ماتياس إينار المتيم بالشرق يفوز بغونكور 2015 Le Goncourt 2015 pour Mathias Enard

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 04/11/2015، العدد: 10087، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب أبوبكر العيادي


ماتياس إينار المتيم بالشرق يفوز بغونكور 2015


لطالما كان الشرق بالنسبة إلى الغرب قبلة الكتاب المسحورين بالعوالم الغريبة، بالآخر بوصفه عالما مكتنزا بالأسرار هو وجغرافياته الممتدة من جبال الهيملايا إلى القسطنطينية فدمشق وبيت المقدس. ومن الصين إلى الجزيرة العربية فمصر. ومن شرق افريقيا إلى المغرب والاندلس. وعلى دروب الشرق سافر الكتاب والرسامون والجغرافيون وعلماء الاجتماع في قوافل الفاتحين والعلماء والباحثين عن الشهرة والسلطة والقوة. الكتاب الرومانسيون في القرن التاسع عشر تطلعوا إلى الشرق مدفوعين برغبة تجديد دم الادب عبر مخيلة طليقة نشطتها ايروسية جائعة إلى كل ما هو إيكزوتيكي. في فرنسا ذاع صيت شاتوبيران وفلوبير ونرفال، وسافر هؤلاء إلى دمشق والقدس والقاهرة والقسطنطينة، وطنجة ومراكش وجبال الأمازيغ. لكن الأدب الفرنسي عرف موجات شتى من الكتاب والباحثين والصحافيين والشعراء الذين اقبلوا على الشرق العربي ممن واصلوا في أدبهم استلهام “العجائبي” تلبية لمتطلبات المخيلة الغربية التي مايزال يطربها إلى اليوم، أن تبقى اسيرة “الشرق الساحر”، و"الشرق الملعون" كما قدمه عدد من الكتاب الفرنكفونيون فرنسيين وعربا، مشارقة ومغاربة، وغربيين. هناك قائمة طويلة من الاسماء لا يمكننا ان نضع فيها الروائي ماتياس إينار الذي نال يوم أمس عن روايته “بوصلة” أرفع جائزة أدبية فرنسية، رغم ان الشرق مسرح خياله وموضوعاته وأفكاره. بالشرق عرف الغربي نفسه، فالشرق جهة في الجغرافيا، وافق في الحواس، ومرآة في الحضارة. ولكن أي كنه لهذا الشرق؟ هنا السؤال الاكثر جوهرية، والذي يقدم لنا إينار في أدبه صفات استثنائية له أقرب إلى حقيقته وجوهره.

فتن ماتياس إينار (43 سنة) بالشرق منذ شبابه، فالتحق بمعهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس لتعلم اللغتين العربية والفارسية، ثم أغواه الاستشراق فجاب المنطقة لاكتشاف كنوزها وتراثها، إذ أقام سنوات طويلة في سوريا ولبنان ومصر والعراق وإيران، قبل أن يستقر منذ عام 2000 في برشلونة حيث يدرس اللغة العربية في جامعتها الحرة، وله فيها مطعم لبناني اسمه “كراكالا”.

تضاريس شرقية

بدأ الكاتب حياته الأدبية بترجمة أعمال عربية وفارسية، ثم برواية “إتقان الرمية” عام 2003 عن الحرب الأهلية اللبنانية، التي فازت بجائزة القارات الخمس للفرنكوفونية، تلتها عام 2008 “منطقة”، وهي رواية مسترسلة ذات جملة واحدة تمسح خمسمئة صفحة، فازت هي أيضا بجوائز محلية، وتلتها “حدثهم عن المعارك، والملوك والفيلة” عام 2010 عن رحلة مايكل أنجلو إلى القسطنطينية ولقائه بالسلطان العثماني بايزيد الثاني، وفازت بغونكور المعاهد، ثم “شارع اللصوص” عام 2012 التي تحكي قصة شاب مغربي تائه في أسبانيا خلال ثورات الربيع العربي.

نلاحظ هنا أن الشرق حاضر في حياة ماتياس إينار كما في أدبه، وما روايته الأخيرة “بوصلة”، المتوجة بغونكور اليوم، إلا حفر متجدد في تضاريس الشرق واحتفاء بسحره واستجلاء لغموضه. فما الشرق سوى بنية ذهنية غربية تسجنه في واقع جغرافي يمتد من شرق المتوسط إلى المناطق الجبلية التركية الإيرانية. أما هو فيراه حقيبة كبرى ملآنة بسرديات متنوعة وحركات ذهاب وإياب ثقافية لم تفتأ تسافر في الاتجاهين غير عابئة بالحدود الجغرافية وبالأفكار المسبقة.

تدور أحداث رواية “بوصلة” في فيينا، التي كانت في ما مضى قلب أوروبا الوسطى، أو بوابة الشرق “بورتا أوريانتيس” بعبارة الكاتب النمساوي هوغو فون هوفمنشتال ويرويها سارد يدعى فرانز ريتر، عالم في الموسيقى، لا يؤلف ولا يعزف، بل يقنع من الموسيقى بالتذوق والتحليل. هذا العالم مصاب بداء عياء يقاومه بتعاطي الأفيون، جفاه النوم في وحدته، والمطر ينقر زجاج نوافذه، فغاص في تجاويف الذاكرة، يسترجع معالم الشرق الذي فتن به، ووجوه أشخاص غامت وولت، فما عادت بوصلته تميل إلا إلى ناحية الشرق.
ولما كان مجبولا بالفطرة على المالنخوليا، جانبها الخصب المرح وليس ذاك الذي يدفع إلى الانهيار العصبي والانتحار، فقد طفق يروي حكايات من حياته، ويعود إلى مواطئ قدميه من دمشق وإسطنبول وحلب وتدمر وطهران إلى باريس وبرلين وفيينا، بطريقة ليس للحزن من أثر فيها، فإذا حكاية تسلم إلى حكاية، عن قراءاته ونظرياته، عن صداقاته وعلاقاته الغرامية، عن المدن التي زارها والتقى فيها بشخصيات متفردة، كذلك المصري، صديق غوستاف كوربيه، الذي صار وزيرا عثمانيا، ومالكا للوحتيه “مصدر العالم” و”السيدة ذات الجواهر”، أو ذلك الإيراني الذي صادفه هو وصديق له يدعى لوجييه في متحف طهران فحياهما بتحية النازيين “هايل هتلر!” مؤكدا على أن الفوهرر كشف للعالم أن الألمان والإيرانيين شعب واحد، وأن هذا الشعب مدعوّ إلى السيطرة على الكرة الأرضية، وأنه من المحزن أن تلك الأفكار الرائعة لم تتجسد بعد.

سرد ساحر

تحدث السارد أيضا عن تلك الجماعة التي تتجادل في قلب تدمر ذات ليلة قارسة، وعن البسكية مارغا داندورين، صاحبة فندق زينوبيا، التي كانت تحلم بأن تكون أول امرأة بغي تدخل مكة، وانتهت قتيلة في مركبها الشراعي قبالة طنجة. كذلك نجد شخصية بيغلر عالم الآثار الذي يكره أن يزج اسمه ضمن المستشرقين، ويحرص على طمأنة السلطات السورية حول ما يميزه عن القائمة التقليدية الطويلة لعملاء الآثار الجواسيس.
السرد في هذه الرواية طافح بالإحالات التاريخية (تدمر، استقبال السلطان العثماني ليهود الأندلس)، والثقافية (رامبو، بلزاك، صادق هدايات)، والموسيقية (موزارت، براهمس، بتهوفن، ماهلر، مندلسوهن، فاغنر)، وحتى العاطفية (قيس وليلى، تريستان وإيزوت، فيس ورامين)، كلهم يسمرون مع فرانز ريتر بشكل أو بآخر، ما ينبئ عن ثقافة الكاتب الغزيرة، ولكن كثرتها ترهق القارئ غير العارف، فيتيه في ثنياتها ومنعرجاتها.

والسرد، وإن ورد في شكل مونولوغ طويل ليس هذيان مثقف، بقدر ما هو خطاب موجه إلى معشوقة شرقية غائبة، بعيدة، عصية عن المنال، تدعى سارة. وهي باحثة متخصصة في المستشرقين، وفي الأسباب الغامضة التي دفعت عددا كبيرا من الكتاب والرسامين والعلماء والأكاديميين والمغامرين والرحالة إلى الانجذاب إلى الشرق. وهي كما يصفها ريتر بحر من العلم والذكاء، جميلة، مغرية ومتعددة الألسن، لا تستعصي عليها أي لهجة من اللهجات. يقع في هواها، ويقضيان ليلة عشق حامية في طهران، قبل أن تفرقهما الطرق والمشاغل، ولم يعد يجيئه منها غير أخبار متفرقة، وآخر ما علمه أنها في بورنيو، تجري بحثا عن إحدى القبائل. هذه العلاقة بينهما تذكر بعلاقة جامعي وجامعية في رواية الكاتب الشيلي روبرتو بولانيو “2666” تبدد المعرفة المالنخوليا التي تستبد بهما، فيما هي عند إينار تزيدها ثقلا وقتامة.

وتبقى البوصلة، التي تتوجه إلى الشرق كما هي حال الكنائس الأوروبية، بحثا عما يجمع الشرق والغرب، القطبين اللذين يدينان لبعضهما بعضا بأشياء كثيرة، خصوصا في هذا الظرف الحساس، ما يعطي الرواية بعدا سياسيا ليس خافيا.

يقول إينار “إن الخطاب الإعلامي مشحون حدّ التخمة بالخوف من الإسلام الراديكالي وعنف النزاعات في الشرق الأوسط، وهذا يمنع أي إمكانية لاكتشاف تاريخ المنطقة في ثرائه وتنوعه، ويستبعد الحوار الذي يمكن أن ينشأ بين الشرق والغرب”.

كاتب من تونس مقيم في باريس

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


نقرا أيضاً في هذا العدد :

ماتياس إينار في ’شرق’ مفعم بالحكايات

المقال بالـ PDF

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)