أدب

إيقَاع الشِّعر بين التَّوحِيدي ومِسْكَويْه

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


السنة الخامسة والعشرون - العدد 7605 - الاثنين 2 كانون الاول (ديسمبر) 2013 - 28 محرم 1435 هـ
جريدة القدس العربي
صـلاح بوسـريف


التجاء أبي حيان لمسكويه، لسُؤاله، في ما يخص عدد من القضايا، التي كانت تشغل بالَ التوحيدي، وهي قضايا لا يمكن حَصْرُها في الأدب أو الفلسفة، وحدَهُما، بل إنها مَسَّت مجالات واسعة، هي بين ما يمكن اعتبارُه مشاغِل الفيلسوف، أو المفكر الذي يرى، ويُراقب ما يجري حوله باهتمام، وبقلق كبيرين، هو اعتراف من أبي حيَّان بمكانة مسكويه الفكرية، رغم أنَّ مسكويه كان مشغولاً بالأخلاقيات، في بُعدها الفلسفي.

مَنْ ينظر في هذه السؤلات يُدْرِك أهمية أبي حيان، من جهة، كونه، في وضعه للسؤالات، استطاع أن يَسْتَنْفِر فكر ‘صديق’ له، كان أبو حيان يُدْرِك ما يمكن أن يصدر عنه من إجابات، ربما ستفتح أفقاً في الفكر الفلسفي، وفي الوعي الفلسفي للإنسان، أي باسْتِنْفار، واسْتِنْهاض العقل والخيال، بدل البقاء في دائرة ‘الغيب’، وحده، دون وضعه في سياق العقل، أو المُساءلة، خصوصاً أنَّ أبا حيَّان اتُّهِمَ بالزَّنْدَقَة، واعْتُبِر مُلْحِداً، أو بين أخطر المُلْحِدين.

في ما يتعلَّق بمشكلة العَروض، باعتباره، كما في سؤال التوحيدي، ‘رديءَ الشِّعر’، إشارةً منه، لِما أصبح عليه الشِّعر من تكرار، وهيمنة ‘النَّظْم’ عليه، فمسكويه، رأى أنَّ النظر في مشكلة أوزان الشِّعر، باعتبارها ‘آلةً’ أو ‘وسيلةً’، لا يمكن توسيعُها، أو تفاديها، إلاَّ بوضعها في سياق شعري أكبر، مرتبط بمفهوم ‘الإيقاع′، كما ذهب إليه أبوحيان التوحيدي. ولهذا، فمسكويه، حين قارن بين نص جاهلي، ونص تَالٍ عليه، رأى أن ‘الذَّوْقَ’، ليس نفسه بين النَّصَّيْن، وبين القارِئَيْنِ، فما قَبِلَه ذوق المُتَقَدِّمِينَ، من الجاهليين، قد لا تقبله ‘طِباعُنا’ و’لا يَحْسُن في ذوقنا’، رغم أنه مقبول عند الجاهليين. ويُشير في هذا لقصيدة المُرَقِّش الأصغر، وهي من مختارات المُفَضّلِيات، ويرى أنها إذا كانت’ مقبولة الوزن في طِباع أولئك القوم’ فـ ‘هي نافِرَة في طِباعنا نَظُنُّها مكسورةً’. بمعنى أنَّ ‘ما يطيب في ذوق العرب..ينكسر في ذوقنا’، أو لا يستقيم عندنا.

هذه من الأمور المهمة، التي نتفادى اليوم الحديث فيها، فما نعتبره ذوقاً، رغم صعوبة تحديده، هو بين ما يكون اللسان، أو الأذن، تربَّت عليه، ليس في الشِّعر فقط، بل وفي الرسم، والموسيقى، والفن عموماً، ومسكويه، لم ينس الإشارة، في جوابه هذا للموسيقى، و’وزن النَّغَم’ وما للنفس من دَوْر في قبول لَوْنٍ دون آخر.

مما أثارني في جواب التوحيدي، في هذه المسألة بالذَّات، هو ما سَمَّاه بـ ‘جَبْر’ النقص في بعض أجزاء التفعيلة، حين تكون مُنْكَسِرَةً، وهو ما يَتِمّ بـ ‘الإنشاد’، فالمُنْشِد يُجْبِر النص ‘بالنَّغْمَة’ حتى يتلافى ما فيه من كسْر، وهذا أحد مداخل فهم الإيقاع، في الشِّعر القديم، وهو إيقاع لا يحصل في القصيدة وحدها، بل بمؤازرة النَّغَم، أو تَدَخُّل المُنْشِد، وهذه من الأمور التي علينا إدراكها كمسافة بين ما أُسَمِّيه ‘حداثة القصيدة’ و’حداثة الكتابة’.

ما يعنيه هذا ‘الحوار’، بين أبي حيان والتوحيدي، الذي نفتقد للكثير منه اليوم، بين الشُّعراء، وغير الشُّعراء، في مقاربة القضايا الكبرى، والحيوية، في الشِّعر، كما في الفكر، أنَّ الصَّمْتَ الذي نُقابِل به مشكلات الشِّعر، والفكر، واعتبار ما يجري غير ذي أهمية، وأنه مما لا يحتاج مِنَّا لأي جُهْد، لأنه من الإمور الصغيرة، أو التي تَمَّ تَداوُلُها من قبل، هو تعبيرٌ عن جَهْلِنا بما في طَيَّات هذه الأمور من خطورة، لأننا حين نعتبرها انتهتْ، فإننا نضعُها ضمن الثوابت والمُسلَّمات، ونبتعد عن المراجعة والاختبار، باعتبارهما ضرورتان لا يمكن للشِّعر، ولا للفكر، وحتى الفن، أن يعرف انتقالات، دونهما. فما نعتبره انتهى، هو ما يكون في حالة بَدْءٍ دائمةٍ، وهذا ما ينطبق على نسياننا، بمفهوم فوكو للنسيان إن ‘القصيدة’، كما اسْتَشْعَرَها أبو حيان ومسكويه، هي غير الشِّعر، في مفهومه الأوسع، الذي يتجاوز الإنشاد، وترميم أعطاب النص بالإنشاد، لأن الشِّعر، في ‘حداثة الكتابة’، هو أكثر من دَالٍّ، والصفحة فيه بين الدَّوالِّ التي لا يمكن تجاهُلُها، بما تفتحه من تأويلاتٍ، هي إغناء لـ ‘المعنى’، وخروج به من دائرة ما هو ‘مطروح في الطَّريق’. فالمعنى في الشِّعر، مفتوح على سياقات مختلفة، متنوِّعَة، وما يخذلنا فيه، أكثر مما نضع يدَنا عليه، أو نصل إليه.

ما نزالُ ندور في حلقة ‘الوزن’ و’النثر’، ولم نصل بعدُ إلى المعنى العميق للشِّعر، باعتباره ‘أكبر من العروض’، بتعبير أبي العتاهية، الذي كان واجه مُنْتَقِديه، ممن اعتبروا شعره قريبٌ من النثر، أو نثر، لا علاقةَ له بالشِّعر، وهو ما يسري على قصائد جاهلية، مثل مُجَمْهَرة عبيد بن الأبرص، التي لم بستطع عروض الشِّعر استيعابَها، لأنه، في أساس بنائه، لا يقبل التَّوَسُّع، أو لم يَسْتَسِغ الشِّعر في مفهومه الأيقاعي الأوسع. أبو حيان التوحيدي، ذهب إلى هذا، وأشْرَك معه مسكويه، علماً أنَّ في ‘نثر’ أبي حيان كثير من الشِّعر، بهذا المعنى العميق والبعيد.

فالمُراجعة، إذن، هي جوهر هذه السؤالات، والإجابات، بين أبي حيان ومسكويه، ليس في ‘إيقاع′ الشِّعر وحده، بل وفي ما يتجاوز الشِّعر، كنص، ويذهب إلى جملة من القضايا الكبرى، والأساسية في فكر الإنسان، وفي وجوده. فبدون تفكير هذه القضايا، يبقى الفكر عاطلاً عن اختبار نفسه، واختبار قابليته للتَّجَدُّد والتجاوز.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)