الإيقاع بما هو شكل : فلسفة الإيقاع في الموسيقى العربية. يرتبط هذا المقال بمقال «حتميات التاريخ وتفاعيل الزمن» على منصة معنى

يرتبط هذا المقال بمقال «حتميات التاريخ وتفاعيل الزمن» على منصة معنى من جهة أنه تطوير له، وبناءً عليه[1]. لقد حاولنا في المقال سابق الذكر توضيح أن الحضارة العربية حضارة مكان أكثر منها حضارة زمان، جغرافيا أكثر منها تاريخًا، شعر أكثر من رواية، وغناء أكثر من دراما. وحاولنا كذلك بيان كيف انعكست هذه الطبيعة، تلك البنية الذهنية المسبقة Pre-structure، على التأليف الموسيقي؛ فقد انهمّ الغربيون بتطويع الإيقاع، إلى درجة السيطرة على الزمان الموسيقيّ، والتخلي عن التفاعيل الإيقاعية منذ قرون؛ بهدف إتاحة المساحة للتصرف الحر للمؤلِّف في إيقاعه، بينما ظلت الحضارة العربية توفيقية، انسجامية، تحاول خلق الوفاق بين الزمان والمكان؛ وبالتالي احتفظت بالإيقاع ذي التفاعيل غالبًا، مع توخِّي حسن الاختيار، والمعالجة، بحيث يكون أنسب ما يمكن للمقطوعة.

وقد طرحنا فيما سبق في مقال «حتميات التاريخ وتفاعيل الزمن» كيف أن الموسيقى الغربية قد تخلت تدريجيًّا منذ القرن الخامس عشر عن التفاعيل الإيقاعية، بينما احتفظت بها الموسيقى العربية. وتعني التفاعيل الإيقاعية معناها في تفاعيل عروض الشعر؛ هي تنظيم معين، مسبق التجهيز، للوحدات الإيقاعية، والتي تتنوع من المصمودي، إلى المقسوم، إلى الزفة، إلى الخماسي، والسداسي، إلخ. وذلك بحيث ينتقي الموسيقار، كما يفعل الشاعر، الإيقاعَ المعبّر عن موضوعه، وحالته النفسية، وذلك كهيكل إيقاعي للعمل.

ولكنّ النقطة الحالية هي الناتج النهائي على المستوى الشكلي؛ إذ انهار الإيقاع في الموسيقى الغربية الكلاسيكية، ولكن لصالح الشكل Form، ولا نعني بالشكل هنا معناه العام؛ بل معناه في النقد الموسيقي، وفلسفة الموسيقى، أي خلق بنية مجردة ذهنية عن طريق الموسيقى، تمامًا كالشكل الهندسي المركب؛ ولكن الاختلاف في صلة الشكل بالزمان؛ هل هو متحرك، أم ثابت؟ فالشكل الموسيقي بنية متحركة على خلاف الشكل الهندسي الساكن[2]. أما الواقع في الموسيقى العربية فكان العكس؛ لقد احتفظت الموسيقى العربية بالإيقاع المركب، بالتفاعيل الإيقاعية؛ ولكن على حساب الشكل، الذي جاء مختزَلًا، لا يفي بحاجة السامع إلى المتعة في حل لغز التركيب. وهكذا صارت الموسيقى الغربية الكلاسيكية أقرب إلى التجريد، بينما جاءت العربية أقرب إلى الحس والتعيين. باختصار: صار المجال الأساس للتأليف في الموسيقى الغربية الكلاسيكية هو التلاعب بالبنية المجردة، المتحركة؛ بينما صار مجال الموسيقار العربي الرئيس هو التلاعب بالمقامات، والألحان، والإيقاعات...

رابط : مقال كريم الصياد على منصة معنى

أخبار أخرى

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)