العمارة الإسلامية ... سجالات في الحداثة

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٨ مارس/ آذار ٢٠١٤
جريدة الحياة
محمد عبدالفتاح السروري، كاتب مصري


في مؤتمر «تحولات الراهن... مستقبل النقد الفني العربي في ظل انفتاح الأنساق الفكرية الإنسانية»، قدَّم الباحث علي ثويني أطروحته البحثية حول العمارة الإسلامية. وموضوع الحداثة الذي تناولته أطروحة ثويني شائك بعض الشيء. والحداثة مفهوم يتعلق بالإنسان وجذوة تطلعاته للأيام المقبلة، وصراعه بين جذب الماضي ومغرياته ونزعة التوق والانعتاق إلى مجهولِ التجريب والمغامرة التي شكلَّت دائماً عِلّة التقدم الإنساني. ومولود الحداثة المُتداول في ثقافتنا العربية ليس من صلبها، وفي هذا البحث يطرح ثويني إشكالية مفاهيم التراث والحداثة المعمارية، التراث الذي عانى من التهميش في صلبِ الثقافة العربية، على رغم كونهِ عاكساً لحراك الوعي ومُحركاً له من جهةٍ أخرى.

يبقى التراث مفهوماً حداثياً، على رغم سلفيته في الثقافة العامة ويَرد باللغة الإنكليزية بصيغ Heritage – patrimony – legacy.

وجاءت الحداثة إلى الغربيين في الأزمنة المتأخرة وتحديداً بُعيد عصر النهضة، بعدما شغفوا بأطلال روما ومآثر اليونان وتطور الأمر بُعيد الثورة الصناعية عام 1789، وما زال الأخذ والرد يرد في فهم التراث وحدوده وآلياته وجدواه.

وثمة خلاف بين التاريخ والتراث، فالتاريخ يعني تحديد الزمن وأحداثه بينما التراث ينشغل بالنتاجِ الثقافي والحضاري خلال التاريخ، ويفسر الباحث التراث بأنه (نفحات المكارم في كنف المنتَج التاريخي) ويعرّفه داعية الأنسنة المفكر الجزائري محمد أركون بأنه يعني كل العادات والتقاليد السابقة للإسلام والتي استمرت في شكلٍ أو في آخر بعد الإسلام. أما الدكتور محمد عابد الجابري فيُعّرفه قائلاً: «إذا كان الميراث أو الإرث هو عنوان اختفاء الأب وحلول الابن محله، فإن التراث هو عنوان حضور الأب في الابن، حضور السلف في الخلف، حضور الماضي في الحاضر». أما عبدالله العروي فيعّرفه بأنه «كل ما هو موروث في مجتمع مُعين عن الأجيال الغابرة: العادات، الأخلاق، الآداب، التعابير، بيد أنه لا يحصرهُ في ما هو مكتوب أو مرويّ».

أما الحداثة فلها مفهوم مُخالف للتراث، وظهرت كلمة «حديث» للمرة الأولى في أزمنة الغرب الحديثة في اللغةِ الفرنسية القديمة في القرن الرابع عشر، ثم جاءت العصور الوسطي لكي تستخدم المفهوم في شكلٍ أوسع ويفي بالتعاقب الزمني، وذلك لكي تتمايز عن الأزمنة السابقة التي تُعد نموذجاً يحتذى، وبدءاً من نهاية القرن الثامن عشر عَرفَ مفهوم الحداثة توسّعاً كبيراً ومسّ جميع الحقول.

وظهرت بواكير الحداثة الغربية في البلدان العربية والإسلامية على مرحلتين، إحداهما إبان القرن التاسع عشر والثانية في القرن العشرين. الأولى جاءت برغبات سياسية وتيسيرية عليا وتجسدت في شمال أفريقيا أكثر من مشرق العالم الإسلامي، بينما جاءت بقبول شعبي محتشم. وظهرت الأولى في مدن المغرب العربي الإسلامي، وظهرت في مصر نابعة من الرغبة التي طغت على توجهات محمد علي وورثته، خصوصاً حفيده إسماعيل (1830 - 1895).

ثم جاءت المرحلة الثانية بعد حلول القرن العشرين وتصاعد إيقاعها حتى منتصفه غير مُكترثٍ بالتراث حتى توّج بممارسة الرعيل الوطني الآتي من بلدان إسلامية والذي درس العمارة في الغرب وما تلاهم من أجيالٍ، أدخلَ هذا الرعيل على العمارة تحسينات كان مقصدها الترويج للفكر الحداثي في مجال العمارة. ويذكر أن التوجهات المحلية لم ترفض التوجهات الجديدة، وأدرك الحداثيون سريعاً أن نشاطهم المعماري سيكون له قيمة وتأثير عميقان في الممارسة البنائية لبلدانهم. عندما شرع إنتاجهم في التعاطي مع قضايا أساسية تهم فئات عريضة وأساسية في المجتمع.

واعتمدت حركة الحداثة على ثلاثة محاور تنظيرية لدراسة وفهم وإفهام ماهية العمارة الإسلامية: المحور الشكلي الذي يختزلها في أشكالها الأكثر رواجاً مثل العقود والقباب والقبوات والأحواش الداخلية والأواوين والشناشيل (المشربيات) والشذرونات (النافورات – الفوارات) ويعطي لهذه الأشكال وظائف خصوصية إسلامية موحدة الجذور والمظاهر والمآرب.

المحور الروحاني الصوفي: الذي يرى في التاريخ المعماري انعكاساً مباشراً لنظرياتٍ عرفانية تعود لمتصوفة التراث كابن عربي وجلال الدين الرومي وإخوان الصفا. وهذا التيار يحتاج إلى البحث المعمق والرصين لإثبات قناعاته، من خلال البحث في المنسي والمهمل من مدونات تراث (الأنسنة) والعقلنة الإسلامي وتحليلها ومقارنتها.

المحور البيئي: الذي يجد في الممارسات الشعبية والريفية المتآصرة مع البيئة، قيمة دراسية تستحق العناية، تماشياً مع النزعة الحداثية للعناية بالبيئة. ويتعلق الأمر بدراسة الحلول المثلى لمقارعة معطيات البيئة من حرارة وجفاف وشح الماء من خلال حلول معمارية بسيطة مفهومة للجميع وتحتكرها النخب.

وتُنسب بواكير تحديث الحياة الإسلامية الرسمية إلى بعض سلاطين العثمانيين (المُصلحين) وكذلك بعض الإمارات شبه المُستقلة عنها، مثل الدايات في الجزائر والبايات في تونس والفرمنلية في طرابلس الغرب وآل الشهابي في جبل لبنان والخديوية في مصر منذ عام 1805.

ويرى السلفيون أن فكرة الحداثة لدى الشعوب الإسلامية انطلقت من شبه الجزيرة العربية على يد محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي. وشهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر بروز جيل من المثقفين المسلمين الذين التقطوا فكرة الحداثة رداً ودفاعاً عن الغزو الفكري الغربي، مثلما حدث مع جمال الدين الأفغاني حينما سعى إلى إصلاح العقيدة (حداثياً).

وكانت هناك حالة من حالات الجدب المعماري من حيث الإلهام قبل حلول الحداثة والذي كان سبباً حقيقياً وراء ظهورها، ودفع ذلك البعض إلى تقليد نماذج بنائية فرعونية أو رومانية أو يونانية أو لاحقاً قوطية أو منتمية إلى فن الباروك. وبعدما حلّت عمارة القرن العشرين وشرع المعماريون يبحثون عن مصادر الإلهام لاقتناص الأفكار المنسية في طيات الإبداع البشري حتى الفطري منه، وأمسى اقتناص الفكرة يُعد سبقاً معمارياً، ومن الطريف أن المعماري الفرنسي ليكوربوزييه صرّح بأن فكرة (عمارة مرسيليا) جاءته من رصده وكالة الغوري في القاهرة القديمة والتي تعود إلى عام 1505 ميلادي.

وارتبط مفهوم «العضوي» Organic دائماً بالطبيعة والكائنات الحية، أو بكل ما يهب وينبض بالحياة في عالمنا المُحيط، وهو المفهوم الأكثر شيوعاً. وربما تأخذ دلالاتها منحى أبعد وتعني المنظومة التي تُشكل الكل وتتكامل بوظائف الجميع. ثم نجدها ترد في العمارة كأسلوب وكمدرسةٍ فكرية آثرت أن تكون متناغمة مع البيئة والطبيعة من دون أن تعنفها أو تقتطع منها شيئاً، بل على العكس تتجانس مع عناصرها وتكمل انسجامها وتوازنها. وفي سبرنا أغوار العمارة الإسلامية نجد الكثير من المُحاكاة لما طرحته العمارة العضوية، ويمكن أن نعد العمارة الإسلامية الجيل السابق للعمارة العضوية المُعاصرة وتكمن قوة تأثيرها في حذرها من الخلط بسبب المنهج الروحي العقيدي الذي حدد الثوابت الدستورية لها.

أهم سمات العمارة الإسلامية أنها تواءمت مع البيئات الطبيعية الواهبة مواد البناء والمتماشية مع خصوصياته. فجبال اليمن تراها تحمل سمات الجبال وتنفذ بالحجارة، أما في الصحراء فتصرح بخصوصية من خلال المخطط ومواد البناء والأشكال وحتى الألوان كما نجدها في عمارة نجد والصحراء الكبرى. وفي السواحل تتجلى لنا نماذج التداخل بين البيئة والهياكل العمرانية، كما في طنجة وأصيلة وبستيكة دبي أو جدة أو سواكن عدن.

ويمكن تلمس العضوية في تصميم الفناء الداخلي الذي لم يكن فجوة عابرة أو فضاءً طارئاً، بل هو متنفس عضوي تستقر حوله مرافق المبني ويهِب سكانه الراحة من خلال الظلال الوارفة والنباتات والمياه المتدفقة التي تضفي على المكان روحاً وجمالاً.

ولتبيان البَون بين العضوية الإسلامية والعضوية الحديثة، نجد أن الأولى لها ضوابط واردة من عقيدة روحانية محكومة بقوانين ربانية قدّرت الأمور بميزانٍ من خلال معرفة أسرارها. أما في العضوية الغربية فقد بدأت سوية ثم انحرفت وتلاشت بعد حين لفقدانها آليات الديمومة والبقاء التي تضبطها نوازع الاعتقاد وروادعه.

إن تراث الشعوب الإسلامية في رأي علي ثويني، ما هو إلا حداثة سرمدية وتجديد مستمر، لا سيما عندما يرتبط بفكر ومنهجية سرمدية نابعة من سرمدية الخالق، مصطلح (العمارة الإسلامية) بما يتضمنه من نسبة إلى العمارة للإسلام كدينٍ قاده إلى الاعتقاد بضرورة وحدة العمارة التي تنبُع من الإسلام بصرفِ النظر عن المكان، أو الزمان، انطلاقاً من وحدوية الدين وصلاحيته لكل زمانٍ ومكان وهي فكرة جد خطيرة في أصول العمارة ومبادئها، إذ تلغي فكرة الإقليم المصغر والعوامل المحلية وتقود إلى فكرة العالمية وتُمهد لتسلسل الأنظمة المعمارية الدخيلة من الأقاليم المجاورة. وفوق كل ذلك تتضمن سيطرة الفكر الديني الذي يعلو على العقل في بعض جوانبه على قوانين البيئة الفيزيائية الحسية، ومن هنا تنشأ قناعات ومفاهيم صورية حرفية لدى المعماريين المُعاصرين بحيث ينزع البعض ممن يعجز عن إدراك الآلية التي تم بها فرز الموروث المعماري من الفترات السابقة إلى التقليد الحرفي، بصرف النظر عن الزمان والمكان تحت غطاء أن العمارة الإسلامية واحدة على طول أرجاء العالم الإسلامي.

وبالنسبة إلى أهم التجارب في حداثة العمارة العربية والإسلامية، نجد أولاً: التجربة الغربية في إحياء التراث الإسلامي التي سعى إليها المعماريون الغربيون في القرن التاسع عشر، ثم توسع نطاقها في بواكير القرن العشرين عند مجيء رهط من المعماريين ممن وجدوا أفضلية العمارة المحلية وغناءها ورسوخها، هذا غير جمالها.

ثانياً: التجربة المحافظة التي تقتضي إعادة إنتاج مفردات التراث بتصاميم غنية بالأسلوب التخطيطي المعاصر والمنهجية التنظيمية الوظيفية، وتستفيد من غنى الموروث الشعبي الذي يُحتم استعمال مواد البناء المحلية.

ثالثاً: التجربة الكلاسيكية الجديدة وهي التي ترمي إلى إعادة صوغ كثير من مفردات العمارة التراثية بأسلوب تسهيلي منهجي من خلال مساقط حداثية، لا تخلو من نفحات تراثية في الهيئة والأحجام. رابعاً: التجربة الحداثية المشرئبة إلى التراث وهو تيار يهتم بالشكل أكثر من المضمون الأساسي في التصميم. خامساً: التجربة الفكرية التي تسعى بخطى حثيثة وثّابة إلى استلهام عمارة إسلامية معاصرة لا تأخذ من التراث أشكالها فقط، بمقدار ما تبحث عن العقلانية في التوظيف الأنسب للفضاءات المعمارية، مستمدة من واقع المكان وبأية مواد متوافرة.

ومن كل ما سبق يتضح أن فن العمارة في الإسلام لم ينغلق يوماً على نفسه، بل كان دوماً متعاطياً مع الواقع ومع ما يُستجد دوماً من تغيرات تطرأ على فن العمارة الذي تفاعلت معه الحضارة الإسلامية منذ يفوعها وإرهاصات تكوينها الأولى.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)