قراءات

مذكرات امرأة شيعية، رجاء نعمة (لبنان)، سيرة روائية Liban - Roman

, بقلم محمد بكري


 جريدة الأخبار اللبنانية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ١٩٦٢ الجمعة ٢٢ آذار/مارس ٢٠١٣
جريدة الأخبار
ادب وفنون


الجنوب إمرأة من أليسار إلى رجاء نعمة


ي جوّ يزخر بالتأريخ، يغطي «مذكّرات امرأة شيعيّة» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) حقبة الاحتلال العثماني حتى اليوم. ترصد الكاتبة اللبنانية التحوّلات التي طرأت على مدينة صور من خلال سيرة روائية وتقف عند مشهد الأزياء الذي يحاكي المشهد السياسي الراهن حيث «دول الأقطاب تصدّر العري، ودول الأطراف تصدّر الحجاب».

رامي طويل

«امرأة تشبه نساءً كثيرات من جيلها في لبنان، عاشت السنوات الأولى من حياتها في المدينة التي ولدت فيها، تشرّبت منذ طفولتها روح العدل، وتبنّت اليسار رؤية، والعروبة هويّة. لكنّها ورثت أيضاً التناقضات: عن مدينتها المحافظة، ورثت ثورة سياسيّة لم تنقطع، وقلّ أن كان لها نظير، وعن أسرتها التي تفوق المدينة محافظةً، ورثت جرأة في التفكير، ومراساً في إعادة النّظر في الأحكام المسبقة». بهذه العبارات تصف الكاتبة والروائية اللبنانيّة رجاء نعمة نفسها في كتابها الجديد «مذكّرات امرأة شيعيّة» الصّادر عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت. من سؤال قد يبدو عابراً للوهلة الأولى، تبدأ حكاية الكتاب. تسأل كاترين الآتية من أوروبا إلى اليمن صديقتها رجاء بكثير من الدّهشة حين تخبرها الأخيرة بأنّها مسلمة: «معقول؟! لأيّ المذاهب الإسلاميّة ترجع أصولك؟».

يفتح السؤال بوابة من التداعيات تمتدّ إلى آلاف السنين حيث خرجت أليسار الملكة الفينيقية من ساحل لبنان إلى الساحل الجنوبي للبحر المتوسّط لتنشئ مملكة قرطاج وتنشر الأبجدية، وحيث تنكّر الإله زوس بهيئة ثور ليخطف أوروبا من فينيقيا إلى قارات بعيدة، فيلحق به شقيقها قدموس بغية استردادها لتكون رحلته بوابّة لتغيير وجه التّاريخ، «ولعلّه من ضروب المصادفات أن آتي أنا من مسقط رأسها صور، وأنت من قلب أوروبا لنتابع المهمّة التي بدأتها الجدّة العظيمة تلك». تقول رجاء لصديقتها كاترين، فتبدأ سرد حكاية مدينتها صور بلغة أدبيّة يختلط فيها السّرد الروائيّ بالسّيرة الذاتية، ما يفسّر وسم غلاف الكتاب بـ«سيرة روائيّة».

تبدأ رحلة الذكريات من أواسط القرن التّاسع عشر حيث الجدّ الشيعي عبد الله نعمة يؤوي في بيته في قرية حبّوش في الجنوب اللبناني عدداً من المسيحيين الموارنة الهاربين من الحرب الطائفيّة بين الدروز والمسيحيين. وإذ يخشى عليهم، يرسلهم برفقة بعض أبنائه للجوء إلى مدينة صور حيث سيطيب المقام فيها للأبناء لتكون مدينتهم.

صور المدينة الوادعة، المتنوّعة ديموغرافيّاً، المتسامحة، والمتكئة على إرث تاريخيّ حضاريّ تمتدّ جذوره إلى آلاف السنين التي تتفاعل مع محيطها، ومع ما يجري في العالم كمدينة حيّة، يصيبها من تغيير ما يصيب العالم. نعيش مع الكتاب في جوّ روائيّ يزخر بالتأريخ، والوصف، والتّحليل، من حقبة الاحتلال العثمانيّ، إلى السفر برلك، وبداية الانفتاح على العالم، والخروج من عباءة التقاليد التي كانت تكبّل المدينة، حيث تبدأ النساء بالتعلّم، ويبدأ رجال المدينة رحلة البحث عن آفاق أخرى عبر السفر، والهجرة، مؤرّخة بذلك للهجرات العربيّة الأولى نحو أميركا، وأفريقيا.

بالإضافة إلى ذلك كلّه، نعايش البيئة التي نشأت فيها الكاتبة في كنف أسرة محافظة، لكنّها تتمتع بذهنيّة منفتحة. كانت بناتها من أوائل المتعلّمات في المدينة، ومن أوائل اللواتي خلعن الحجاب حين كانت المدينة تخلع حجابها أيضاً، وكان عمّها من أوائل المهاجرين إلى أميركا، ولحق به والدها بعد سنوات.

بعيني طفلة صغيرة، تستعيد الكاتبة ذكرياتها عن المدينة عبر سرد روائيّ مشوّق تحمل فيه الشخوص الواقعيّة سحر الشخصيّات الروائية التي تتنقّل بين الصّفحات بطريقة مشهديّة أقرب إلى الدراما، لتروي لنا تبدلات الحياة، وتغيراتها، وقسوتها، ابتداءً من القسوة الاجتماعية النّاجمة عن العادات والتقاليد، وصولاً إلى القسوة السياسيّة جرّاء الاحتلال الذي لم يلبث لبنان أن نفض غباره حتّى عاد إليه بصيغة أكثر وحشيّة عند دخول إسرائيل إليه، ووصولها إلى العاصمة بيروت، بعدما كان لبنان الحاضن الأوّل للنازحين الفلسطينيين. هو البلد المتنوّع الذي كان يذخر آنذاك بالحراك الثقافيّ، والسياسيّ، ويغلي بالأحزاب القوميّة، والعروبيّة، والاشتراكيّة، والعلمانيّة، وحيث تلاشى التمييز على أساس الانتماء الطّائفي لمصلحة التمييز الأيديولوجي (يمين، يسار).
في الجزء المعنون «أزمان وألوان»، تعود الكاتبة إلى السيرة الذّاتية بعيداً عن الأجواء الروائيّة. تروي لنا رحلتها من صور إلى بيروت، ومنها إلى باريس حيث ستكمل دراستها، وتتعرّف إلى العالم عن قرب، هي التي أصبحت كمثقّفة نتاج الفكر النضاليّ، واليساريّ، تحمل معها أفكارها عن التحرّر الإنسانيّ من خلال إيمانها بالقضايا الوطنيّة، وبالقضيّة الفلسطينيّة، وإيمانها بقضايا المرأة ومقاربتها بنحو علميّ مغاير لما هو سائد. يتضح ذلك حين تتحدّث عن عودة ظاهرة الحجاب بعدما تلاشت لفترة من الزمن، مع اختلافات جوهريّة بمضمون الحجاب الجديد حيث تقول: «ليس لعودة الحجاب الذي خلعته «المرأة الجديدة» مغزى واحد، «إيشارب» اليوم دالّ كثيف المعاني، رمز خرجت به النساء في الجنوب، هاتفة في وجه المحتلّ الاسرائيليّ: الله أكبر. وعودته تعبّر بامتياز عن المأزق الحضاريّ السياسيّ الذي يعصف بالبلاد، فيجعلها مهدّدة في قيمها وثقافتها، وكيانها، مشهد الأزياء اليوم يحاكي المشهد السياسيّ لحدّ بعيد، هكذا، دول الأقطاب تصدّر العريّ، ودول الأطراف تصدّر الحجاب».
«مذكّرات امرأة شيعيّة» سيرة روائيّة يمتزج فيها الخاص بالعام، لنكون أمام عمل أدبيّ يحمل في طيّاته الكثير من التأريخ، والقراءة المتأنيّة لواقع سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ أسهم في إنتاج نماذجه الخاصّة، والمتنوعة بناءً على تنوّعه، وانتصر للمرأة في تاريخها النضاليّ بعيداً عن صورتها كجسد تصفه الكاتبة بقولها: «لكم أنت ثمين أيّها الجسد، أغلى ما تملكه المرأة، وعليه لابدّ إمّا من تغطيته كاملاً منعاً للغواية، أو التباهي بعرضه تحقيقاً لها».

وإذا عدنا إلى مقدمة الكتاب والسؤال المحرّض لكتابة هذه المذكّرات «لأي المذاهب الإسلاميّة ترجع أصولك؟»، سنجد الإجابة بين دفّتي الكتاب، بأنّ الإنسان نتاج بيئته، ونتاج تفاعله مع عالم يعيش فيه، ويشكّل جزءاً منه، وإن كانت الذكريات هي فحوى الكتاب، فإنّ السيرة لم تنته؛ لأنّ «الختام ليس من صفات الذكريات، فهذه بحر، لم يكن لك يد في الدخول إليه، كما ليس في طوعك الخروج منه، فالذكريات، وإن كانت لا تعنيك، إلّا انّها ليست ملكك، لا أحد يملكها، وليس في طوعنا سوى الإضافات، إنّها عالم شاءت الأقدار أن يكون لنا فيه مرقد، أن نتسلّم فيه مكنونات من جاء قبلنا، ريثما نسلّم».

عن موقع جريدة الأخبار


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


 جريدة الحياة اللبنانية


جريدة الحياة


الأربعاء ٢٠ مارس/آذار ٢٠١٣
جريدة الحياة
مايا الحاج


مذكرات امرأة شيعية" تخترق الأنواع رجاء نعمة تكتب عصر امرأة... لا سيرتها"


بعد الفراغ من قراءة كتاب الروائية رجاء نعمة الأخير، تختلط على القارئ التسميات والمفاهيم. هل هي مذكرات؟ رواية شخصية؟ سيرة روائية؟... لكنّه لا يلبث أن يرضخ للنوع الذي يقترحه عنوان الكتاب اللافت: «مذكرّات امرأة شيعية» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر).

ليس مرجحاً أن تكون رجاء نعمة وضعت مذكراتها هذه بمحض صدفة. ولا تحت تأثير ظرف من الظروف المستجدة. بل على الأرجح، أنّها حسَمَت قرارها قبل سنوات طويلة. ولكأنّها خبّأت هذه الفكرة في الطبقات السُفلى من الذاكرة، إلى أن مضت الاعوام وتراكمت التجربة وتهيّأت الأسباب لخروج هذه المذكرات من عتمتها. ولا تكشف رجاء نعمة، في أيٍّ من فصول هذه المذكرات، الهدف من وراء كتابتها. بل إنّها تترك للقارئ فرصة أن يستشفّ الأمر وحده، في فصل من أروع فصول الكتاب «أن تحلم بلقائها». وفيه تحكي نعمة تفاصيل لقائها بكاتبتها المفضلّة سيمون دو بوفوار - صدفةً - في إحدى مكتبات باريس. فهي بعدما تأكدّت من أنّ تلك المرأة هي نفسها الكاتبة التي تنشر صورها على أغلفة كتبها، بادرت إلى مصافحتها وأخبرتها أنّها قرأت كلّ أعمالها. ولمّا سألتها دوبوفوار عمّا وجدته الأفضل، أجابت بصراحة ومن دون تردّد: «الثلاثية» (مذكراتها). إلاّ أنّ الشابة رجاء فكرت - بعد هذا اللقاء - في جوابها الذي قد لا يرضي روائية اجتهدت كثيراً في الفنّ الروائي. لكنّها برّرت لنفسها هذا الجواب قائلة: «بين مذكرات (سيمون دو بوفوار) لا تقرأ حياة امرأة، بل عصراً بكامله. ترافق مسيرة كاتبة بدأت تكتب في ثلاثينياته، عايشت تقلباته ونهوضه وآلامه، وغدت من صانعيه» (ص293).

في مذكراتها التي صدرت حديثاً بطبعتها الثانية (بعد النفاد السريع للطبعة الاولى)، تحذو رجاء نعمة حذو صاحبة «مذكرات امرأة عاقلة»، فتكتب عن تاريخ عصر عرفته وعاشته أكثر ممّا تكتب عن نفسها.

تختار الكاتبة أن تُقدّم نظرة توليفية للأحداث التي تُعيد ترتيبها بما يوافق رغبتها. وبدلاً من أن تسبر ذاتها، كما يحصل عادة في «الأدب الذاتي»، تستذكر عصراً بكامله، من خلال عرض الوقائع المهمة التي طبعت حياتها. فلا يقتصر اهتمامها على الأنا «الخاصة»، بل إنّها تصرف اهتمامها نحو «العام»، ليمتزج «الوجه التاريخي» بالوجه «الشخصي».

لا تعتمد رجاء نعمة الأسلوب التقليدي في السرد، ولا تتقيّد بالترتيب الزمني للأحداث، وإنما تعرضها كقصص متفرّقة بعناوين وشخوص ووقائع مختلفة. ويبقى «المكان» بمثابة الخلفية التي تتكأ عليها الكاتبة في سردها. وهذه التقنية هي أبرز ما يُميز «مذكرات امرأة شيعية»، لكونها وضعت قصص التذكّر الشخصي في الوسط بين التاريخ والأدب.

الاسم «اللاطائفي»

يعكس عنوان الكتاب «مذكرات امرأة شيعية» لفتة ذكية من الكاتبة. فهو يحمل مجاهرة علنية بطبيعة الهوية الدينية والمذهبية، في وقت يشهد فيه لبنان والعالم العربي تغيرّات أو بالأحرى انقسامات حادّة تُعيدنا جميعاً، ليس إلى طوائفنا فحسب، وإنما إلى مذاهبنا ومناطقيّتنا. فالمسلم هو إمّا سنّي أو شيعي. والأقليّات المسيحية في العراق ومصر وسورية ولبنان تزيد في تقوقعها على ذواتها، وسط هذا الانشطار الذي يعيشه المحيط الإسلامي الكبير.

رجاء نعمة، التي اختار لها والدها اسماً «يموّه الطائفة»، اكتشفت في وقت من الأوقات أنّ اسمها يُشكّل إرباكاً بالنسبة إلى كثيرين، ممّن كان هاجسهم «معرفة الأصول». ولمّا كان الإسم المموّه يحول دون التكهّن بالطائفة، كانوا يلجأون إلى «المعلوم الجغرافي» علّه يُلقي ضوءاً على «المجهول الديني».

لكنّ صاحبة «كانت المدن ملوّنة» لا تترك قارئها الفضولي متحرّقاً لمعرفة أصولها، فهي تجاهر منذ البداية بـ «شيعيتها» وبانتمائها إلى منطقة صور الجنوبية. هكذا تروي إبنة جبل عامل تاريخ عائلتها، وكيفية تشكّل وعيها الطفولي في بيئة جنوبية (شيعية)، قبل أن تتلقّى صدمتها المعرفية الأولى في الصفّ: «قالت المدرّسة إنّ المسلمين في العالم أقليّة مقابلةً بالمسيحيين» (ص18)، لتتضخّم تلك الصدمة في الانتقال من مدرستها في صور - ذات الغالبية الشيعية - إلى مدرسة الراهبات الداخلية في الأشرفية (المسيحية)، ومن ثمّ في سفرها إلى فرنسا - قلب أوروبا النابض - لاستكمال إعداد الدكتوراه في إحدى جامعاتها.

فصلاً بعد فصل، يتبيّن أنّ هذا الانتماء المذهبي الذي تُعلنه الكاتبة في العنوان «مذكرّات امرأة شيعية»، ما هو إلاّ إبراز للهوية التي تجاهلتها ونسيتها في شبابها بعدما عاشت في حقبة يسارية وقومية لم يعرف مثلها لبنان.

تتميّز الشخصيات النسائية التي تعرضها نعمة في هذا الكتاب بصلابتها وتمرّدها. نساء مدينتها الجنوبية اللواتي كنّ يتدثرنّ بالسواد من الرأس حتى الكاحل، هنّ اللواتي تجرأن على السير في شوارع صور العريضة «كاشفات في عزّ النهار». وبعدما كانت تُمنع الفتيات من دخول المدرسة وإكمال تعلميهن، خوفاً من «المكاتبة» (مراسلة العشاق)، بتن يدخلن المدارس ويُحصّلن تعليمهن حتى المرحلة الجامعية. ومع بداية الستينات من القرن الماضي، اختفى الحجاب، أو كاد، (وفق تعبير الكاتبة)، وصارت «الغلالة» (الزيّ الأسود القديم) مجرّد ذكرى تُصادفها في «صور الأرشيف». فاستبدلت الشابات الإيشارب بـ «الميني جوب» والكمّ الطويل بـ «الجابونيز».

وتقول الكاتبة: «خُيّل لنا أنّ ما حدث كان بلا رجعة» (ص203)، لتُصدم - بعد رجوعها إلى وطنها - بأنّ الفتيات عُدن إلى ما كنّ عليه قبل عشرين عاماً. علماً أنّ حجابهن أخذ شكلاً آخر، بمعنى أنّه لم يعد عُرفاً أخلاقياً واجتماعياً بقدر ما أصبح رمزاً سياسياً، نتج من انخراط النساء في الحياة العامّة وفي النضال السياسي في صفوف أحزاب إسلامية - شيعية قاومت ضدّ إسرائيل.

تقف رجاء نعمة في مذكرّاتها عند المحطّات الكبرى في تاريخ عائلتها، ومدينتها، ووطنها، وعروبتها. من نضال الجنوبيين ضد الحكم العثماني، إلى مقاومتهم ضدّ الاستعمار الغربي، فالهجرة نحو العالم الجديد (من خلال شخصيتي وهبي وحميد نعمة)، إلى كسر بعض التقاليد والانخراط الشيعي في الأحزاب اليسارية، مروراً بالنكبة الفلسطينية وما خلّفته من آثار عميقة في قلوب العرب، وصولاً إلى مرحلة الثمانينات وظهور الأحزاب الإسلامية وعودة ظاهرة «الاحتشام» التي ثارت عليها النساء.

من هذه المحطّات تنطلق نعمة لترسم مسار مذكراتها التي تتغنّى بمرحلة ذهبية عاشتها هيَ وشباب جيلها في وطن لا مكان فيه للترهّات. وطن يؤمن بالإنسان قيمة مطلقة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


 هلا صور، حوار مع الكاتبة


موقع هلا صور


موقع هلا صور
أجرت الحوار : عناية جابر


رجاء نعمة : صرعة التعري كصرعة التظلم لا تصنع أدباً


حول لبنان وفلسطين والحياة المعاصرة، تتمحور روايتك، هل توافقين؟

أهم ما يميز حياة جيلنا، لا سيما اليساريين، هو العصر الذي عشناه والذي انعكس على شخصيات هذه المذكرات: شخصيات عنيدة متمردة وجدت في الحداثة فرصة لإشهار العصيان عل» كافة: الحكم العثماني، الاستعمار الغربي، التقاليد، النظام الأبوي وممثلوه.
النساء العاديات، وفي حدود إمكانياتهن، تجرأن أيضاً على التقاليد: «نزعن الحجاب وسرن في الشارع العريض في «صور» المحافظة وفي حواريها «كاشفات في عز النهار»! وسنرى خطيبة المناضل اليساري تمتثل لشرطه بنزع حجابها، إذ لا يعقل أن يسير في الشارع مع امرأة محجبة؟! ماذا سيقول عنه الرفاق؟! «يلزم العروس وقت لتعتاد على رأسها العاري. سيلزمها أن تقص شعرها لتعتاد كشفه».
شخصيات «مذكرات امرأة شيعية» على صورة عصرها ثقافياً وسياسياً على صورة ما نتج عن كبرى محطاته: نكبة فلسطين التي ضربت نفس كل عربي في الصميم. حتى الحاجة فردوس، الخرفة التي تحكي الحكايات بلا تمييز بين واقع ومتخيل، لم تبك في أي من حكاياتها إلا حينما روت كيف طرد «اليهود» الفلسطينيين. حركات التمرد والتغيير كلها قامت على أكتاف فلسطين. على أن لجنوب لبنان، ولمدينة صور تحديداً، خصوصية بالنسبة إلى هذه القضية. فهي أول حضن نزح إليه المهاجرون وفتحت لهم فيها البيوت ثم تعايش الجنوبيون والفلسطينيون واندمجوا معاً في حضن جديد: الحضن الثوري. حضن الأحزاب القومية واليسارية. حين يطغى الحديث اليوم عن الصراع المذهبي السني - الشيعي يتجلى حجم الكارثة والردة التي حصلت في النفوس. وحجم المال الذي أنفق وينفق لهذه الغاية، وحجم التدخل الخارجي.

كيف خطرت لك فكرة المذكرات؟

أظن أن عناصرها كانت تتحضر بحكم التقدم في السن وتراكم التجارب واشتداد التغيرات التي عصفت بلبنان والمنطقة، ووقوع الحرب والدمار بعد الازدهار. في روايتيّ «كانت المدن ملونة» و«حرير صاخب»، أفردت فصولا وحكايات تصور هاتين المرحلتين وتستذكر الماضي. على أن القرار الواعي بكتابة المذكرات جاءني بعد حرب تموز 2006. حيث أصيب الناس بلوثة سني - شيعي. من يعرف أصولي الشيعية يحاول أن يستنطق جديداً من معالم وجهي وتعابيره ومحطات كلامي، أو يقرأ بين السطور بحثاً عن إمكانية وضعي في الإطار الذي «ينبغي أن أوضع فيه. لحالتي خصوصية، فاسمي (رحم الله الوالد) يموه «الانتماء» الذي يبحث الملهوفون عنه. قلت سأكتب مذكراتي وأتحدث عن العصر المجيد الذي عشناه خارج هذه الترهات. أول مرة خطر لي العنوان ضحكت لفكاهة إطاره الأحادي. على أني بعد تأمل وجدته مفيدا لهز الوعي. أن أترك القارئ يكتشف بنفسه أن الأصل المذهبي لأي إنسان لا يقف حائلا دون تمثله الثقافات الأخرى وتمثله التنوير السياسي والفكري والحياتي.

المذكرات نمط مغاير للرواية. عمليا كيف حققت هذا المشروع وما هي صعوباته؟

في البدء واجهتني صعوبات كبرى. فالمذكرات تجر الكاتب إلى السرد. والسرد وحده لا يصنع أدباً. وأنا بطبيعتي «حكائية» أحب القصص. وأحب المشاهد. كنت أكتب وأمزق ثم خطرت لي فكرة: استبدال السرد بالقصص. واستبدال تدفق كلامه بالمشاهد. فهذه وتلك متوفرة في ذاكرتي وذاكرات من حولي. حياتنا عبارة عن قصص ومشاهد. ويبقى السرد العادي أرضية الدراما وحبكته مع خيوط تلك أشبه نسيج البروكار، حيث تظهر تلك وتبطن لحد كبير الموتيفات الثقافية. وجدت أن كثافة هذا النسيج يعزز الدراما حتى لتغدو مأساة «زينة» وقطيعة أمها التي تعبد أكثر عنفاً مما لو لم يفرش السرد العادي لها بالتغيرات التي عصفت بالزمن. الأمر نفسه بالنسبة إلى مأساة «اسبيرانزا» وظاهرة جرائم الشرف. وحكاية مصطفى الأرمني، حيث التمهيد لنكبة فلسطين سردياً، يساهم في مأسوية ما جرى وسيجري لهذا الطفل الضائع.

كتابات «البزنس»

مدينة صور وحضورها الكبير في المذكرات هو الأمر الأبرز لماذا؟

يصعب على كاتب نشأ في صور أن لا يكتب عنها ويجعلها خلفية ما يكتب. كتّاب صور غالبيتهم خرجوا من أمواج بحرها وتقاليدها. صور بالنسبة إلى عباس بيضون مثل «إلسا بالنسبة لأراغون». صور بالنسبة إليه هي بيروت وسائر المدن. إنها «الأولى» ومن ثم سائر المدن. لا غرابة فهي لجهة جغرافيتها فريدة. وحدها من مدن الساحل اللبناني شبه جزيرة. كيفما التفت يطالعك البحر. على أن لهذا الشبه تاريخاً أسطورياً يثري المشهد الجغرافي بربطه بمأساة المدينة الفينيقية، بدرامية الجغرافية، إذا صح التعبير. الشاعر منذر حلاوي أيضاً كان يعشق صور التي أرجعته من البرازيل ليكتب عنها. لصور في كتاباتي حضور ملتبس يتراوح بين تقوقعها القديم وصورتها كمدينة محجبة، وبين انفتاحها الذي بدأ مع رؤية جيلنا النور. كتبنا عن صور ليس فقط تسجيلا وتأريخاً بل ومتخيلا أيضاً. فالمتخيّل الإبداعي طفولي بطبيعته ويتجلّى في قدرته على إعادة تشكيل العناصر الأولى. في حفاظه على الأصل والجوهر يعبث بالحدود: حدود الأزمنة والأمكنة، الميثولوجيا والواقع، إنما ليولّف تلك العناصر في سياق جديد. هكذا تشكلت مدينة «صور» في متخيّل عباس بيضون في قصيدته الشهيرة. وفي متخيل منذر حلاوي. وفي متخيلي أنا.

يرى البعض أن كتابة المذكرات تفترض أن يكشف الكتّاب لا سيما الكاتبات عما هو حميم. ما يسميه «فضح المسكوت عنه». إلى أيّ مدى ذهبت في هذا الأمر؟

هذه تقليعة وصلت إلينا بعد أن استُنفدت في الغرب وبانت ضحالتها الأدبية. على أنها تقليعة مفيدة للباحث في الحقبات الأساسية التي مرت بها الكتابة النسوية في بلاد العرب. في الحقبة الأولى جاءت الكتابة النسوية في كثير من الأحيان أقرب إلى التظلم والشكوى من التقاليد ومن أولي الأمر. والتظلم، إن بدا طبيعيا كردة فعل أولية لمن أتيح له التعبير، إلا أنه للأسف لا يشكل أدبا بالمعنى الفني للكلمة. ولا حتى بالمعنى الفني الإنساني. بل ويشكل مادة لبحث سوسيولوجي غير متعمق أشبه «بدراسة حالة» تتحدث من وجهة نظر أحادية، فنيا وإنسانياً، عن الظلم. والتعاطف مع المظلوم لا يجعل شكواه ترقى إلى الأدب.
حالياً ظهرت تقليعة «فضح المسكوت عنه، فترجمت بما يشبه «البورنو». مؤخراً قرأت مقالة لصحافية ذكية، تقول فيها عن «المذكرات عامة»: إن لم تظهر تلك التعري الذاتي للكاتب، تعري «حتى ورقة التين» أصبحت هذه الكتابات من ضروب «البزنس». بهذا المعنى تكون قد ضربت بشطبة قلم مذكرات كتاب عظام اكتفوا بتصوير عصرهم. البعض يمارس هذا «البزنس» عن إدراك وتخطيط ودور «ريادي». والبعض الآخر يمارسه بنصف وعي، وكثيرون، ينجرفون خشية أن يكونوا خارج «الصورة». طبعاً كلٌ حر في أن يكتب ما يريد، لكن صرعة التعري هي الآن صورة أخرى «للتظلم»، لا تصنع أدباً بل تروج لنفسها عبر ذلك. أو تروج لما وراء ذلك. ما بات مطلوباً في الإعلام اليوم. ولا يخفى قصد طلبه على أحد.

عن موقع هلا صور


لمعرفة المزيد عن موقع هلا صور


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)