جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8581 الجمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2016 - 7 ذو الحجة 1437هــ
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي
أسمهان ابنة الماء
أراها رنة التجديد في عالم الغناء العربي والمساحة الصوتية المتميزة التي منحت كبار الملحنين الحرية في التلحين لصوتها الخاص، ظهرت مثل زهرة برية لتكسر النمطية، وسحبت لخامة صوتها ولعالمها جيلاً من الملحنين ـ كانوا هم من يمنحون الأصوات بصمتهم ـ لتأخذهم لجمال روحها وتأثيرها صوتاً وحضوراً.
روى الشاعر الصديق فاروق شوشة الذي كان صديقاً للموسيقار رياض السنباطي أنه أستغرب وهما في بيت أسمهان أن الموسيقار يتخلى عن وقاره عندما بدأت أسمهان تغوص في الغناء ويترك مقعده ويجلس على الأرض أسفل كرسي أسمهان ولم ينته اليوم قبل أن يسأل الشاعر الموسيقار السنباطي عن ذلك التصرف الذي لم يشاهده فيه من قبل، وبسرعة رد الموسيقار بأن باقي الأصوات عظيمة لكنها بشرية، أما أسمهان فهي صوت نازل من السماء، ومن يعرف سيرة رياض السنباطي يعلم تماماً كم كان صعبا في حكمه، وأحياناً كان أثناء اختباره للأصوات في الإذاعة يسكت المتقدم ويطرده منذ أول حرفين وقبل ان يكتملا كلمة، كونه عالم ولا يحتاج أكثر من لحظات حتى يقرر جودة الصوت من عدمه.
تحزب السنباطي لأسمهان، والتفت حولها قمم كبيرة من الشعراء والملحنين الكبار وعلى رأسهم مكتشفها داوود حسني، زكريا أحمد، رياض السنباطي، محمد القصبجي، وله حصة الأسد مع شقيقها فريد الأطرش وفريد غصن، ومحمد عبد الوهاب.
أما الشعراء، فكانوا كذلك من بين صفوة الشعراء في وقتها، مثل بيرم التونسي، أحمد رامي، مأمون الشناوي، الأخطل الصغير، بديع خيري، يوسف بدروس وغيرهم. بهذه النخبة وغيرها من الشعراء والملحنين قادت أسمهان شعلة متوهجة في تجديد روح الأغنية، ورفعت سقف التنافس بين المطربات الكبار ممن جايلوها وسبقوها، وكذلك بين الملحنين بشكل خاص والشعراء، والجميع وجد في صوتها فرصة للتجريب وإبراز القدرات وهذا واضح في أعمال مثل، «ياطيور، ليالي الأنس، أهوى، أمتى حتعرف، انتصار الشباب، ياحبيبي تعال الحقني» وكثير من الأعمال التي خلدت وأحدثت دوياً هز أولاً عالم الغناء ثم تلقفتها الآذان في كل الوطن. لم يكن أي تفصيل في سيرتها طبيعيا، فولادتها كانت على ظهر باخرة، ومثل الأمواج التي ولدت في وسطها ظلت تلك الأمواج تأخذها الى اللاأستقرار حتى تلك الترعة التي قضت فيها نحبها، وكأنها مفارقة غريبة أن تولد وسط الماء وكذلك يكون رحيلها. الأصوات العظيمة والمؤثرة لا تولد كل يوم ولا كل عقد أحيانا، ومثال على ذلك أسمهان التي لم نجد لصوتها مثيلاً مع كثرة الأصوات الجميلة التي أعادت أغانيها، وكذلك أم كلثوم وليلى مراد وفيروز وغيرهن من الحناجر المتميزة كحنجرة نجاة الصغيرة وإذا لاحظنا كل حنجرة لكل منهن لانتبهنا لخصوصيتها ولا يمكن أن نخلط بينهن وبين أصوات أخرى، ومنذ أول كلمة في أول جملة غنائية. كثرة الأصوات الجميلة شيء وخصوصية خامة الصوت شيء آخر.
أسم شهرتها (أسمهان) لم يكن لها بل لفتاة تبناها داوود حسني وكان لها صوت جميل وبعد أن أتم تدريبها توفاها الله، وما أن سمع آمال الأطرش تغني في غرفتها وهو في ضيافة شقيقها فريد الأطرش حتى تعجب لصفاء صوتها وبريقه ونضوجه، وهي مازالت آنذاك صغيرة. كل ملحن من الكبار عرض مقدرته على حنجرتها وتنافس على التجديد من خلال عطشها للتفرد ولعدم التقليد، وفي ما بينه وبين غيره من الملحنين، لقد أحدثت أسمهان بحضورها في المشهد الغنائي ما يشبه الزلزال بعد أن بدأت النمطية تأخذ طريقها للأغنية، واستتب الأمر لعدد محدود جداً من الأصوات المهمة دخلت لتفتح أفقاً مغايراً، خصوصاً بعد أغنية «يا طيور» للقصبجي واستحسان الجمهور لها ولصوتها وتكنيكها المختلف وجمالها الأخاذ. ما بين غربة وأخرى وهجرة وأخرى في البحث عن حياة تسعى لها ظلت روح سليلة آل الأطرش ابنة جبل الدروز تبحث عن شيء لم تجده إلا في الفن، مع أنها كانت تريد لعب دور ربما أكبر في الحياة الاجتماعية وكذلك في السياسة، لكن بصمتها في الفن هي الأهم لأن هناك إجماعا على قدرتها وتأثير سحر صوتها على كل من سمعها.
لا بد أن أشير الى دور شقيقها الموسيقار فريد الأطرش وإن كان قد قدم لها أعمالاً رائعة إلا أنه لم يحتكر حنجرتها، بل عمل من أجلها الكثير وظل لها نصيراً وصديقاً وأخاً حقيقياً ومخلصاً، وقدمها لأهم الملحنين الذين وجدوا فيها ضالتهم، ومع وجود سيدة الغناء أم كلثوم متربعة على قلوب وأسماع العرب، لكن سرعان ما وجدت أسمهان طريقها، بل أحدثت ما لم يكن متوقعاً حدوثه. أما الموسيقار زكريا أحمد فقد تفرغ لها بعد خلافه مع كوكب الشرق أم كلثوم، الذي ظل يتكرر ووصل للقطيعة التامة لعشرة أعوام وصنع لأسمهان عجائب طربية كأنه يدافع عن مكانته التي لا يختلف عليها أحداً ، وأيضاً لأن خامة صوتها متميزة وجديدة وقوية وحساسة. وأكثر ما كان مفاجئاً هو ما كان في جعبة الموسيقار القصبجي لأسمهان، بدا وكأنه كان ينتظرها وحلق معها عبر أعمال خالدة وكلها انفتاح شرقاً وغرباً مع إن صاحب «رق الحبيب» لأم كلثوم أبدع مع كوكب الشرق، لكنه مع أسمهان كان مختلفاً وأكثر تحرراً وأكثر حداثة في جملته اللحنية وبناء العمل.
وللحديث صلة خصوصاً أن الموسيقار محمد عبد الوهاب ذهب بألحانه معها بعيداً. لم يتعامل الوسط الفني المصري ولا الشعب مع أسمهان كونها غير مصرية، بل بالعكس كانت أميرة ومكانتها كبيرة.
عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf
صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.