«تغريبة القافر» رواية العماني زهران القاسمي: تناغمٌ وارتقاءٌ فاتن لالتقاط الماء

, بقلم Hafid Aitkakl (webmestre)

تكاد دِقّة التقاط المكان أو الزمان أو الحدث أو الشخصية أن تكون العامل الأهمّ في صنع الرواية الناجحة بأيدي الروائيين الموهوبين المَهَرة، حيث تلتقي في هذه الدقة وتتناغم العناصر التي تَحدُث في ملتقاها التغيّرات، وتُشكّلُ المرآةَ التي يجد فيها القارئ نفسَه، متفاعلاً ومتغيّراً دون حسبانٍ لطبيعة الزمان والمكان والحدث والشخصية. وأن يتخطّى التناغم حدودَ التلاقي ليكون هو التلاقي نفسُه، أي أن تكون الرواية هي الرواية التي تتحدث كذلك، فهذا تألّقٌ يدفع الرواية إلى أخذ مكانها في تاريخ الرواية، ويستدعي حصولها على التقدير إن حالفها حظ التقاطها، مثلما حدث من التقاطٍ أو قفرٍ لرواية العماني زهران القاسمي «تغريبةُ القافر»، من قبل الجائزة العالمية للرواية العربية عن هذه السنة 2023. وقد تخطّت دقةَ قفرها شخصيةَ قافر الماء في بلد حياته وموته الماء، إلى تناغمٍ أخّاذ يتخطّى حدودَ التلاقي ليكون القفر الذي يتحدّث عن القفر نفسه، ويتجلّى بتناغم مرآتيٍّ للإنسان مع الطبيعة والبشر تآلفاً وتنابذاً، صراعاً وسلاماً، كراهيةً وحباً، وموتاً وحياةً في آن واحد:
«تتالت الضربات، وتحوّل جسدُه كله إلى يدين لا همَّ لهما إلا ضرب ذلك الجبل الجاثم أمامه كأنه يضربُ كلَّ ما عاشه مذْ كان طفلاً، يهوي بالمطرقة على سجنه، على غيابه، على اليأس من مغادرته تلك العتمة، على شوقه الجارف إلى زوجته، على الهدير الذي يصُمّ أذنيه ويمنعُه من سماع أيِّ شيءٍ سواه، على العزلة التي تمتدّ وتمتدّ، وعلى الفكرة التي لا يرغب في مواجهتها… لم يكن يعلم أن جسدَ الصخرة يتداعى أمامه، كان غائباً في غضبه، متّحداً مع مطرقته في هدم كل الجدران التي واجهته، وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطش…/ تداعتْ الصخرةُ أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كلَّ شيء».
وكما في تقفّي أثر صوت الماء السجين خلف الصخور، كمحور يتشابك مع فكرة الصوفية الكمومية، والرواية تشير إلى ذلك، في أنكَ لن تدرك الكون إلا بأن تكون ذاتك الكون. يمكن للقارئ الذي يتحول قافراً أثرَ الماء في أن يسمع صوتَ أسلوب القاسمي في صناعة هذه الرواية المدهشة بتخطيها للتناغم إلى محاولة أن تكون التناغم نفسه، فيسمع البساطة أولاً في انسياب بنية الرواية كما الماء، 12 فصلاً تتوالى بسرد الراوي العليم، بدءاً من ولادة بطلها القافر سالم بن عبدالله من قلب الموت، إلى نهايته المفتوحة على الحياة إذا أراد القارئ وهو ما سيريده لها ذلك، في تخلّل آسر لحياة الإنسان المتداخلة بحياة الجماعة والطبيعة صراعاً وسلاماً. كذلك نسمع صوتَ المحرّمات القاتلة بأوهام وخداع فتاوى المصالح، وصوتَ ردّ فعل الناس والنساء بخاصة في الإصرار على الحياة: «وفي خضم النزاع القائم، وغفلة الناس، سحبت كاذية بنت غانم سكيناً من حزام أحد الحاضرين، ورفعت ثوب الغريقة، وشقت بطنها ثم أدخلت يديها لتخرج الطفل من الرحم، وما إن قطعت حبل المشيمة ورفعت الطفل كما تفعل أي قابلةٍ متمرسة، حتى سمع الجميع بكاءه./ وعندما انتبه الناس إلى بكاء الرضيع التفتوا إلى مصدر الصوت مندهشين، فابتسمتْ في وجوههم، ابتسمتْ وسط الفجيعة ورددت وقد ملأت الدموعُ عينيها: «محلاه… صلاة محمد السلام… يُخرج الحيّ من الميت، يُخرج الحيّ من الميت، يُخرج الحيّ من الميت».
وكما الماء كذلك الذي ينتظر تحريره نبعاً، يعيش القارئ الشَّغوف أسلوبَ هذا التحرير المنساب منذ بداية افتتاح الرواية إلى نهايتها، أسلوبَ القاسمي في تحريك المكان عند حدوث حادث يهزّ سكونَه، بجملٍ مشهديّةٍ أشبه برشقاتٍ سينمائية تتكامل لتكوّن الصورة العامة للمشهد. ويعيش في هذا عرضَ القاسميّ للحدث من عدة زوايا يُبلوِر من خلالها شخصياته كما لو كانت في مرايا، مثل بَلْورته لجزءٍ من شخصية زوج الغريقة عبد الله بن جْميّل، وردّ فعله على غرقِ زوجته، بعد أن سردَ إخراجها ودفْنَها وإخراج جنينها من زاوية تفاعل أهل القرية مع الحدث، معيداً بذلك الحدثَ من زاوية زوجها، حيث: «كان مع الناس جسداً ماثلاً مثل أجسادهم، أما قلبه وروحه ففي مكان آخر. كأنّ زوجته قد تبدّت له وحده عندما غابت عن الدنيا، فأخذتْه من العالم كلّه، جاءته بكامل زينتها وسحبته من ذلك الجمع حول البئر، وأخذتْه إلى وديان خضراء تجري فيها الينابيع منبثقةً من صخور الجبال».
ومثل فعله كذلك في سحب شخصية آسيا مرضعةُ الطفل، وفعله الأخّاذ في بلْوَرة شخصية زوجة القافر نصرا خلال غيابه داخل الأرض التي شيع أنّها ابتلعته وقتلته، ومماثلةِ إصرار هذه الزوجة المُحبّة على انتظاره مع انتظار بينيلوبي لأوليس، بخصوصيةٍ آسرة يعبّر فيها القاسمي عن إغناء روايته بالتراث الإنساني، وتقوم فيها نصرا بجزّ صوف أغنامها طالبةً من أهلها انتظار انتهاء غزْلها للصوف كي تتزوج بآخر.
ويعيش القارئ شاعريّةَ الرواية بتناغم حياة أبطالها مع شاعريةِ المكان الذي تتخلله الطبيعة نابضةً بكل ما فيها من كائنات، بالتحامٍ مع حياة إنسانها إلى درجة أنسنة الجماد والأشياء: «في صباح اليوم التالي كانت السماءُ صافيةً لا يشوّش زرقتَها سحابٌ، إلا أنّ ريحاً جنوبيةً باردةً قابلت المُصلّين عند خروجهم من المسجد ومشتْ معهم في أزقّة الحواري».
كما يعيش فتنةَ الواقعية السحرية بنبض التراث العماني الحافل بقصص الجنّ، ومداخلةَ القاسمي الخاصة المتناغمة له في سير وتطور أحداث روايته وشخصياته، كما يفعل بشخصية الطفل سلام بن عامور الوعري، الذي تشكّ والدته أنه ابن الجن بعينيه الناريتين وأكله كل ما يقدم له دون شَبع أو أيّ تغير، مستبْدَلاً بولدها الذي احتجزوه، وتحبّه كاذية بعد أن فقد أمه التي حاولت خنقه فقتلها زوجها وغاب، لتقوم كاذيّة بإطعامه.
ويعيش أيضاً تجلّي ثيمة الرواية/ الماء، بجميع أبعادها، حيث كلّ شيء مرتبط ٌبالماء متناغم فيه تنافراً وتآلفاً، صراعاً وسلاماً وموتاً وحياة؛ وحيث يتجلى الماء بذاته روايةً من ماء.
وأكثر من ذلك يعيش القارئ فيض تعاطف إنساني هادئ ومتموج وجارف وفق حالات صعود ونزول إيقاع الرواية الناسج للأحداث وتطورات الشخصيات، في تقدير وإعلاء لقيمة الإنسان مهما كان وضعه الاجتماعي والاقتصادي، بانحياز واضح إلى المهمشين والمظلومين والفقراء، ورفع مكانتهم إلى صنّاع للحياة رغم سرقة حياتهم من المحتالين الظالمين الفاسدين، مع ارتقاء هذا التعاطف إلى التقدير العالي للأنوثة الكونية وأمومة النساء لأزواجهنّ وحنانهنّ وتسامحهنّ، كما يفعل في شخصية آسيا وإنقاذها لزوجها إبراهيم بن مهدي رغم هجره الظالم لها، حيث: «دلّلته مثل طفل، كانت تغسله وتطعمه، وتلعب معه لعبةَ الرضى والغضب، إلى أن اكتملت صحته وعادت إليه عافيته، فصارت تسمح له بالذهاب إلى الفلج، وتمشي وراءه حتى إذا جلس كما تعوّدَ تبدأ في تدليك جسده واستثارة أماكنه الحساسة./ في ليلة من الليالي شعرتْ بجسده يلتصق بها، ويديه تبحثان عن كنوزها المستورة، ففاح عطرُها وسافر مع نسيم الليل. وبعد أن تعانقا ساعاتٍ بدأت تبكي وتبكي، واستمرت على تلك الحال، تسكب دموعَها على صدره حتى نامت».
وكما الماء في جريانه كذلك، يعيش قارئ القاسمي أسلوبَه في التشويق الذي يحبس الأنفاس داخل ماء، بتصوير الإصرار على الحلم من خلال معاندة القافر وتحدّيه الجميعَ في محاولة تفجير صخرة صمّاء يحلم أنها تحجز الماء، بإزميلٍ كليل، بعد نقطة فاصلةٍ تهدأ معها الرواية بزواج القافر وموت أبيه عبد الله وكاذيّة التي أخرجتْه من الموت وربته. عندها يبدأ القاسمي بضخّ تشويقه من خلال إصرار القافر على حلم مستحيلٍ بشقّ الصخرة المستحيلة، وترقّب الناس ومتابعتهم بالسخرية من ذلك، ووضع القافر بعدها أمام خيارين أحلاهما مرّ:ُ تغريبته عن نصرا وغيابه داخل الأرض وصراعه الوجودي الأخاذ الحابس للأنفاس مع حبس أنفاسه للخروج، حتى مقاربةِ انتهاء الأنفاس بأمل غزْل نصرا خيوطَ نسيجها الذي ينسج القاسمي من خلال زاويته، بدراسة مشوّقة متداخلة مع حياة القافر باكتشاف الماء حياةَ قنوات ماء عُمان المسمّاة بالأفلاج والممتدة في التاريخ إلى الأسطورة بشقّها وهندستها من قبل جنّ سليمان.
كما ينسج قصَّة حبّ شفافةٍ تُؤلِّق الرواية الشاعرية بشاعرية الحبّ: «كانت تقضي جُلّ وقتها أمام المغزل، وعيناها لا تريان سوى تلك الخيوط النازلة إلى الأسفل، وذلك الدوران البطيء لمغزلها. تغزل الصوف، وتحوم بروحها حول كل خيط من خيوطه. تُسمّي الخيوط بأسماء أفلاجٍ دخلها سالم بن عبد الله القافر ذات يوم وعمل بساعديه في البحث عن منابع مياهها. سمّت الخيط الأول السمدي، وتذكرت ذلك الفلج الذي حكى لها زوجها عن مياهه النابعة من أقاصي الجبال».
ويوصل القاسمي تشويقَه إلى فصل النهاية التي لم تكن نهاية أكثر منها انفتاحاً على الحياة بعد صراع مرير مع عتمة الموت، وانبجاساً لماء الرواية الذي يجرفها إلى حقول إنبات شغف القارئ وأحلام الروايات بالحياة.
زهران القاسمي، شاعر وروائي عماني من مواليد 1974، أصدر عشر مجموعات شعرية وأربع روايات، ونصوصاً وحكايات قروية.

زهران القاسمي: «تغريبة القافر»
منشورات مسكلياني، تونس، والشارقة 2022
228 صفحة.

المصدر:

https://www.alquds.co.uk

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)