعيد مصر نوعا من التقاليد المتوارثة التي توحي بقيم الشجاعة والانتصار في مبارزات التحطيب، التي تبدأ بإلقاء اللاعبين التحية والدوران حول بعضهما 4 مرات، ثم تقارع العصا العصا وتنتهي بهزيمة من تفلت عصاه من يده. يفرح بائع النبابيت كثيرا بالأعمال الدرامية التي تناولت “النبوت”، إذ أعطته نوعا من الهيبة والتكريم، لكنه يخشى في الوقت ذاته من الغزو الشديد للعصي المعدنية التي تتزايد إعلاناتها ومحال بيعها بمصر، ما قد يؤدي إلى انقراض مهنته.
وضمت مكتبة السينما المصرية العشرات من الأفلام التي تناولت “العصا” أشهرها “التوت والنبوت” لعزت العلايلي و”الحرافيش” لمحمود ياسين وصلاح قابيل، و”سعد اليتيم” لأحمد زكي ومحمود مرسي، و”الشيطان يعظ” لفريد شوقي وعادل أدهم، والجوع لمحمود عبدالعزيز، وتدور جميعها حول أزلية الصراع بين الخير والشر باستخدام النبوت.
يعود ارتباط المصريين بالعصا إلى عصر الفراعنة الذين ابتكروها كفن من الفنون القتالية، لتضم المعابد القديمة مثل معبد الكرنك في مدينة الأقصر بجنوب مصر نقوشا لأفراد يتمرنون على القتال بقضبان غليظة من نبات البردي.
واقترن استخدام النبوت والعصا الخشبية خلال العصر الحديث بالنشاط السياسي، لتستخدم كأداة قتال في مواجهة المحتل الأجنبي لتكون السلاح الأول للمدنيين في معاركهم مع الحملة الفرنسية بالدلتا وشمال الصعيد، على حدّ سواء.
كما لعبت دورا هاما في مقاومة الاحتلال البريطاني، كمواجهات “الحسينية” في وسط القاهرة التي لجأ أهلها إلى حفر حفرة تتعطل أمامها سيارات الجنود الإنكليز ليهجموا عليهم بالشوم والعصي.
وإبان الانفلات الأمني الذي أعقب أحداث 25 يناير 2011، كانت الشوم وسيلة تسليح رئيسية للجان الشعبية التي تم تشكيلها لضبط الأمن، ومواجهة الفراغ الذي أعقب انسحاب الشرطة من الشوارع.
وفقا لبائعي العصيّ الخشبية، فإن الفترة التي أعقبت أحداث 30 يونيو 2013 كانت الأكثر مبيعا لـ”الشوم” والعصي، فحينها تلقوا طلبات بكميات كبيرة، لخدمة اعتصام الإخوان في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة والنهضة بالجيزة القريبة منها، حتى أن بعض التجار عاودوا العمل بها مرة أخرى بعد توقفهم عن العمل والاكتفاء بصنع عكاز الخيزران.
ويؤكد محمود علي، الذي يزاول مهنة بيع العصي الخشبية على الطريق السريع الرابط بين القاهرة والإسكندرية، أن النبوت يعتبر السلاح الوحيد القانوني الذي يمكن للإنسان حمله للدفاع عن نفسه وهذا أحد المبررات الرئيسية لاقتنائه.
ويضيف، لـ”العرب”، أنه اختار الطريق لخدمة سائقي النقل الذين يتحركون في أوقات متأخرة من الليل ويكونون عرضة أكثر لمحاولات البلطجية الذين يريدون إجبارهم على دفع إتاوات غير شرعية مقابل المرور من الطريق، ما دفعهم إلى اقتناء نبابيت ووضعها تحت كرسي القيادة لاستخدامها عند اللزوم.
ويقول أحد بائعي العصيّ الخشبية إن المصريين لم ينسوا أنها كانت رمزا للفتوات المحترمين الذين تولوا حماية الحارة، مقابل إتاوة شهرية، قبل تغير الحال لتصبح وسيلة للبلطجة في يد الخارجين على القانون والشباب العابث.
وأوضح الدكتور يسري عبدالغني، الباحث في التراث الثقافي المصري، إن النبابيت بمصر تحمل عدة معان مجازية لتجسد الصراع بين القوة الغاشمة والفوضى والتسيب والدفاع عن النفس ومواجهة الظلم ونصرة المظلوم من جهة أخرى، والخوف من الواقع الذي لا يرحم الضعيف.
وكان لكل حارة فتوة، وتعني الكلمة لغويا مرحلة بين طوري المراهقة والرجولة، يتولي مع أتباعه الدفاع عنها وإغلاق بواباتها مساء وإنارة المصابيح الزيتية والتفتيش عن الغرباء، بينما كانت تخضع المناطق الراقية لفتوة أقرب منطقة شعبية.
ومع رغبة كل فتوة في فرض سيطرته على حارة مجاورة، نشبت معارك خارج التجمعات السكنية يتبادل فيها الفتوات القتال بالعصي والنبابيت لتنتقل تبعية الحارة إلى المنتصر الذي يُحمل على الأكتاف مع ترديد أنصاره لهتافات “اسم الله عليه” (يحرسه الله).
وبدأ العصر الذهبي للنبوت بمصر مع نهاية عصر المماليك بمصر في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وظهور عصابات تنهب الأسواق ليتجمع من كل حارة أشخاص ضخام الحجم حاملين العصي لحمايتها، ثم مع مرور الزمن تحولت المبادرة إلى مهنة حرفيوها “الفتوات”.
وأضاف عبدالغني، لـ”العرب”، أنه “رغم التطور التكنولوجي ودخول أدوات أو عكاكيز ذكية بعضها يضيء الطريق أو يمنع التزحلق والسقوط، فإن كبار السن في الصعيد بالذات لا يزالون الأكثر حفاظا على النبوت يستعينون به في حياتهم، ولأنه موروث ثقافي، حتى أن بعض العائلات تتوارث نبوت الجد الأكبر جيلا وراء جيل إلى الآن، لتخليد ذكراه”.
عن جريدة العرب اللندنية
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر
الخميس، ١٧ أغسطس/ آب ٢٠١٧
جريدة الحياة
القاهرة - صفاء عزب
ظاهرة «الفتوّة» حفظها أدب محفوظ وذاكرة القاهرة القديمة
عرفت مصر ظاهرة «الفتوّة» منذ القدم. فالرجال المدرجون تحت هذا الوصف ممن تتوافر فيهم الشهامة والشجاعة والإقدام، يتولّون مهمة الدفاع عن أهل مناطقهم وأحيائهم مقابل بعض المال أو «إتاوة». وهذه «المهنة» تتوارثها الأجيال المتعاقبة داخل العائلة الواحدة، أو تنتقل الزعامة من فتوة إلى آخر إذا ما نجح في كسر نبوت (عصا) الفتوة السابق وإيقاعه على الأرض.
قدّم الأديب نجيب محفوظ تشريحاً دقيقاً لمجتمع الفتوات ومركزية النبوت فيه، في إشارة إلى الفلسفة الحاكمة آنذاك حيث الغلبة للقوة على العقل، ليصبح أدب محفوظ المرجع الأول لتلك المهنة التي اندثرت بصورتها القديمة، مقابل تمحورها في صورة سلبية مع «البلطجة» و «السطو». وإلى جوار الأدب المحفوظي، لا تزل أحياء القاهرة القديمة تحفظ سير فتواتها، وبعضها يرجع إلى ثلاثينات القرن الماضي.
في ضاحية الحسينية (وسط القاهرة) يحكي العم عبدالله، أحد المسنّين في الضاحية، عن زمن الفتوات في الحي القديم. يتذكر زكي الصيرفي أشهر فتوات الحسينية في فترة الثلاثينات وحتى قيام ثورة تموز (يوليو)، فيتحدث بفخر عن دوره في دعم الضباط الأحرار. ويقول: «أكثر ما كان يرهب الناس كلبه الضخم الذي كان يرافقه في الليل، حتى أن بعض سكان الضاحية كانوا يتجنّبون الخروج ليلاً خوفاً من الكلب».
في ضاحية السيدة برزت أسطورة «عفيفي القرد»، وهو فتوة اشتهر بشجاعته في مواجهة الخطر لحماية أمن منطقته. كذلك اشتهر الفتوة محمود الحكيم في شارع الغورية (أحد شوارع القاهرة الفاطمية). وعلى مسافة خطوات في حي الدراسة قرب الأزهر، كانت صولات وجولات للفتوة حسن كسلة الذي مارس دوراً مهماً في حماية الأمن بدلاً من الأجهزة الرسمية وقاد ما يشبه الشرطة الشعبية.
من فتوات ضواحي القاهرة الفاطمية الذين خلّد محفوظ ذكراهم عاشور الناجي، الفتوة الذي انتصر للعدل ليصبح الرمز لا القوة الطاغية. وتحتفظ ضاحية بولاق (شمال القاهرة) بذكرى أشهر فتواتها ممن نُسجت حولهم قصص عدة. منهم إبراهيم كروم الذي كان والده راعياً للغنم، لكنه فضل العمل في رصف الطرق ثم النجارة، وعُرف بعداوته الشديدة للإنكليز خلال احتلالهم مصر. وعلى رغم سطوته لم يكن يتورع عن التحطيب (الرقص بالخشب) في الشارع عند مرور زفاف ما، ما أدى إلى إثارة حفيظة بعض أهالي الضاحية ممن لا يرضون لفتوتهم «الخروج عن المألوف».
ارتبط اسم فتوة بولاق برؤساء مصر الراحلين، بداية من دوره في دعم المقاومة خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وتعلقه بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وعن ذلك يردد أهالي الضاحية أنه «ذهب إلى السيرك القومي راغباً في شراء أسد حتى يستقبل به عبد الناصر عند عودته من الهند لكنه لم يستطع، فاستقبل ناصر في ميدان عابدين على حصان وسط 3 آلاف رجل من أنصاره رافعاً لافتة كبيرة طريفة مكتوباً عليها «إبراهيم كروم فتوّة مصر يحيي جمال عبدالناصر فتوّة العالم».
ويحكي أهل الضاحية أن كروم خبأ الرئيس الراحل أنور السادات حين اتُّهم في قضية اغتيال أمين عثمان الذي كان وزير المال في الحــكومة الوفدية عام 1946. وبهذا يفـسّر أهالي الضاحية تلبية السادات دعوة كروم إلى زيارة ضاحيتهم بعدما صار رئيساً، وسط احتفال شعبي كبير. كذلك لرد اعتبار الرجل الذي سجن خلال العهد الناصري بتهمة الانتماء إلى جماعة «الإخوان المسلمين» عقب حادث المنشية ومحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها عبد الناصر.
ومن القصص الغريبة أن ضاحية المطرية (شرق القاهرة) عرفت فتوة «سيدة» خاضت معارك دامية كانت تنتهي بضحايا وقتلى على يديها، حتى قبض عليها بعد قتلها خمسة أشخاص في معركة واحدة، وفق روايات أهل الضاحية.
وفي الإسكندرية، يتردد إلى الآن اسم «النونو» عند الحديث عن «زمن الفتوات»، علماً أن صيته ذاع مطلع القرن العشرين، وأطلق عليه لقب «الشبح» من فرط ما يثيره من رعب في قلوب الناس. حتى أن «قوات الاحتلال الإنكليزي كانت تخشاه وتشتري رضاه بإمداده بالمؤن» وفق قصص حول سيرته.
تواكب ظهور «عصر الفتوات» في مصر مع أحداث سياسية ساخنة مطلع القرن التاسع عشر. حينها تخاذلت قوات المماليك في حماية الشعب، حتى أن بعضهم استنجدوا بالمصريين لمساعدتهم، خصوصاً عقب الحملة الفرنسية (1798 إلى 1801)، فبرزت الزعامات الشعبية التي تتولى حماية الناس قبل أن تتطور الظاهرة في صورتها التي رسمها نجيب محفوظ ونقلها إلينا من الأزمنة البعيدة عبر سطوره.
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.