أدب عالمي

الكونت دي مونت كريستو لدوما : ثأر المظلومين Le Comte de Monte-Cristo, Alexandre Dumas

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة ٨ فبراير / شباط ٢٠١٣
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


مع كاتب من طراز ألكسندر دوما الأب (تمييزاً له عن ابنه حامل الاسم نفسه وصاحب «غادة الكاميليا») يكون السؤال المنطقي الأول الذي يمكن طرحه هو: كيف تمكّن هذا الرجل من كتابة كل ما كتب. وما كتب دوما الأب هذا يشغل ما لا يقل عن ثلاثمئة مجلد، بين رواية ومسرحية ومذكرات وكتب رحلات وأشعار وبحوث وما إلى ذلك. وتأتي شرعية هذا السؤال من واقع أن دوما عاش حياة متقلبة، حياة تجوال وتشرد دائمين، مليئة بالمغامرات وبالإفلاس وبالهرب من الدائنين من مكان إلى آخر، تقطعها فترات ثراء كان خلالها لا يتورع عن تحقيق المشاريع الضخمة وإغواء العشيقات، وبناء القصور والمسارح. كل هذا وهو لم يعش سوى ثمانية وستين عاماً. وحسبنا لإعطاء السؤال وزنه أن نذكر أن دوما كتب للمسرح فقط مئة مسرحية، مثلت جميعاً في زمنه وتحت إشرافه، وغالباً من بطولة ممثلات كانت الواحدة منهن سرعان ما تصبح عشيقته. ومن المعروف في فرنسا أن ما من كاتب يضاهي ألكسندر دوما الأب، في خصوبة إنتاجه وتنوّعه وشعبيته، سوى هوغو، معاصره، والذي - مثله - انطبعت أعماله، الروائية والمسرحية، بقدر كبير من الرومانسية. بل إذا كان يقال إن هوغو كان مؤسس المسرح الشعري الرومانسي في فرنسا (بداية من مسرحيته «هرناني»)، فإن دوما كان مؤسس المسرح النثري الرومانسي (لا سيما في مسرحيته «هنري الثالث وبلاطه» التي كتبها وكان لا يزال نكرة في السادسة والعشرين، محققاً بها حضوراً مباغتاً في الحياة المسرحية والأدبية الفرنسية).

غير أن المسرح، مع هذا، لم يكن المجال الذي بنى فيه دوما مجده الكبير. مجاله الأهم كان الرواية، وهو كتب عشرات الروايات التي لقيت على الدوام شعبية كبيرة، لما امتلأت به من مغامرات وتصوير فذّ للشخصيات وتطوير متميز للعلاقات، ما يضع هذه الروايات في مكانة متقدمة بين الأدب الشعبي في العالم أجمع، إذ إن معظم أعماله ترجم إلى عشرات اللغات. ومن هنا لا يبدو غريباً أن رواياته لا تزال تُقرأ بشغف حتى أيامنا هذه، وتقتبس إلى السينما والتلفزة. بعدما اقتبست إلى المسرح والأوبرا طوال قرن ونصف القرن. ولكن، على كثرة ما كتب ألكسندر دوما الأب من روايات تبقى «الكونت دي مونت كريستو» الأشهر والأكثر شعبية (واقتباساً) من بين أعماله كافة، مع استثناء أساسي هو رواية «الفرسان الثلاثة». فما الذي يجعل لرواية «الكونت دي مونت كريستو» كل هذه الشعبية على الصعيد العالمي؟

أنه سؤال شغل الباحثين طويلاً، إذ حيّرهم هذا الإقبال الكبير على عمل يتّسم أول ما يتسم ببساطة سردية تقترب من حدود السذاجة، وبحس ميلودرامي لأحداث بالكاد يمكن تصديقها، وبنفحة رومانسية تبدو مغرقة في القدم، وبشخصيات ليس من السهل دائماً تفسير دوافعها ونوازعها، وإضفاء بعد تحليلي «جوّاني» على ما تقوم به من تصرفات... فهل يتعين علينا، هنا، أن نقول إن هذا كله ربما كان هو ما أضفى على «الكونت دي مونت كريستو» سحرها؟ أم أن علينا أن نقول، بالأحرى، إن «الخبطات المسرحية» في هذه الرواية، و»القلبة» التي تعرفها حياة بطلها منقذة إياه من سجنه، رامية به على طريق الثأر من الذين غدروا به، تأتي لتشبع في داخل القارئ ذلك النهم إلى الثأر من أوضاع وأقدار مكبّلة وظالمة؟ من الواضح أن هذا التوجه الأخير يبدو أكثر منطقية انطلاقاً من واقع تاريخي يقول لنا إن الكونت دي مونت كريستو/ أدمون دانتيس، كان من أولى الشخصيات الروائية في تاريخ الأدب، التي شعر القراء بتماه تام معها، وهو تماه كان مريحاً تماماً، طالما أن هذه الشخصية بانتقالها من حالة البحّار المظلوم، إلى حالة الكونت الثري المنتقم، تبدو هنا كواحدة من شخصيات حكايات الجن المكتوبة أصلاً للصغار، والتي تصوّر عملية الانتقال السيكولوجي برسم الصغار، معزّية إياهم على حالات الظلم والتخلي التي يستشعرونها وهم صغار يخشون ترك الأهل لهم.

وفي هذا الإطار تبدو حالة دانتيس أشبه بحالة سندريلا، وتبدو الثروة التي يمكّنه الأب فاريا من العثور عليها، أشبه بحذاء الفتاة المظلومة السحري الذي يعثر عليه الأمير، في حكاية سندريلا، ما يرفع من شأن الفتاة ويمكنها من الثأر لظلمها. والحال إن دوما في تعامله مع البعد السيكولوجي «الجوّاني» للنقلة المسرحية في روايته بهذا الشكل، اكتشف خير وسيلة للتعامل مع الجمهور العريض بوصف هذا الجمهور طفلاً برسم النمو دائماً، تتملكه مخاوفه ويفرحه تحقيق الشخصية التي هي محط تماهيه، لثأرها وثروتها، كبديل من تحقيقه هو لذلك. ويقيناً أن دوما في «اختراعه» هذا، إنما اخترع البطولة الجديدة: بطولة التماهي كبديل من بطولة المثل الأعلى.

تدور أحداث «الكونت دي مونت كريستو»، بداية في مرسيليا، من حول إدمون دانتيس، البحّار الجوال الذي يكون مستعداً لعرسه في العام 1815، حين تقبض عليه الشرطة، وقد اتهم - زوراً وبهتاناً - بمناصرة نابوليون الذي كان هُزم وأُسقط عن عرشه لتوّه. وهكذا بعد القبض عليه وتدمير حياته على ذلك النحو يسجن دانتيس في حصن إيف الرهيب طوال أربعة عشر عاماً. وهو خلال فترة سجنه كان يعرف تماماً أنه بريء مما نسب إليه، وأن سبب سجنه إنما هو مؤامرة حاكها ثلاثة أشخاص كان لكل منهم مأرب في التخلص منه. وأول هؤلاء كان فرنان غريمه في حب الحسناء مرسيدس، خطيبته، والثاني كان منافسه في أعماله المدعو وانغلار، أما الثالث فكان رجل قضاء طموح هو فيلفور الذي اكتشف ما إن وضعت قضية دانتيس بين يديه، ما سيعود عليه من فوائد سياسية إن هو دانه وحكم عليه. وهكذا، في سجنه، لا يكون للبحّار المظلوم من هم سوى رسم الخطط للهرب والانتقام من هؤلاء الثلاثة.

وهو يتمكن أخيراً من الهرب بفضل العون الذي يقدمه له صديقه الأب فاريا، الذي يفضي إليه قبل موته، بمكان وجود كنز يمثل ثروة هائلة، في جزيرة مونت - كريستو. وهكذا إذ يهرب إدمون، ويحصل على الثروة، يعود إلى الحياة العامة ثرياً غامضاً لا يعرف أحد عن ماضيه شيئاً. يطلق على نفسه اسم الكونت دي مونت كريستو، ويبدأ في استخدام ثروته الهائلة لتحقيق انتقامه من الذين رموا به في السجن غير عابئ بالقوانين الوضعية ولا بالقوانين الإلهية. لقد جعل من نفسه قدراً يهبط من عل على ضحاياه مدفّعاً إياهم ثمن ما فعلوا، وما عجز القضاء على معاقبتهم عليه. ونعرف طبعاً أن حكاية هذا الانتقام، وعودة إدمون للالتقاء مع حبيبته مرسيدس، تشكلان القسم الثاني والأساسي من هذا الكتاب. وهو القسم الذي يتخذ فيه إدمون لنفسه أسماء عدة وينظم مؤامرات وأحداثاً وما شابه، بحيث يبدو وكأنه أول ملاك منتقم في تاريخ الرواية الحديثة.

كتب ألكسندر دوما الأب هذه الرواية في العام 1844، وكان في ذروة عطائه ومجده، هو الذي كان في ذلك الحين في الثالثة والأربعين من عمره. وكان ذلك عند بداية اتجاهه إلى كتابة الرواية، بعدما أنفق القسم الأول من مساره المهني وهو يكتب للمسرح وينجح في ذلك. وهو كتبها في الوقت الذي كتب فيه بعض أفضل رواياته، مثل «الفرسان الثلاثة» (1844 - 1845) و»بعد عشرين عاماً» (1845) و»الملكة مارغو» (1845) ما يعني أن «الكونت دي مونت كريستو» تمثل لحظة الذروة في إبداع هذا الكاتب الخصب، المتحدر من جد كان جنرالاً في جيش نابوليون وجدة كانت عبدة سوداء في هايتي. ودوما نفسه كان عند بداية حياته العملية انخرط في الحرس الوطني، برتبة ضابط، وخاض أحداث ثورة 1830، ما جعل منه بطلاً وطنياً إضافة إلى كونه كاتباً يشقّ طريقه إلى المجد. غير أن مبالغته في الانخراط في السياسة، وفي المغامرات النسائية والمالية، دفعته في ذلك الحين إلى الهرب من فرنسا، في رحلة أولى سبقتها رحلات تتضمن فترات إقامة طويلة في الخارج (إيطاليا، روسيا... الخ). وأخيراً في العام 1870 وبعدما أمضى حياة مغامرات، حافلة بكتابته روايات المغامرات ومسرحياتها، قضى ألكسندر دوما الأب بالسكتة القلبية في العام 1870، بعدما كتب ما كتب...وبعد أعوام من كتابته مذكراته، وأخيراً «قاموس الطبخ الأخير» الذي لم ينشر إلا بعد موته.

عن موقع جريدة الحياة

 سيرة حياة ألكسندر دوما باللغة العربية
 سيرة حياة ألكسندر دوما باللغة الفرنسية


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)