المركب الثمل لرامبو : كأنّ ابن الزمن الغابر متمرّد من زمننا Arthur Rimbaud, Le Bateau ivre

, بقلم محمد بكري

الجمعة ٢٦ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٢
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


جريدة الحياة


«الأبدية... هي البحر مختلطاً بالشمس». ومع هذا كان آرثر رامبو، قائل هذه العبارة، في العشرين من عمره، لا أقل، حين شاهد البحر للمرة الأولى في حياته. بعد ذلك سوف يشاهده كثيراً، لا سيما عند ذلك الحيز الجغرافي المائي الفاصل بين آسيا وأفريقيا، عبر البحر الأحمر، حينما عاش آخر سنوات حياته واشتغل في تجارة السلاح، قبل أن يلفظ أنفاسه، وأيضاً في مدينة بحرية فرنسية (مرسيليا) وهو بعد في السابعة والثلاثين من عمره. حين مات آرثر ريمبو على ذلك النحو، كانت عشرون عاماً قد مضت على كتابته قصيدته الكبيرة الأولى «المركب الثمل» التي جعلت منه، خلال فترة وجيزة من الوقت، كبير شعراء زمنه. رامبو كتب «المركب الثمل» وهو في السابعة عشرة من عمره. وكان ذلك في العام 1871، إذ كان مع صديقه ارنست ديلاهاي في زيارة الى مدينة شارلفيل. في ذلك الوقت لم يكن رامبو قد رأى البحر من قبل. كل ما في الأمر أنه كان قرأ عن البحر كثيراً، لدى فكتور هوغو، ولكن أيضاً في قصائد لتيوفيل غوتييه، وفي قصيدة «انشودة البحار العتيق» لكولردج، وفي روايات أخرى لجول فيرن.

وهو منذ قرأ عن البحر أحس بأن البحر في داخله، يعيش فيه، ولذلك، حينما كتب قصيدة طويلة أولى بعد محاولات شغلت سنوات مراهقته الأولى، كان من الطبيعي أن يكتب عن البحر... وكذلك كان، وهو المعتد بنفسه، صاحب المرارة الدائمة، من الطبيعي له أن يقول لصديقه ديلاهاي، ذات مساء وهما في شارلفيل: «آه... إن أحداً لم يكتب ما يماثل هذا من قبل... اعلم هذا حقاً. مع هذا يا لهؤلاء الفنانين، يا لعالم الأدب... يا للصالونات، يا لكل ضروب الأناقة هذه!... في مجال الفكر، أنا لا أخاف أحداً...». ويومها لم يدرك ديلاهاي، كما سيقول لاحقاً، أن صديقه أنجز لتوّه ما ستعتبر قصيدة الساعة، وأجمل ما كتب من شعر في اللغة الفرنسية في ذلك الحين. غير ان القصيدة التي أنجزها ابن السابعة عشرة، لن تنشر، للمرة الأولى، إلا في العام 1883، إذ كان عليها أن تنتظر أولاً، انعقاد الصداقة بين رامبو وفرلين، واهتمام فرلين بشعر صديقه، ثم اعتباره إياه واحداً من «الشعراء الملعونين»، الى جانب تريستان كوربيار، وستيفان مالارميه.

المهم ان هذه القصيدة، حينما نشرت وقرئت أخيراً، أتت أشبه بصدمة في عالم الشعر الفرنسي، ذلك أنها كشفت كم ان المرء يمكنه أن يكون على غير وفاق مع مجتمعه، وأن يشعر بالمرارة، وأن يتمرد على كل شيء في ذلك المجتمع، وعلى منظومة اللغة نفسها. كل هذا تحمله تلك القصيدة البحرية الجميلة والقاسية. ولكن خلال السنوات التالية ستحمله حكاية حياة رامبو نفسه، ولا سيما منذ اللحظة التي قرر فيها أن يتخلى نهائياً عن كتابة الشعر، جاعلاً حياته وتشرده والمخاطر التي عاشها - وغالباً من دون هدف أو سبب - قصيدة طويلة لا تنتهي إلا بالموت... ذلك الموت الذي جاءه باكراً، تماماً كما كان الشعر جاءه باكراً.

في هذا المعنى يمكن تماماً الموافقة على ما يقوله مؤرخو حياة رامبو وعمله، شعراً ونثراً، حينما يقولون إن قصيدة «المركب الثمل» انما أتت مستبقة مصير رامبو الحياتي نفسه «بالنظر الى ان رامبو سيظل أميناً للاندفاعات وللصور المؤسسة التي حددت سلوكه طوال ما تبقى له من عمر، وحاكت شخصيته»، ذلك أن ما حاوله رامبو في هذه القصيدة، انما كان توليفة تضم خبراته وتطلعاته، آماله وإخفاقاته: في اختصار، كل التناقضات التي كانت صنعت حياته من قبل، وستواصل صنع ما تبقّى من تلك الحياة. ومن هنا ما قيل دائماً من أنه نادراً ما ارتبطت قصيدة بحياة صاحبها، ليس بالمعنى الذي يطاول ما كان مضى من تلك الحياة قبل كتابة القصيدة، بل بالمعنى الذي يطاول كذلك ما تبقّى من سنوات تلك الحياة.

وإذا كان رامبو قد تمكن من قول هذا في «المركب الثمل»، فما هذا إلا لأنه عرف، على خطى بودلير وجيرار دي نيرفال، كيف يعطي لتوجّه الشاعر الابداعي، دلالات وأهدافاً جديدة، لم يكن ثمة وعي بها من قبل. صحيح أن فكرة «المركب» في حد ذاتها كانت قد شكلت محط إلهام لشعراء وفنانين من قبل، بما في ذلك المركب الضائع، والمركب - الشبح، والمركب الماخر عباب المحيطات، غير ان وجود المركب لم يكن، قبل رامبو، قد عبّر عن كل ذلك القدر من الواقعية والارتباط برمزية الحياة نفسها. ومن هنا، فإن مركب رامبو، «لم يعد ذا رمز نبيل» على ما يكتب دارسو أعماله، بل يصبح مركباً عادياً، صنع أصلاً للأنهار، ثم ترك من دون فائدة ترجى منه، ومع ذلك ها هو الآن مطلوب منه أن يمثل الحياة نفسها. وفي هذا الإطار قد يكون مفيداً أن نقرأ ما كتبه رامبو لصديق له، شهوراً قليلة قبل كتابته هذه القصيدة: «انني اذ لا أعلم شيئاً مما يتعيّن عليّ أن أعلمه، وإذ قررت ألا أفعل شيئاً مما يتوجب عليّ أن أفعله... أجدني مداناً الى أبد الآبدين».

ومن هنا، استناداً الى هذا الموقف في علاقته بالقصيدة يكثر الباحثون الحديث عن موضوعة «اللامسؤولية» كأساس في نص هذه القصيدة. وهم لكي يؤكدوا تفسيرهم هذا، يعودون الى سطور تختتم القصيدة، ويقول رامبو فيها: «... أنا لم يعد في امكاني، غارقاً في ضروب خمولك، أيتها الشقيرات، أن أخطف من حاملي القطن، ثلمهم، ولا أن أعبر كبرياء البيارق واللهب، ولا ان اسبح تحت أنظار الأحواض المرعبة...». انه، بكل اختصار، الإنسان الضائع الذي لم تعد لديه حماسة أو بوصلة. الإنسان الذي رسم الخطوط الأولى لصورة مراهق النصف الثاني من القرن العشرين، الذي أبدعت السينما في رسمه، كما أبدع الأدب في وصفه... لكنه لدى رامبو كان جديداً كل الجدة، في زمن لم يكن للمراهق أن يلعب فيه أي دور... وخصوصاً دور المتمرد العابث اللامسؤول، والذي لا يجد مبرراً لأي عيش أو فعل.

اننا هنا، إذاً، أمام ثائر أول يبدو كما لو أنه من أبناء ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه ثائر سبق زمنه بنحو من نصف قرن... وثائر أثبت، لدى رامبو، أن الشعر لا يمكنه أن يكون شيئاً آخر غير الحياة... لأننا نعرف هنا أن آرثر رامبو لن يكون خلال العشرين سنة التالية - والأخيرة - من حياته، شيئاً آخر غير ما وصفه في شعره، لا سيما في هذه القصيدة... حتى وإن كنا نعرف ان ضروباً انتهازية ومخاطرات مادية كثيرة، رافقت عيشه، وتنقله بين عدن وأثيوبيا ومناطق لم تكن تحمل، بعد، اسم اريتريا أو القرن الأفريقي. كل هذا كان جزءاً من حياة رامبو، وجزءاً من مغامرة عيشه في نهاية الأمر، إذ بدا وكأن الفتى الذي لم يكن رأى البحر من قبل، تخيّل البحر عالم أيامه المقبلة، وتخيّل مغامرة المركب الثمل نمطاً وحيداً لحياته، فراح ينفذ عملياً ما كتب، وكأنه سينمائي يحقق، تصويراً، ما كان كتبه في سيناريو وضعه مسبقاً.

لم يعش آرثر رامبو، كما قلنا، سوى سبعة وثلاثين عاماً، هو الذي ولد العام 1854، ليرحل العام 1891، وقد استبد به المرض، ما فرض نقله من مناطق البحر الأحمر (يائساً بائساً بعدما أخفقت صفقات بيع السلاح التي حاولها، وجرى الاحتيال عليه، هو الذي كان اعتقد ان في امكانه الاحتيال على أطراف متنازعة هناك)، الى الجنوب الفرنسي الذي شهد نهايته. وعلى رغم ان رامبو لم يكتب شعراً كثيراً بعد «المركب الثمل»، إذ تحوّل الى النثر، ثم الى خوض الحياة، كشعر ونثر في آن معاً، فإن في كتبه «النثرية» لا سيما «الاشراقات» ثم «موسم في الجحيم»، من الشعر ما يزيد على ما في أطنان من كتب شعراء آخرين.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


للإستماع لقصيدة المركب الثمل باللغة الفرنسية

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)