الخميس، ١٥ مايو/ أيار ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
إذا نسينا لوهلة أن فيلم «الحب تحت المطر»، مأخوذ عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ عرفت بالعنوان نفسه، واعتبرناه، فكراً وسيناريو، من إنتاج الراحلين، مقتبسه للسينما ممدوح الليثي، ومخرجه حسين كمال... سنجد أنفسنا أمام فيلم جيّد كان من المنطقي له أن يعتبر من أفضل ما قدمته السينما المصرية خلال الموسم السينمائيّ (1977 - 1978) الذي حقّق فيه. فالفيلم يتناول عدداً من الشخصيات في زمن مصري حافل بالتفاعل والتوتر والقلق، هو الزمن الذي سبق حرب تشرين، ووصلت فيه معنويات الجيلين الأوسط والأصغر من أبناء شعب مصر، إلى الحضيض، كنتيجة لهزيمة حزيران (يونيو) التي لم تنعكس على الأوضاع السياسية والاقتصادية فحسب، إنما تفاعلت مع هذه الأوضاع لتحدث شروخاً اجتماعية وصدمة أخلاقية وردود فعل سلبية لدى الجيل الشاب.
ومهما يكن من أمر، فلا بد من التشديد منذ الآن على أن الشخصيات التي يتناولها الفيلم، مأخوذة في ملامحها الرئيسية من رواية نجيب محفوظ: فهناك عليات ومرزوق، الخطيبان المفعمان بالبراءة الظاهرة التي سرعان ما تنكشف عن فساد عميق: فعليات في حقيقتها شبه عاهرة، ومرزوق يتحول إلى نجم سينمائي انتهازي سرعان ما يتخلى عن خطيبته ويتزوج نجمة كبيرة. وهناك بعدهما سناء وإبراهيم، الأولى زميلة عليات في ليالي المصوّر السينمائي الفاسد حسني حجازي، وشقيقة مرزوق، والثاني مجند يعيش حرب الاستنزاف على الجبهة – وهناك على تلك الجبهة يصاب إبراهيم في عينيه ما يفقده بصره، ومع هذا، فإن سناء – على رغم أننا نعرف أنها ذات ماضٍ قذر – لا تتخلى عنه، بل ترضى بالزواج به، على رغم ما أصابه. وبعد ذلك هناك منى زهران وسالم علي، خطيبان آخران: منى متحررة ومستهترة ترضخ لأول عرض سينمائي يأتيها، لكنها إذ لا تريد أن تدفع الثمن للمخرج من شرفها، تدفع أخاها علي زهران، الدكتور الذي يوشك أن يرحل من البلد، إلى قتل المخرج محمد رشوان الذي كان قد حاول إغواءها. أما سالم فقاضٍ ناجح لا يؤمن بتحرر خطيبته لذلك يتركها ليحاول بعد ذلك أن يعود إليها في النهاية.
هذه الشخصيات الست، هي في الأساس، المحاور التي تدور أحداث الفيلم حولها، في إطار الجو العام المسيطر على مصر في تلك الفترة (سنوات السبعين الانفتاحية). غير أن هذه الشخصيات هي الفلك الذي تدور حوله أيضاً شخصيات أخرى: حسني حجازي، وهو مصور سينمائي يقيم حفلات خلاعية في بيته، ولا يتوانى عن مساعدة صاحباته اللواتي يتخلين عنه ويخترن الحياة الزوجية، وأحمد رضوان، المخرج الذي بسبب حبه للممثلة فتنة ناضر، يدفع أموالاً لأشخاص كي يشوهوا وجه مرزوق، زوجها، ما يجعله غير صالح للسينما، وعبده بدران والد عليات وإبراهيم، الذي لا يعرف شيئاً عن فسق ابنته. وأخيراً، هناك عشماوي مساح الأحذية العجوز، الذي يحمل وراءه ماضيه الحافل بالقوة والوقوف إلى جانب الحق، لكنه الآن عاجز عن الكلام، ولا يجد أمامه إلا التحسر، وإبداء الألم المر.
والحال أن الفضيلة الأولى لحسين كمال، مخرج «الحب تحت المطر»، تكمن بالنسبة إلى هذا الفيلم، في أن أياً من الشخصيات لم تفلت منه، فهو على رغم تعددها وتشابك الأحداث، عرف كيف يتعامل معها في شكل جيد، فارتدت كل شخصية جلدها الذي فُصّل لها، وأدت دورها على أحسن ما يرام، وسط سيناريو محكم الصنع، فيه الكثير من التجديد، لا سيما في المشاهد التي صوّر فيها فيلم داخل الفيلم. ففي هذا القسم قدم حسين كمال وممدوح الليثي، ما يمكن اعتباره في ذلك الحين، أهم وأخطر انتقاد – من الداخل – ضد ممارسات وألاعيب السينما المصرية التجارية المتهافتة التي كانت هي السينما الرائجة في ذلك الحين - في ذلك الحين فقط؟ بكل ما فيها من زيف ونفاق. ولعله ليس من المبالغة القول إن الفيلم، حتى ولو اقتصر على هذا الجزء، لكان فيلماً مهماً للغاية. ولكن الجزء الثاني منه، الجزء الذي يتعامل مع مصائر الشخصيات ويصوّر لنا بشيء من الإيجاز والحدة في آن واحد، تشابك المصائر بين بعضها بعضاً، وعلى رغم تفوقه الإخراجي والتمثيلي على السواء... أتى ليذكرنا بأننا مرة أخرى، بعيدون في هذا الفيلم عن الجو الذي بناه نجيب محفوظ بدقة وذكاء، وقاد من خلاله شخصيات روايته «حب تحت المطر». فالرواية في نهاية الأمر، وكما جرت العادة حين يتناول فيلم تجاري عملاً محفوظياً أدبياً، كانت مختلفة عن الفيلم كل الاختلاف. وفي هذا الإطار، قد يكون في إمكاننا نتجاوزاً هنا، ومن الناحية السينمائية البحتة، أن نقف إلى جانب الآراء التي عبر عنها بعض زملائنا من النقاد المصريين حين كتبوا عن الفيلم يوم عُرض أنه إلى حدّ ما قد جاء متفوقاً على رواية نجيب محفوظ، مضيفين أنه شيء يحدث للمرة الأولى بالنسبة إلى أفلمة روايات هذا الكاتب الكبير.
ولكن هذا التفوق في رأينا كان مجرد تفوق تقني لا أكثر. وذلك لأن عملية الاجتزاء التي مارسها المخرج وكاتب السيناريو على الرواية شوّهت البعد الرمزي الذي شحن محفوظ قصته به. وهو تشويه من الواضح أنه أتى عن قصد. ففي الرواية، ومقابل الشخصيات السلبية التي صوّرها محفوظ، واعتبرها نتاجاً للمجتمع العاهر الذي صنعها، كان هناك شخصيات أساسية عدة أهمها ثلاث: حامد شقيق سالم علي، وهو مناضل يساري حمّله محفوظ الكثير من أمله بمستقبل مصر، وجعله في النهاية يتزوج عليات، على رغم كل ما يعرفه عن ماضيها – والرمز هنا، في الرواية، أوضح من أن يُفسّر في مقال سريع - وأبو النصر الكبير، ممثل المقاومة في مصر الذي يحمل عبء بناء المستقبل العربي في تضامنه مع حامد، وأخيراً صفوت الوطني المتحمس للاتحاد السوفياتي. وهذه الشخصيات الثلاث، اختفت تماماً من الفيلم، كما اختفت بعض الأحداث والشخصيات الأخرى ذات الدلالة: مثل مقتل سمراء وجدي، المثلية الجنسية التي حاولت التشهير بعليات بعد أن ساعدتها على الإجهاض، على يد عبده والد عليات، المأزق الذي وجد حسني حجازي نفسه فيه وجعله يفكر بالرحيل إلى لبنان، شخصية المحامي حسن حمودة والدور الأساسي الذي يلعبه هذا المحامي في الجزء الثاني من الرواية، وبالنسبة إلى مصائر عدد من الشخصيات..
إن هذه الاختلافات كلها بين الرواية والفيلم، وهي ليست سوى جزء من مجموعة كبيرة من الفروقات، تجعل الفيلم شيئاً آخر تماماً غير رواية محفوظ، هذه الاختلافات تعطي للفيلم بعداً سياسياً مختلفاً تمام الاختلاف عن البعد الذي شاءه له نجيب محفوظ. ونحن مع إدراكنا الأسباب الجوهرية التي حدت بالمخرج إلى إحداث كل هذه التغييرات العضوية في الفيلم، لا يسعنا إلا أن نعتبر «الحب تحت المطر» فيلماً مقتبساً فقط عن بعض أحداث رواية نجيب محفوظ لا أكثر ولا أقل. ولكن هذا لن يمنعنا، مرة أخرى، من القول إن «الحب تحت المطر» الفيلم، وبالشكل الذي جاء عليه، أتى في العام الذي حُقّق وعُرض فيه، إضافة طيبة إلى السينما العربية التي كانت توصف بالجديدة آنذاك، والتي كانت حتى بسلوكها سبيل الميلودراما، تحاول في ذلك الحين، أن تتلمس طريقاً يقودها إلى تحقيق تلك المعادلة التي كان النقاد ومحبو السينما المصرية والعربية ينادون دائماً بسلوكها طريقاً يتراوح بين النوايا الطيبة والإمكانات المتوافرة، مادياً وسياسياً ومعنوياً.
وبقي أن نذكر هنا على سبيل الخاتمة أن حسين كمال، حقق أفضل أعماله – منذ «البوسطجي»، و «شيء من الخوف» - في هذا الفيلم الذي شهد تمثيلاً ممتازاً لعادل أدهم، في دور حسني حجازي، ولعماد حمدي في دور عشماوي، وماجدة الخطيب وميرفت أمين – في دوري منى زهران وفتنة ناضر على التوالي – كما شهد مجموعة من الناشئين الذين عرف حسين كمال كيف يحركهم في شكل جيد نسبياً.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.