حديد، نحاس، بطاريّات فيلم للسينمائي اللبناني وسام شرف

, بقلم Hafid Aitkakl (webmestre)

يُقدِّم اللبناني وسام شرف، في “حديد، نحاس، بطاريّات” (2022)، شخصيتين مرتبطتين بواقعٍ لبناني، لكنّهما غير حاضرتين في السينما اللبنانية، رغم وجودهما الكثيف والفاعل في البلد واجتماعه واقتصاده، وفي تفكير أناسٍ كثيرين وسلوكهم. لاجئ سوريّ يُغرَم بعاملة منزلية إثيوبية، تعمل في بيت زوجين عجوزين لبنانيين. حبٌّ مليء بانفعالاتٍ جميلة، ولقاءات كثيرة، بعضها سريع لضيق الوقت والأمكنة. حبٌّ شفّاف وصادق، رغم معاناةٍ متأتية من عنصرية لبنانية، تزداد عاماً تلو آخر، إزاء أناسٍ من جنسيات غير لبنانية، لهم/لهنّ -إجمالاً- أفضالٌ عدّة على لبنانيين/لبنانيات كثيرين.

لكنّ الروائيّ الطويل الثاني لوسام شرف، بعد “من السماء” (2016)، غير معنيّ فقط بمعاينةِ تفكيرٍ وسلوك لبنانيَّين، ينضويان في مسألة العلاقة بهذا الآخر، والآخر يكون عربياً (السوري والفلسطيني تحديداً) وغير عربيّ (العاملات المنزليات القادمات من الفيليبين وبنغلادش وسريلانكا وإثيوبيا، مثلاً). فـ"حديد، نحاس، بطاريّات" يتجوّل في مدينةٍ وذاتٍ ومشاعر، وبعض هذا مُحمَّل بهذين التفكير والسلوك. النواة الدرامية معقودة على حبٍّ بين فردين غير لبنانيين، يُقيمان - كلّ واحد منهما لسببٍ يختلف عن الآخر - في مدينة مكسورة وممزّقة، وبعض انكسارها وتمزّقاتها نابعٌ من تربية وثقافة وموروثات.

سلاسة السرد تمنح تأمّلاً أهدأ بحدثٍ ومسار وحالة. السوريّ هاربٌ من بلده بعد إصابته بشظايا صاروخٍ، تحوّله (الشظايا) إلى كائن بشريّ مليء بالحديد، إلى درجة تحول دون تمكّنه من بيع عضو من أعضائه لتأمين مالٍ يُعينه على سفرٍ إلى بلدٍ آخر. الإثيوبية تعمل في منزلٍ لبناني، تجهد سيّدته في احتفاظها بمسلكٍ محترم وغير متعالٍ إزاءها، ويغرق سيّده في عالمه الخاص، لإصابته بألزهايمر. شبابٌ في المدينة يضربون اللاجئ لأنّه سوريّ، ولافتة مرفوعة في شارعٍ تفرض على “التابعية السورية” عدم التجوّل ساعاتٍ طويلة في الليل.

لأحمد (زياد جلّاد) أمٌّ (كارول عبّود) مُقيمة في مخيّم للاجئين السوريين، في منطقة لبنانية قريبة من الحدود السورية. والده مقتولٌ في الحرب السورية. مهديّة (كلارا كوتوري) غير مرتاحة كثيراً في منزل ليلى (دارينا الجندي) وإبراهيم (رفعت طربيه)، رغم المعاملة الحسنة، باستثناء اعتداءات متكرّرة لإبراهيم عليها، متقمّصاً شخصية فرانكنشتاين، التي يُشاهدها مراراً على شاشة التلفزيون (اعتداءات غير مؤذية جسدياً، بل معنوياً ونفسياً، فالمرض شديدُ الوطأة عليه، وانفصاله عن الواقع قاسٍ). هذا لن يُبعِدها عنه، ففي لحظاتٍ، تُظهِر مهديّة كمّاً حلواً من الحنان والحبّ لإبراهيم. الابن فادي (وسام شرف) يزور والديه ذات مرّة، برفقة عاملة منزلية بنغلادشية تُدعى “كُسُومّة” (شتيمةٌ معروفةٌ)، لمساعدة ليلى ومهديّة، لكنّ الأخيرة غير راضيةٍ، ما يحرّضها على الهربِ، وهذا حاصلٌ مع أحمد.

ديفيد بيكهام: مثال أعلى لشخصية سينمائية (شون باتريل/Allsport/Getty)
موقف
بيروت عشية “كأس العالم الـ22”: عتمةٌ تنتظر ضوءَ ملعبٍ أخضر

تفاصيل تحدث في سياقٍ درامي (سيناريو واقتباس وحوار: وسام شرف ومارييت ديزير وهالا دَبَجي، عن فكرةٍ أصلية لشرف ودَبَجي)، مبسّطٌ سرده وتصويره (مارتن ريت)، تكشف معاناة الحبيبين في يومياتهما، والمعاناة متنوّعة المصادر، فاللجوء السوريّ إلى لبنان، بسبب الحرب، يزيد من حدّة الرفض اللبناني شبه العام، مع ما يحمله الرفض من كرهٍ ونفورٍ وتشاوفٍ، ومن اعتداءات جسدية أيضاً. والعمل في المنازل مُسيطَر عليه بقواعد غير إنسانيّة وغير بشريّة. الحبّ قادرٌ على حمايةٍ لهما، وإنْ كانت مؤقّتة. لكنّه غير نافعٍ في تأمين شرطٍ إنساني وأخلاقي لحياة عادية وسوية.

إحدى ميزات “حديد، نحاس، بطاريّات” متمثّلة بمعاينة يوميات شخصين غير لبنانيين، مُقيمين في بلدٍ منهارٍ ومعطوب، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً وأخلاقياً. شخصان لا تزال السينما الروائية في لبنان غير مهتمّةٍ بهما إلّا نادراً (هناك شخصية سورية أساسية في “محبس”، 2017، لصوفي بطرس، والعاملات المنزليات ذوات الجنسيات المختلفة يحضرن في أفلامٍ وثائقية، تُفكّك أحوالهنّ اللبنانية ووقائع عيشهنّ في البلد).

ميزة أخرى تبرز في عدم المبالغة في تقديم الشخصيتين، رغم أنّهما أساسيتان في النصّ السينمائيّ، الملتزم واقعيةً في الاشتغال عليهما، وعلى ما يُحيط بهما من مصاعب ونظراتٍ وتعاملٍ. والنصّ، إذْ يمنح الشخصيتين مساحةً كبيرة، يتسلّل عبرهما ومعهما إلى مسام بلدٍ واجتماعٍ وأفرادٍ، من دون إدانةٍ رغم قسوة التصرّف، ومن دون أحكامٍ رغم أضرارٍ يُنتجها التصرّف.

يختار النصّ لحظاتٍ ومواقف محدّدة، مُصوّراً إياها بمزيجٍ من سخرية مخفّفة، وكاريكاتوريةٍ محبَّبة، وكوميديةٍ غير تهريجيةٍ: الصحافية الأجنبية في كيفية تعاملها مع ما يجري في البلد؛ مندوب الأمم المتحدة وخطابه عن أهمية التمسّك بالأمل أمام لاجئين/لاجئات. هناك أيضاً أغنية “أعطونا الطفولة” (تأليف موسيقي: رينيه بندلي، كلمات: هدى صيداوي وجورج يمّين ولينا أبو رستم. غناء: ريمي بندلي)، التي يُردّدها أطفال المخيم أمام المندوب نفسه، والأغنية مشهورة منذ إنشادها في احتفال دولي في القصر الجمهوري، زمن الرئيس أمين الجميّل.

السلاسة البصرية نافعةٌ، لإتاحتها متابعة هادئة لأحداثٍ، يُفترض بها أنْ تمسّ الفرد والجماعة في لبنان. انتقادُ سلوكٍ ونظرةٍ لبنانيين غير مباشر، لاكتفاء وسام شرف بقول بصري واضح وصادق عن واقع ومأزق. إدارته التمثيل غير مُدّعيةٍ وغير متصنّعة، ومحترفوه يتساوون، بأدائهم، مع غير المحترفين، إلى حدّ مُثير للانتباه والمتعة.

المصدر:
جريدة العربي الجديد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)