جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 08-04-2021
المدن - ثقافة
أيوب المزين
«وردٌ ورمادْ» أو حرائقُ الأدب المغربي
"(...) اغفر لهم، إنهم يخرؤون في ثيابهم".
شكري إلى برّادة، من مستشفى الأمراض العقلية، تطوان 1977.
عن دار نشر “كرّاس المتوحد” (مراكش)، بترجمة محمّد حمودان، صدرت حديثاً النسخة الفرنسية للمراسلة التي جمعت الأديبين المغربيين محمّد برّادة (1938-...) ومحمّد شكري (1935-2003) على مدار عِقدين كاملين. بين 1975 وحتى العام 1997، تبادل الرَّجُلان عشرات الرسائل والبطائق البريدية التي عبرت حواضر الدنيا وقُراها، شرقاً وغرباً، لتصير اليوم واحدة من أهمّ النماذج العربية المعاصرة في الجنس الرسائلي.
يبدو محتوى المظروف هادئاً وحميميّاً، لكنه ينطوي على توترات دفينة، وبقدر ما يُفصح عن تساؤلات ذاتية وشخصية لمؤلِّفين جايلا بعضهما، وعاشا في حقب تغمرها القلاقل السياسية والانتكاسات، فإنه يكشف هواجس مرحلة كاملة تُلخِّص تحوّلات الأدب المغربي الحديث وتؤرخ لصراعاته المُركّبة والمُرتبكة، بل إنه يجعل من الرسالة وثيقة تجمع بين فن الكتابة وعلم التاريخ، ليقدّم لنا ذخراناً ثميناً قلّ نظيره في الثقافة المغربية، والعربية على العموم، إلا إذا استثنينا مراسلة عبد الكبير الخطيبي وجاك حسّون، صادق جلال العظم وإدوارد سعيد، محمد عابد الجابري وحسن حنفي، وربما أيضاً مراسلة غادة السمان وأنسي الحاج، على اختلاف سياقاتها جميعاً. إنّ “كتابة الرسائل تعني التعري قُدّام الأشباح”، وأشباح شكري غير أشباح برّادة، وصداقتهما لا تتحقق إلاّ في الغياب، ومن خلال عبور المسافات الممزقة والمضنية: فالأوّل هائم في طنجة، متوّحد معها/فيها، يلملم أحزانه وخساراته غاطساً في المشروب؛ والثاني لا قرارَ له، سائحٌ بين بيروت وباريس وطشقند وموسكو وواشنطن، إلخ؛ يتزوج ويكتب، يكتب ويتزوج، يراكم المجد الزهيد مستذكراً فاس.
“ورد ورماد” هو العنوان الذي أعطاه برّادة للمراسلة(صدر الكتاب اولاً عن منشورات الجمل). يتضمّن العنوان استعارة معلومة، ولعلّها تقليدية، للحياة والفناء، للكتابة والحرق، للتدوين والطمس. فالوردة التي “دون لماذا تُزهر” هي نفسها الوجود الذي يورق أمام أعيننا، ونتلقفه بسعادة العطشى، السائرين إلى نافورة السبيل. أمّا الرماد فهو الزوال في صورته الهشة والضئيلة، إنه التبدد المؤسف لجميع إمكانات الانبعاث، وقد نسمع في الرماد صدى الرميم. قل من يحيي العظام وهي... تلك الرّاء المتكررة، المقرونة بالرحيل، راءٌ توحّد العيش وتشطره، وبها يريد برّادة من شكري أن يتحرّر من خيباته، أن يتطّور إلى عنقاء منبعثة، حتى أنه يكاد يتحوّلُ ذلك الأبَ الذي دفنه مجنون الورد في مقبرة ذكرياته. بيد أنّ الريفي العنيد يتشبث بإيقاعه ويراوغ النصائح. يكتب شكري إلى برّادة: “استيقظتُ منذ قليل. أكتب لك بيدٍ راعشة. ما زلتُ في كأسي الأولى. الصيف عفن. لا أستطيع الاستمرار في الكتابة. الدوخة والغثيان. هذا يكفي. حتى عنوانك سأكتبه بعد أن تزول الرعشة...”. هل أنستِ الخمرة شكري عنوان برّادة يا ترى؟ أم هي رعشة اليد العاجزة عن الكتابة فحسب؟
العنوان المستحيل
تُحيل الرسائل، من داخل تكوينها الأساسي، أي من كونها نصّاً موجّها إلى قارئ بعينه، على الاخفاء والحجب. فالرسالة تُودع داخل مظروفٍ يغلق باللّعاب، ويُرشم بالطوابع والأختام، ثم يحملها سعاة البريد بعناية وصرامة نحو عناوين جغرافية ووجدانية تبتغي إصابتها حتى ينبلج قول ما. يكتب برّادة إلى شكري: “أشياء كثيرة أريد أن أحدّثك عنها ولو في هذه العجالة، لأنّ كتابة الرسائل تعوّضني، على الأقل، عن حرمان الكتابة، خاصة حينما نكتب لمن نعرف أنّه يدرك ما وراء ألفاظنا...”. كذلك يكون شكري، في نظام الإرسال هذا، ليس مُرْسَلاً إليه فقط، بل الرسالة والعنوان، يكونهما معاً كلّما أراده برّادة أن يصير علبته البريديّة، ما كان يريد أن يكونه ولم يَصِرْه، أي ذاك البوهيميّ الذي وقّع القِران شهادة وفاته. حتى أننا، في لحظة من اللحظات، قد لا نميّز رسالة شكري من رسالة برّادة، مع أن أسلوب النصح المتصاعد والمواضعات الاجتماعية التي تستقر في حياة برّادة تفضحه مع توالي الرسائل والسنين.
صيف 1980، من قرية شاتوناف جنوب فرنسا، تظهر داخل رسالة من برّادة إلى شكري إشارة إلى مراسلة أخرى. يقول: “... إنني أعمل بمعدّل 10 ساعات في اليوم، مما أتاح لي إنهاء ترجمة كتاب رولان بارت (الدرجة صفر للكتابة) وكتابة بعض القصص والدراسات وقراءة رسائل فلوبير...”. يكتب برّادة إلى شكري وهو يقرأ رسائل فلوبير إذن. رسالة داخل الرسالة، وعنوان تلو العنوان. تتضمن مراسلة فلوبير أزيد من 4000 رسالة مع مخاطبين متعدّدين، وقد امتدّت لما يقرب الخمسين عاماً. ربما كان برّادة، وهو يكتب رسالته إلى شكري، ويقرأ مراسلة فلوبير، يضع عينيه على سطر في رسالة فلوبير إلى لويس كوليه يقترح عليها فيها ما يلي: “إذا راسلكِ من جديد (حبيبها)، ردّي عليه برسالة ضخمة من خمسة أسطر: لماذا لا أريدكَ؟ لأنكَ تقزّزني، ولأنك دنيء”. المراسلات دوائر لا تكتمل بغير العداوة أو الموت، تُشبه حركتها خفقان القلب ومداعبة اليد لكلب الزّمان، يجري لاهثا خلف حلول الطّريق، دون أنْ يجد الماء في البئر. هكذا يؤوب الجنس الرّسائليّ دوماً إلى صيغة من صيغ العطش: الرّسالة الأولى، ثمّ ماذا؟ الرّسالة الأخيرة، ما الحلّ؟
إنّ الحل الذي يختاره محمد برّادة هو تضميد النصح بالمزحة، يبخّ ويكوي كما نقول عندنا، حتى لا يجرح صديقه ذا الأنفة الريفية والرهافة الفنية. يكتب برّادة إلى شكري: “تردّدتُ كثيراً قبل أن أكتب إليك هذه الرسالة، لأني أعرف حساسيتك وأعرف حراجة الفترة التي تمر منها... لكنني كصديق، لا أريد لعلاقتنا أن تتحوّل إلى علاقة برّانية نتحاشى فيها الكلام الصادر من الأعماق، والنقد المألوف بين الأصدقاء والمدعم لمحبتهم...”. تُمهّد هذه الفقرة لرسالة طويلة، بل لرسالتين، مليئتين بلوم وعتاب يُلبسه برّادة لباس النصيحة الصادقة، ولا شك أن برّادة صدوق في صداقته. لكنه، مع ذلك، يسقط في صيغة من الأبوية التي يتغاضى شكري عنها كأنه يستنجد بأسلوب الحكيم، المعروف لدى أهل المعاني، ليقول لبرّادة بحذاقة الصعلوك المحترف: يعرف كل منا مراده من الآخر، وأخي قد دفنته، فكن صديقي.
حرائق في مكتب البريد
لا تخلو المراسلة من هجوم شكري على عدد من الأسماء، من بينها مجنون تعارك معه داخل مستشفى الأمراض العقلية في تطوان، والصحافي المصري رجاء النقاش الذي نعته شكري بالاسترزاق ثم، وبلا أدنى مفاجأة، صديقه اللدود الطاهر بنجلون. يكتب شكري إلى برّادة: “(...) كدتُ أنسى أن أخبرك أيضا عن المقال الذي كتبه الطاهر بنجلون في”لوموند" عن الحياة الثقافية في المغرب. إنه يجهل الأدب المغربي المكتوب بالعربية. قال عني مثلاً: شكري روى حياته لبول بولز وأنني مجرد حكواتي. كتبتُ توضيحا وأرسلته إلى المُحرّر لكنهم لم ينشروه". كذلك يضرم شكري النيران في كل من يقترب من أسطورته/سرّه، خبزه الحافي الذي ما تنفك الرسائل تحوم حوله مثل بوسطة مركزية تلتقط وتفكّ شيفرات الضغائن والأحقاد.
ردّاً على رسالة يتحدث فيها برّادة عن زيارة عبد الرحمن منيف للرباط، وعن عدد جديد من مجلة الآداب، وعن الزواج واتحاد كتاب المغرب، يكتب شكري: “عندما استلمتُ رسالتك كنت شبه فاقد وعيي: جد سكران. بدت لي رسالتك كأنّها رموز هيروغليفية. وضعتها في جيبي، ولم أقرأها إلا بعد يومين. عندما صحوت، كنت جد متخاصم مع نفسي وأيضا مع الناس الذين بدوا كأنهم مصارين محشوة بما يقرفني”. على هذا النحو يفتتحه جوابه قبل أن يعوم في الحديث عن مأزق العلاقات الإنسانية، وفتور الكتابة ولذة الموسيقى وتيه المال والشراب...
في قصة المستحيل يتحدث شكري عن فأر. كان هذا الفأر على ما يبدو يخرج كلما زار زفزاف صديقه الطنجاوي. ولغز الفأر هذا واحدٌ من الألغاز التي تحلّها لنا المراسلة. يكتب شكري في إحدى رسائله إلى محمد برادة مفصحاً عن حكاية هذا القارض الصغير: “الفأر الذي أتحدث عنه هنا كان يريد أن يكون صديق محمد زفزاف. كنت أسكن منزلا أرضيا في طريق رابليه. كان زفزاف يحبّ النوم في المطبخ الكبير. الفأر يحب أن يلعب الاستغماية فوق زفزاف النائم. ضاق زفزاف بهذه الغميضة. ينهض مرارا صارخا طالبا مني أن أقتله. أمسكت هراوة صغيرة واختبأت له في ركن من المبطخ والنعاس يغلبني. زفزاف نائم وعلى وجهه فوطة. ظهر الفأر الصغير محدقا فيّ بلا خوف. لم أستطع قتله. شيء نحيل! كان جميلا ومسكينا. لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك! فقد كفّ عن المجيء... ربما أدركته حكمة الفئران”.
حكمة الفئران تلك أدرت شكري نفسه في واقع الأمر، وجعلته يتراجع شيئا فشيئا نحو خلوته الختامية، دون أن يفقد دعابة روحه وحركاته البهلوانية الفريدة. في مكان ما، كما لو كانت رسالة مرميّة في عرض محيط دافئ، يكتب زفزاف عن/إلى شكري: “وقال لي إن في بلادنا كُتابا كبارا، وله واحد منهم صديق مشهور في العالم اسمه محمد شكري، يعيش في طنجة. أنا أريد أن أراه قبل أن أموت وسألته هل كتب شيئا مثل سوناتا تولستوي، قال نعم. وحياته غريبة، يبلغ الخمسين ولم يتزوج، يفطر بنصف زجاجة ويسكي وعندما يسكر تأتيه رغبة في خنق النساء”. إنّ هذا المقطع لا يعني المراسلة في محتواها الصرف، بيد أنه يُجسّد القول المفقود لساعي بريد الصداقة الكتومة، الطيف الحاضر/الغائب، بين المتن والهامش. إنّه محمّد زفزاف، الثعلب الذي يظهر ويختفي، والواقف بين شكري وبرّادة، على تخوم الرسالة والبطاقة.
الرسالة والبطاقة
يشتمل كتاب المراسلة بين محمّد برّادة ومحمد شكري، في صيغتيه العربية والفرنسية، على بطائق بريدية، إرساليّات عارية استأثر برّادة وضعها في نهاية المنشور، مع تبويب خاص، كأنها “خارج النص”. في الإشارة التي جعل منها برّادة تمهيداً لـ"ورد ورماد"، يحصر المراسلة بين عامي 1975 و1994، مع أنّ آخر بطاقة بريدية يحتويها الكتاب تعود إلى الثامن من سبتمبر 1997. هكذا قد تبدو البطاقة البريدية “أقل شأناً” من الرسالة، في نظر برّادة، وربما نقيضة لها حتى. هل كان برّادة يضع البطاقة البريدية داخل الظرف قبل أن يحملها إلى البوسطة؟ أم جعلها ورقة طائشة، لا سرّ فيها، تشهدها وتشهد عليها الأبصار الشاخصة؟
يكتب برادة على ظهر بطاقة بريدية مؤرخة بـ10 يناير 1976: “تمتّعتُ بقراءة رسائلك البسيطة والمعبرة في آن. لعل هذه التجربة تساعدك على تغيير بعض ما تكشّف لك خواؤه... وتبقى الكتابة بالنسبة لك شيئاً أساسياً في هذا العالم”. في محتوى البطاقة ذاتها، يأمل برادة لقاء شكري في القريب، ويُعبّر له عن شوقه، لكنه، وهو يكتب على ظهر البطاقة المرسلة من الرباط، ونحن لا نعرف محتواها البصري، يعتذر عنها باعتبارها “رسالة ناشفة”. هكذا يعود إلى تسمية البطاقة بالرسالة ويصفها بالنشوف. الناشف في القاموس هو اليابس والجاف، وتقترض العامية المغربية ذات المعنى للدلالة على العوز. كذلك تكون البطاقة البريدية ملاذ المستعجل كلّما ُفُرض اقتصاد الكتابة وتزاحمت الخطابات والمكاتيب والظنون.
من لاهاي، أواسط آب/ أغسطس 1993، وعلى ظهر بطاقة بريدية (مرّة أخرى)، يقترح برّادة على شكري التفكير في موضوع نشر الرسائل المتبادلة بينهما. يكتب: “أرجو أن تفكر في موضوع نشر الرسائل المتبادلة بيننا، لكنها تحتاج إلى مراجعة وإعداد. يمكنك تصوير الرسائل التي بعثتها لك وترسلها لي، وسأفعل نفس الشيء. وفي نفس الوقت يمكن أن نضيف رسائل أخرى نكتبها الآن. سأحاول من جهتي، وكذلك من جهتك. آمل ألا ينهك الصيف قِواكَ وأن تستريح قليلاً...”. هكذا يُنقذ مآل الرسائل المكسوّة بعراء البطاقة المكشوفة، ثم يلوم شكري على نسيانه إرسال بطاقة بريدية أثناء زيارته لباريس (30 ديسمبر 1994)، ويتمنى له سنة جديدة مليئة بالعمل والاستقرار والانتظام في الأكل والشرب...
في النهاية، يبقى هذا المتن الرسائلي الأثر الحارق لذاكرة تقترب منّا كلما ابتعدنا عنها في الزمن، وقد تكون البطائق البريدية المجتمعة بين ثناياه، المتخفية في التواريخ والفضاءات، بلوّرته المشجعة التي تحتاج توقّفاً طويلاً عندما ستسمح المادة الأرشيفية بظهور ما تحويه من عناصر بصرية. ماذا لو تكشّفت على إحداها صورة لموقع شالّة بالرباط، تعلو أسواره أعشاش اللّقالق المهاجرة من العاصمة إلى طنجة، قبل أن تقطع البوغاز بلا رجعة؟ وماذا لو أنّ برّادة قد جعل منها غلاف هذه المراسلة المتلألئة والشجنة؟ لابد أنّ هذه المراسلة كانت ستنتهي حينئذ إلى كارت كُتب على ظهره: لابُدّ مما ليس منه بد...
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.