ثقافة - سياحة - تراث - Culture - Tourisme - Patrimoine

الكندرجي مهنة تندثر في لبنان أمام غزو الأحذية المستوردة Liban - Métier : Cordonnier

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
السبـت 01 صفـر 1434 هـ 15 ديسمبر 2012 العدد 12436
الصفحة : عين الشرق
بيروت (لبنان) : مازن مجوز


الجيل الحالي من الإسكافيين قد يكون الأخير


«العم» محمد سلّوم يصنع حذاء من الجلد الأصلي («الشرق الأوسط»)

«الإسكافية»، أو «الكندرجية» كما تعرفها العامة في لبنان، مهنة معظم العاملين فيها يمتهنونها منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، إلا أنها تكافح اليوم من أجل البقاء في ظل الاستيراد العشوائي للأحذية المصنّعة في الخارج. وذلك أن معظم هذه الأحذية المستوردة أرخص ثمنا بكثير من مثيلاتها المصنّعة المحلية، وإن كانت لا تتميّز بالنوعية ذاتها، ولا سيما مع تفضيل الناس الجلد «المشمّع» وبدلا من الجلد الأصلي الأغلى أثمانا.

في العادة، من يقتني حذاء غالي الثمن تعرّض ذات يوم إلى ضرر قابل للتصليح لا يتردّد في قصد «الإسكافي» أو «الكندرجي»، لهذه الغاية، خصوصا في الظروف المعيشية الصعبة التي يمرّ بها لبنان. ولكن أين الحل إذا ما تلاشت هذه المهنة وأقفل «الكندرجي» دكانه.. تاركا قوالب الأحذية الخشبية مبعثرة على الأرض، و«تقاعدت» عن العمل عدّته المكوّنة من كرسي وطاولة وقوالب خشبية ومسامير وشواكيش وبويا (دهانات) وشفرة ومقص نعول وسندان.

هذه هي حال محمد سلّوم، الذي هجر صنع الأحذية وإصلاحها منذ أشهر قليلة، إلا أنه ما يزال يفاخر «بمجده» الذي عاشه طيلة 65 سنة في محله بحي السراي داخل مدينة النبطية، في جنوب لبنان.

سلّوم قال لـ«الشرق الأوسط» عندما التقته منزله حيث آثر أن ينعزل بين محتوياته القديمة «ما زلت أشعر بمرارة لهجري مهنتي، لكن ظروفي كانت أقوى منّي. إنها مهنة لم يعد يأتيني منها أي نفع بعد ارتفاع أسعار الجلود، وانخفاض الطلب على صنع الأحذية. هذان من العوامل التي أجبرتني على بيع عدّة دكاني بـ150 ألف ليرة فقط لا غير بعد مشوار عمر طال لعشرات السنين».

لا يغيب عن بال «العم» محمد سلّوم كيف أوكلت إليه مهمة نقل هذه المهنة من جيل إلى جيل، إذ قال «كنت في الثامنة من عمري، عندما كان والدي يصطحبني معه إلى خالي الذي كان يصنع الأحذية الجلدية، ثم توالت الزيارات لعشرات المرات بعدما راقت لي المهنة».

علاقة حب عميق ما زالت تجمع بين هذا الرجل السبعيني ومهنته. وفي شريط ذكرياته سرد لنا كيف كان مقصدا للكثير من التجار من طرابلس وعكار وبيروت وصيدا وصور، وكيف كان الإقبال كبيرا على شراء «الحذاء العربي» لمتانته من كل أهالي قرى النبطية وخاصة الفلاحين، ثم ذاع صيته حتى بات نواب المدينة آنذاك يصنعون أحذيتهم عنده.. «أحذية بعكس أحذية اليوم التي يصيبها الاهتراء بسرعة» كما بادر إلى القول.

وبالطبع، فإن رحلة صنع الحذاء هي واحدة لدى جميع «الكندرجية»، وكما أخبرنا محمد سلّوم «تبدأ من شراء الجلود، ومن ثم تقطيعها بالسكين إلى أشكال «حسب الطلب» - بلغة «الكندرجية» - ثم أخذ قالب خشبي يفصّل عليه الحذاء وكل منها يخضع لـ«التلزيق» - أي اللصق - بواسطة الآلة المخصّصة لذلك والدق بالمسامير. يأتي دور وضع الحذاء غير المكتمل على القالب وتزويده بـ«الضبان» (لسان أرضية الحذاء) و«النعل».. وبذا يصبح جاهزا للاستعمال في اليوم الثاني. ولكن مع مغادرة محمد سلّوم مهنته في صناعة الأحذية العربية، على الأقل في النبطية، تكون هذه المهنة قد اندثرت تقريبا ولم يتبق منها إلا الذكريات والأحاديث التي يتداولها سكان الحيّ، الذي كان يسمى في أيام الخمسينات والستينات سوق «الكندرجية».

بمعدل 8 ساعات في اليوم كان يعمل من تآكلت وجهه تجاعيد العمر، لينجز خلالها ما يقارب من 12 زوجا من الأحذية، في مهنة شكلت ملاذه الوحيد، قبل أن يستدرك قائلا «إنها مهنة لا تعب فيها ولا ملل بل فن وبداهة، ومن المؤسف أن شهرتها كما هي شارفت على الاندثار». ثم تنهد مضيفا «رزق الله على أيام زمان، العمر له حق. لم أرزق بأولاد لكي يتعلموا أصول المهنة، ولا يوجد اليوم من يرغب في تعلمها لأنها لم تعد تجدي نفعا ولا تطعم خبزا».

ولكن، من جهة أخرى، واقع «الكندرجي» القديم محمد سلّوم لا ينطبق كثيرا على الأحياء القديمة في مدينة صيدا، عاصمة الجنوب اللبناني، حيث ما زال «زاروب القشلة»، الذي كان في الماضي يعتبر سوق المدينة القديم، يعجّ بمحال «الكندرجية» وبالمتسوقين الذين يقصدون السوق من مختلف المناطق المحيطة بالمدينة، لا سيما بلدات قضاء جزين وإقليم الخروب وقضاء الزهراني.

ولدى لقائنا بـ«الكندرجي» الستيني عدنان أحمد البزري، وسؤاله عن وضع مهنته، أجابنا «هل تعرف أحدا يمشي حافي القدم؟ هذه المهنة لا تندثر طالما هناك أناس تمشي على الأرض». وتابع أنه واثق من صمود مهنته «التي تتخذ من الخيط والإبرة عنصرين أساسيين من مستلزماتها، بالإضافة إلى بعض ماكينات الخياطة وعدد من أنواع المسامير الصغيرة».

وانتقالا إلى مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان، وتحديدا عند المدخل الشرقي لـ«خان العسكر» في الأسواق الأثرية في المدينة، تنتشر محال صغيرة متلاصقة بعضها ببعض، كلّها متخصصة في صناعة الأحذية وإصلاحها، يرى الزائر أصحابها يعملون معا، متضامنين غير متنافسين. وهنا بادرنا أحمد، أحد «الكندرجية» العاملين في هذا السوق، قائلا «هذه المصلحة (أي المهنة) إلى أنقراض إذا ما استمر الوضع الاقتصادي بالتردي». وتابع «لا أنصح أحد بتعلمها.. أولادي شاهدوا حال والدهم من جرّاء هذه المهنة، فهربوا منها إلى أعمال أخرى»، ثم أضاف «أحمّل التجار الكبار مسؤولية اختفاء هذه المهنة، مع الإشارة إلى أن نوعية البضاعة التي تستورد من الخارج قليلة الجودة، باستثناء البضاعة الإيطالية. والأسوأ هو الاستيراد العشوائي الرخيص الذي لم يعد باستطاعة العامل أو المصنع منافسة أسعاره، ومعظم هذه البضائع المستوردة صناعة صينية تدخل بكثرة إلى الأسواق اللبنانية».

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)