جريدة الشرق الأوسط
الجمعـة 16 محـرم 1434 هـ 30 نوفمبر 2012 العدد 12421
الصفحة : عين الشرق
القاهرة (مصر) : رانيا سعد الدين
البائع درويش : توقف الحال.. وأكتفي بفتح المحل فقط
حتى نهاية السبعينات كان وجود جهازي «الراديو» و«الغرامافون»، أو أحدهما، في أي بيت مصري دليلا على ثراء أصحابه ورقيهم، إذ شكل «الراديو» بوصلة البيت المصري على مدار اليوم، لأن بثه كان يبدأ من وقت تناول الإفطار صباحا إلى نهاية اليوم، مع إذاعة آخر نشرة للأخبار. أما «الغرامافون» - أو «الفونوغراف» - فكان الواحة التي يتمتع بها المرء في أوقات الصفاء وزمن راحة البال مع أصوات عمالقة الطرب كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم.
إلا أن الحال تغير مع بداية الثمانينات، وبانتشار التلفزيون الملون وأجهزة «الفيديو» في غالبية البيوت المصرية، تراجع الاهتمام بهذين الجهازين حتى تلاشى تماما، فانتهيا واقعيا إلى محلات بيع الأنتيكات، وتحديدا، في «حي المعز» بالقاهرة، الذي يقصده زوّاره بحثا عن القديم أملا في استعادة ذكريات الزمن الجميل.
عمرو درويش، أحد القلائل المتخصصين في بيع أجهزة «الراديو» و«الغرامافون»، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن ذكرياته مع هذه التجارة، وما آلت إليه اليوم في حوار خاص، فقال «ورثت هذه المهنة عن أجدادي، ومن بعدهم والدي الذي كان يصطحبني معه إلى الدكان منذ أكثر من عشرين سنة، لكن الوضع اختلف تماما الآن. في الماضي كان معظم زبائن الدكان زبائن من طبقة الباشوات وصفوة المجتمع.. إذ كان لـ(الراديو) و(الغرامافون) شأن كبير يومذاك، ولا يستغني عنهما أي بيت. وكانت كلمة من يملك هذه الأجهزة مسموعة في محيطه، نظرا لمعرفته الأخبار قبل غيره، كما كانت لديه حكايات كثيرة يستمع إليها طوال اليوم من حوارات البرامج أو من المسلسلات الإذاعية».
وتابع درويش «هكذا كانت الأمور في فترة الخمسينات وحتى منتصف الستينات، إلى أن انتقل (الراديو) و(الغرامافون) إلى المقاهي والصالونات الأدبية وبعض بيوت الموظفين وكبار التجار، وكانا ما زالا وسيلة الترفيه الوحيدة في تلك الأيام.. وأتذكر هنا إذاعة (صوت العرب) التي كانت قبلة العرب من المحيط إلى الخليج، واللحظات التي كانت تعلن فيها موعدا لأحد حفلات أم كلثوم، فيفتح باب التحضير لهذا الحدث، وكذلك كان الوضع مع (حفلات شم النسيم) لفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، والتي كانت أغانيها تُسمع في كل بيت وشارع عبر الراديو وكأنك تحضر الحفل حيا».
في تلك الفترة كانت أجهزة «الراديو» و«الغرامافون» تصنع بتصاميم وأحجام وأشكال مختلفة، وبعضها يصمم حسب الطلب ورغبة الزبائن وقدراتهم المالية، وكلما علا شأن المشتري ازدادت الإضافات إلى الشكل العام للجهاز. وهنا أوضح درويش «ثمة من كان يطلب أن يكون الصندوق الخشبي للراديو مصنوعا من خشب الورد أو الأبنوس ومطعما بالصدف، والشيء نفسه ينطبق على صندوق (الغرامافون) الذي كان أحيانا يطعم برسوم ونقوش وتدخيلات من الذهب الخالص أو الفضة، بالإضافة إلى طلي البوق بالذهب أو الفضة لكي يحافظ على بريقه طوال الوقت». وأردف «كل هذا كان إيمانا من (السّمّيعة) بالسمو الذي يحاولون الوصول له بهذا الجهاز.. الذي كان يعد من أثمن ممتلكاتهم وأحد مكملات ملامح الثراء والأبهة. كذلك كان عدد الأسطوانات، وبالأخص النادر منها، التي تضمها المكتبة السمعية الخاصة بالشخص دليلا ملموسا على ذوقه الراقي وثقافته». ثم قال «لكن اليوم، مع تقدم التكنولوجيا أصبح كل من الراديو و(الغرامافون) من قطع الأنتيكات أو الديكور، وعلى هذا الأساس يقتني أصحاب الكافيتريات هذه الأجهزة، ومثلهم بعض هواة التحف والأنتيكات الذين يشترونها لإكمال ديكور بيوتهم».
قدر درويش سعر الجهاز الذي لا يعمل بما بين 500 إلى 800 جنيه، في حين تتراوح قيمة الجهاز الذي يعمل بكفاءة بين 900 و1200 جنيه، وطبعا «يختلف السعر تبعا لعمر الجهاز وحالته». وفي هذا السياق أوضح درويش أن مبيعات دكانه حتى فترة قريبة من الزمن كانت «طيبة.. ولا بأس بها»، إذ كان في اليوم الواحد يبيع جهازا أو أكثر «وبخاصة بعد انتشار موضة الديكور العربي والحنين إلى الماضي، إذ غدا كثيرون يحرصون على تصميم جلسة عربية، تحتوي على (الغرامافون) و(سبرتاية) القهوة (موقد تحضير القهوة) وبعض الأرائك المتناثرة على الأرض، وكأن صاحب البيت يناشد عقارب الساعة المستعجلة التمهل ومنحه قطرات من عبق الزمن الجميل، ولو على سبيل الذكرى» على حد وصفه.
واستطرد درويش فقال «الوضع تغيّر بعد الثورة وتراجع السياحة وتناقص أعداد المترددين على (الحسين) و(حي المعز)، فباتت تمر بضعة أشهر لا أبيع خلالها سوى جهاز واحد». وبعد تنهيدة أطلقها في الهواء، أضاف «الحال واقف وكأن السّمّيعة وأصحاب المزاج العالي أصابهم العزوف وتعكر خيالهم يأسا من أحوال البلد، فوجدت نفسي عاجزا عن دفع مرتبات عمال الدكان، ولذا اضطررت للاستغناء عنهم وصرت أقوم بكل شيء في الدكان بمفردي».
وحقا، اليوم عندما ينظر درويش إلى الأرفف ويرى البضاعة مكدسة ولا أحد يشتري، ينتابه الحزن على «الزمن الجميل الذي ما عاد الناس يريدون أن يتذكروا ولو شيئا من مفرداته». وبنبرة شجن ختم درويش كلامه قائلا «سنة وأكثر والحال لا يتغير والسوق من سيء إلى أسوأ.. ومع هذا لا أستطيع إغلاق المحل ولا حتى تغيير النشاط، فهذه هي المهنة التي أعرفها وأجيدها، ولا أعرف غيرها.. ولن أجلس في البيت».
جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.