السقَّاء المصري وصورته في التاريخ والأدب

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٤ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
سماح السلاوي


ارتبطت حرفة السقَّاء في مصر الحديثة، بالصحة العامة للسكان، لذلك لم تُترك طائفة السقائين من دون رقابة أو إشراف. فكان المُحتسب يُعين عريفاً على السقائين يساعده في مراقبتهم والإشراف عليهم لمنع وقوع إهمال يفضي إلى عواقب وخيمة. كما فرض المحتسب قواعد عدة وتعليمات على السقَّاء لا بد من أن ينفذها وإلا سيتعرض للعقاب وينتج من ذلك عواقب وخيمة. فكان يجب على السقاء أن يدخل في النهر حتى يرى الماء ثم يملأ القربة ليضمن سلامة الماء من التلوث، وعليه أن يلبس سراويل قصيرة تستره وتساعده على نزول النهر بسهولة، كما ينبغى أن يكون الوعاء نظيفاً وأن تكون يداه نظيفتين، وعندما يبيع الماء للمارة في الشوارع يجب أن يغطي الرَاوية بغطاء سميك حتى لا يسكب الماء منها ويؤذي المارة. ولذلك كان السقاؤون حاملو الماء على ظهور الدواب يضعون أجراساً في أعناق دوابهم بغرض تنبيه المارة. كذلك لم يتجاهل المحتسب الالتزامات الأخلاقية والأدبية نظراً إلى أن السقاء كان يسير في الشوارع والطرقات ينادي على الماء، كما كان مضطراً لدخول منازل مختلف الطبقات، ولذلك جرى إلزامه بغض البصر عند دخول أي منزل، وكذلك خلال سيره في الطريق العام، كي لا يسبب الإحراج للنساء أو أن يكون سبباً في حدوث فتنة. ولم يتجاهل المحتسب السقائين أرباب القِرب والرَوايا والدِلاء، فكان يمنعهم من استعمال مواد حافظة للماء.

ولكي يحصل السقَّاء على أجره كان عليه أن ينادي في الشوارع والطرقات بعبارات معينة «سبيل يا عطشان»، «الجنة والمغفرة يا صاحب السبيل»، «يا رب عوّض عليّ»، «العوض على الله... عليه العوض»، فيفتح الناس له الأبواب ليصب المياه في الخزّانات والأزيار، ثم يسجل على باب العميل خطوطاً بعدد القِرب التي أحضرها له، وأحياناً كان يستخدم عقداً من الخرز الأزرق يسحب منه خرزة عن كل قربة يحضرها لمنزله وعندما تنتهي خرزات العقد يحسب أجرته. أما سقاؤو الرَوايا والقِرب فكانوا يبيعون المياه في الأسواق للمارة مقابل قطعة من الخبز أو أي نوع من الطعام وأحياناً بلا مقابل من الفقراء حيث كان بعض الأغنياء يستأجرون هؤلاء السقائين لتقديم المياه صدقة. ولتشجيع هذا العمل النبيل سُمح للسقائين بأخذ الماء من دون مقابل من الأسبلة، فضلاً عن أنهم أُعفوا من دفع الضرائب.

وكان السقاؤون مُكلفين إطفاء الحرائق، فكانوا يمثلون جزءاً من الحراسة الأمنية ليلاً والتي ترافق الشرطة، ولذلك كان والي القاهرة يُرغم السقائين والقِربيين والعرفاء على التواجد باستمرار في شوارع القاهرة خشية وقوع حريقٍ ما وفي المقابل يقدم لهم العشاء يومياً، كما كان كل حي من أحياء القاهرة تختص به مجموعة من السقائين يقومون برشه مرتين بالنهار نظير أجر معين. وقد تعجب الرحالة جان تينو من نظافة شوارع القاهرة، اذ يقوم السقاؤون برشها بالمياه لترطيب المدينة نتيجة ارتفاع درجة الحرارة. وذكر ميشولم، الرحالة اليهودي، أن في القاهرة 10 آلاف شخص يرشون الشوارع لتهدأ ثورة الغبار والأتربة. أما الراهب فيلكس فابري، فذكر أن هناك عدداً كبيراً من الرجال بجِمالهم لرش الشوارع لقمع الغبار الذي يُثار بسبب حركة الأعداد المتزايدة من الجمال والخيول والبغال وإذا لم يتم ذلك بصورة منتظمة لاختنق الناس من هذا الغبار. كما كانوا مرسالاً للحريم وربما كان هذا سبباً مباشراً في تسمية كتاب «وصف مصر» تلك الفئة بالخدم، إذ يقول: «أما السقاؤون فهم على نحو ما رُسُل الحريم (أي النساء) اللائي يخترنهم ويتبادلنهم في ما بينهن ويتمتع هؤلاء الخدم عموماً بحظ أوفر من الآخرين ويوليهم أرباب البيوت أكبر قدر من الرعاية وتبسط النساء عليهم حمايتهن ويحرصن على راحتهم». ولذلك كان الفقهاء يفرضون عليهم اتباع الآداب العامة وعدم الاختلاط بالحريم لمنع الفتنة والوقوع في المتاعب والتعرض للعقاب.

وتذكر إحدى الحكايات الشعبية أن حماراً كان ينتظر نهايته فكان يشكو قائلاً: «عندما لا أعود أستطيع الجري فسوف يغطون ظهري بسرج خشبي ويسلمونني إلى سقاء يجعلني أحمل المياه في القِرب والجِرار ويا لها من نهاية حقيرة»، في إشارة إلى صعوبة المهنة ومتاعبها.

وفي سيرة «علي الزيبق»، تخفَى البطل في ملابس السقاء، وحمل القِربة على ظهره ليستطيع دخول منزل الوالي كل يوم.

وتدور أحداث رواية الأديب المصري يوسف السباعي «السقا مات» الصادرة في 1952، في حارة مصرية في عشرينات القرن الميلادي الماضي، وفكرتها الرئيسية تتبلور حول فلسفة الموت ومحاولة الشخصية الرئيسية «المعلم شوشة السقا» الهروب من ذكرى وفاة زوجته الشابة. وتحدث مفارقة عجيبة عندما ينقذ المعلم شوشة شخصاً ما من الضرب في أحد المطاعم ثم تتوثق علاقته به ويدعوه للإقامة معه في بيته مع حماته وابنه سيد، وهو لا يعلم أن هذا الشخص يعمل في مجال متعلق بدفن الموتى. ينفر المعلم شوشة من ضيفه في البداية إلا إن الضيف سرعان ما يتمكن من إقناع المعلم شوشة بمواصلة حياته ونبذ الخوف من الموت. إلا أن أكبر مفارقة تحدث عندما يموت الضيف نفسه فجأة في بيت شوشة فينهار المعلم بسبب ذلك. بعد فترة يستعيد المعلم شوشة عافيته ويأتيه خبر سار بتعيينه شيخاً للسقائين في المنطقة، إلا أن البيت ينهار فوق رأس المعلم وتنتهي حياته في مشهد مؤثر.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)