غدي الأزرق، ريما بالي (سورية)، رواية دار الآداب - بيروت

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 20-05-2021
المدن - ثقافة
ميسون شقير


"غدي الأرزق".. رواية تعيد اللون إلى أصله



في المسافة بين رمزية جان دارك التي تحضر كتَمرّد انثوي، وبين أخشاب الذكورة وأعواد السياسية التي أحرقت هذه الروح المتمردة وهي لا تزال في التاسعة عشرة من عمرها، وفي المسافة بين غابات الأنوثة الموجوعة من فعل الولادة وبين ذكورة ملح البحر، بين صمت متواطئ مع ظلم “يعسّ” فينا طيلة أربعين عاماً فلا نريد أن نبعد عنه الأقنعة، وبين تمرد قلب وتمرد شعب كامل أطفأه استبداد منظم، وفي المسافة بين دِقّة وحرفية يد النساج، وبين عمق عين الرسام، في منتصف هذه المسافات كلها، تقف ريما بالي في روايتها الثانية “غدي الأزرق”، لتعلن أننا ربما لا نستطيع أن نغيّر من فاجعة الصورة، لكن ربما يمكننا أن نفسرها، و"في التفسير نفسه يكمن التغيير"، كما يقول الناقد جاك رانسبيير.

“غدي الأزرق” عنوان مركب ذكي يحيل إلى السؤال والدهشة اللذين يمثلان سرّ العمل الابداعي، فالغد هو المستقبل القريب والبعيد، وضمير التملك يضفي على هذا الغد خصوصية صاحبه، وملكيته الحصرية، والأزرق هو لعبة اللون الأولى، فهو لون البحر الدهشة السعة اللامتناهية ولون السماء والعلو والامتداد والتحليق، لون الروح حين تعود لذاتها صافية، لون الفضاء ولون الأجنحة المفضل، وهنا تكمن لعبة الروائية التي جعلت القارئ يتقمصها في روايتها منذ قراءة العنوان وجرته من شعر قلبه إلى كشفه.

وغدي في الرواية هو اسم وحيدُ ندى، شخصية الرواية المحورية، وهو الشاب السوري الذي ترك مستنقعات السياسة وعفونة منصب والده الوزير نبيل، زوج ندى، وذهب للعمل متطوعاً مع منظمة الهلال الأحمر في سوريا بعد بدء الحرب التي شنها النظام السوري على حناجر عزلاء في البداية، والتي استغلتها كل قوى الأرض، كي تنهش من لحم كتفها ما تسطيع، غدي في الرواية يترك كل هذا ويمضي للاغاثة ولمساعدة الذين جعلت الطائرات الروسية بيوتهم تنهار فوق أجسادهم وأحلامهم ولا تترك وقتا لطفلة كي تكمل تمشيط شعر دميتها الصغيرة...

غدي هو غد ندى الأم التي بقيت تتأقلم مع زوجها وحب حياتها الأول نبيل الذي وعت عليه واستمرت تحبه وتهابه على الرغم من كل تحكّمه، وانتهازيته، وهو غد سوريا كلها الذي مزقته الطائرات الروسية أثناء محاولاته انقاذ ما بقي، وهو انقطاع الشعرة الأخيرة التي كانت تربط ندى بشخصية زوجها نبيل الذي يمثل شخصية السلطة السورية.

إن لحظة خسارة غدي في الرواية هي لحظة سقوط القناع عن ملامح الزوج الوزير نبيل وعن نظام السلطة في سوريا بأكمله، تقول ريما في الرواية: “قتل غدي وجاؤوا لتقديم واجب العزاء، من دون أن يحقِّق أحد في الحادثة؛ من دون أن يُساءَل أحد؛ من دون أن يعاقَب أحد. صمت الجميع أمام الجثَّة الممزَّقة، وتغاضت ندى عن الصمت المتوقَّع من الجميع، لكنَّها لم تتغاضَ عن صمت زوجها نبيل، ولم تسامح”، نعم بعد أربعين سنةً من معرفة ندى لنبيل، من استلابه لها، من صمتها عن كشف أقنعته التي كانت تحسها لكنها لا تجرؤ بالبوح بها حتى لنفسها، مثلها مثل أي أنثى في الشرق، ومثل أي شعب يعيش تحت حكم المخابرات والعسكر، بعد كل هذه السنوات تكشف الحرب لندى من خلال خسارة غدي وتواطؤ نبيل على دمه، كم كانت مغشوشة به، فتتمرد عليه، وترحل كما رحل شعب كامل إلى بلاد الله الضيقة.

تصل ندى إلى فرنسا محاولة العثور على نفسها، وعلى خلاف معظم الروايات السورية الحديثة التي صدرت بعد الحرب وبعد تجربة النزوح الجماعي القهري وتجربة اللجوء اللتي عاشها السوريون، تؤسس ريما بالي في روايتها لرابط انساني عميق وذكي وشيق يربط آلامها بألام الانسان، مبتعدة عن تكرار ذكر الصدمة الحضارية أو صعوبة التألم أو سردية الفراغ والحنين التي تملأ معظم روايات اللجوء السورية، فبرشاقة وايجابية تجعل قارئها يدخل معها مغامرة فك شيفرة سر التوأم إيڤا ومارتا، المرأتين الاسبانيتين اللتين التقتهما ندى بطلة الرواية، أثناء تطوعها في مركز لمعالجة مصابي مرض الايدز في فرنسا، واللتين لا تتحادثان ولا تجلسان معاً أبداً في المكان نفسه. فتمضي ريما من خلال ندى لاكتشاف لغز هذه العلاقة الغريبة بين امرأتين توأم في عقدهما الخامس فتك الايدز بجسديهما وفتكت ذاكرتهما بروحيهما وبعلاقتهما، وبين سعي ندى للدخول إلى عمق إحداهما، واستراجعها لماضيها الذي لا يتركها، بدت قادرة على البدء من جديد وعلى تجاوزه من دون أن يطل برأسه على لسان الزوج نبيل الذي يهددها برسائل الواتس بأنها اذا لم تعد إلى سوريا وتحضر معه جنازة أمه الضالعة في حزب البعث، يهددها بالوصول اليها وبقتلها، ما بين هذا الماضي السوري ورحلة بحثها عن حقيقية شخصيتي التوأم تسير الرواية بخطى متوازنة ثابتة من دون أن ترهق نفسها بزيادة عدد شخصياتها، ولا بتشعبات لا تخدم ما تريد ربما تماما أن تقوله.

في هذا الطريق نتعرف مع ندى على قصة الرجل الاسباني الاقطاعي الذي استغل غناه واستغل فتاتين صغيرتين تعملان في أرض والده مع عائلتهما، حُرمتا من التعليم بسبب الفقر المادي والمعرفي، وتُركتا تنظفان الكنيسة وتساعدان في قطاف موسم والده الإقطاعي مثلما قطف هو، وبتلاعب خبيث ومستهتر، انوثتيهما وفرحهما، ولعب مثله مثل نبيل زوج ندى على عقدة الأنوثة الضعيفة، الانوثة المسلوبة التي تصل بإحدى الاخوات إلى مساعدته على خطف وحيد اختها التي تمردت على استلاب الشاب والمجتمع لها واكتفت بحلم تربية مولدها الذي يدخل مع غدي ابن ندى في قاع الرمز ذاته وفي الحالتين يسرق المستبد غد الفتيات الثلاثة في الرواية على الرغم من استمرار تحدي ندى لسلطة نبيل.

شخصيات الرواية الأساسية، ندى المحورية وزوجها نبيل السلطوي المنافق والفتاتين التوأمين، المتمردة والأخرى التي ساهمت في كسر قلب وعمر أختها، ولم تسامح نفسها على ذلك، وكان رد فعلها الوحيد لمواجهة فداحة خطئها، هو أن تتبنى تاريخ شخصية أختها القوية والمظلومة، أن تتقمص ما كان ينقصها دائما، وأن تروي لندى قصة أختها وكأنها هي بطلتها، وقد كادت أن تقنعنا وتقنع ندى لولا الحقائق التي تكشفت لنا ولها من سجل المشفى، ومن رحلة ندى إلى اسبانيا وتحديداً إلى قرية التوأم ولقائها بالطفل الذي خطفه ابن الإقطاعي قبل أن يموت بسبب الايدز والذي أصبح شابا جميلا لا يعرف شيئاً عن أمه التي تقبع في المشفى هناك بعيدة ووحيدة، وحين تعود ندى من رحلتها وتتأكد من كل ما قالته لها مارتا تفهم أن الأخت أم الشاب لن تسامح أختها، وتعي أن الأخت الضعيفة المخطئة والتي روت لندى الأحداق مقلوبة، تحتاج فقط إلى جرعة قوة كي تذهب لأختها أخيرا وتعتذر، وكي تتعانق أخيراً ضحيتا الشاب الماجن ابن الاقطاعي، وتموتا معاً على سرير بارد.

بالاضافة إلى هذه الشخصيات الأساسية تترك لنا ريما شخصيات قليلة فرعية لكنها مؤثرة بعمق في العمل. أولها، والد ندى كان من أوائل البعثيين السوريين الذين دافعوا عن البعث كنّهجٍّ اشتراكي وعلماني، ومنذ استيلاء الأسد العسكري على السلطة استوعب تماماً أن البعث قد فُرّغ من محتواه، وتحول مجرد أداة لقمع الشعب وتكريس الحكم المطلق لرأس النظام ولبناء دولة الرعب والذعر في سوريا... وهناك شخصية صغيرة هي شخصية صديقة ندى المريضة التي اعتقلتها قوات النظام في سوريا واستجار والدها بندى كي تأتي وتمارس نفوذها كزوجة الوزير في اخراجها من الاعتقال وهنا تتخلى ندى في الرواية عن قرارها بعدم العودة إلى سوريا أو إلى مكان نبيل وسلطته لأجل حياة تلك الصبية المريضة التي اعتقلها النظام مثلها مثل مئات الآلاف من السوريين والسوريات، لكن النظام السوري يوفر على ندى رحلة العودة هذه ويقتل صديقتها في المعتقل قبل أن تغادر ندى فرنسا.

هناك أيضاً شخصية الشاب الأوكراني بوريس الذي تلتقيه ندى في مدرسة تعلم الفرنسية والذي يشد قلبها في البداية لأن فيه شيء من غدي ابنها الذي مزقته الطائرات، وبوريس مثلها قادم من بلاد أكلت الحرب قلبها، لكنه مع هذا مليء بالحياة ونابض بها مثلما كان غدي، ومتوازن مع ذاته ومع قربه من ندى ومع اهتمامه بها، أليف ومستمع ومتفهم وغير متطلب، الأمر الذي أبقاها معلقة بين أنوثتها المغدورة في كل من فقدها لأبنها وخذلان زوجها لها ولهذا الفقد، وبين أنوثتها التي لا تزال تنبض فيها والتي مهما حاولت المرأة أن تحكم على هذا النبض بالنوم، لكنه يغافلها ويستيقظ حين يداعبه حنان رجل واهتمامه.

ندى المعلقة بين عاطفة أمومتها التي جددها في حياتها موريس، وعاطفة الحب ووعي الجسد وحريته الذين جددهم أيضا مويس، هي ندى التي تمثل هذا الوعي الأنثوي المتأخر فينا لحجم قوة أنوثتنا المضطهدة نفسها، مثلما تمثل وعي شعب كامل لحريته ولقوته في تحقيقيها، وتفسر تحمله لكل أشكال التعذيب البشري من دون أن يرضى العودة لقيوده... ندى تبقى في الرواية رافضة لكل تهديدات نبيل زوجها حتى أخر كلمة من الرواية، حين يلاحقها نبيل إلى فرنسا مثلما يلاحق النظام السوري الناشطين إلى كل بقاع الأرض ويحاول قتلهم أو معاقبتهم فهو لا يفهم أن يتحداه أحد وفي أي مكان في العالم، في نهاية الرواية يطرق نبيل بابها وبغضبه وصلفه وعنجهيته يقول لها: أنا نبيل افتحي، فتجيبه بتحدي وعنفوان: “لقد كنت أنتظرك”، لأنها أنه سيأتي مثلما تعرف تماما أنها لم تعد ندى التي تخافه بل على العكس فهي الآن ندى الجديدة، سوريا الجديدة التي بوعي التمرد وبوعي نفسها، تنتظر.

لا تترك رواية “غدي الأزرق” في قارئها سؤالاً دائماً وبحثاً في نفسه عن نفسه، وهي تأنيث السرد الجميل، ورشاقة التنقل بين المسارين المتوازيين اللذين سارت بهما، خفيفة الظل لا ترهقك بجزالة لا داعي لها، وريما بالي ابنة حلب التي تعيش حاليا في مدريد، كانت موفقة وذكية في جعل المسار الموازي يخص شخصيات تعيش في فرنسا واسبانيا وربطها معاناتهم الانسانية بمعاناة السوري، وهذا ما شجع المترجمة فيكتوريا خارشي رويث على ترجمة الرواية إلى الاسبانية، سترويها من دون أن تسمح لقارئها بأن ينفر منها، لأنها تورطه في القصة الشخصية لندى من دون أن تفرض عليه في البداية أي موقف سياسي متشنج، بل على العكس، تجعل الموقف الذي سيتبناه القارئ يستوي على نار هادئة بمهارة طباخة سورية قادمة من أقدم مدن الأرض. وبمهارة نساجة وروائية، وبوعي سورية ومثقفة... ترمم ريما بالي بعضاً مما بقي فينا مثلما، رممت ندى علاقة الأختين، وتعيدنا إلى أول صرخة تحدي وإلى أول الجرح.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)