مقال جريدة الحياة اللندنية
«باب المقام»: حين تقتل الأغنية الكلثومية منشدتها في حلب
الجمعة، ١٦ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
في ظروف عادية أكثر، قد لا يشكل افتتاح فاعليات ناد سينمائي جديد في مدينة عربية حدثاً كبيراً يجري التوقف عنده. ولكن حين يكون الافتتاح في بيروت برعاية إحدى جمعيات المجتمع المدني وبفيلم سوري للمخرج محمد ملص، يصبح الأمر جديراً بوقفة. النادي هو ذاك الذي يقدم اليوم أول عروضه في صالة المدينة في شارع الحمرا البيروتي. أما الجمعية المبادرة فهي جمعية «ويك» التي تتعاون في هذا النشاط الذي يؤمل أن يكون شهرياً، مع «نادي لكل الناس». وأما فيلم الافتتاح فهو «باب المقام» الذي حققه ملص في العام 2005، ولم تتح له فرص كافية لاجتذاب جمهور يتفاعل معه ومع موضوعه، ما يبرر العودة إليه هنا لمناسبة هذا العرض الاستثنائي.
منذ عنوانه يضعنا «باب المقام» في قلب واحدة من سماته الأساسية: نزوعه إلى أن يكون فيلماً يلعب فيه المكان دوراً أولَ. وتتضاعف قيمة المكان في الفيلم، تحديداً، بسبب عدم التحديد الظاهر للزمان فيه. فهو، حتى وإن كانت العلامات المحددة زمنياً موجودة فيه، من خلال أحداث معينة، كما من خلال الراديو الذي يبث في خلفية المشاهد أخباراً حول الغزو الأميركي للعراق، هو فيلم يقف خارج الزمن. في اختيار متعمّد كما يبدو، حتى وإن كان الفيلم مأخوذاً، حدثياً، من حادثة حقيقية حصلت في مدينة حلب قبل فترة من تصوير الفيلم. هنا، على رغم أن الحادثة تشكل لبّ الفيلم وموضوعه، واضح أن المخرج، الذي علينا أن نتعلم منذ «أحلام المدينة» و «الليل» – فيلميه الطويلين الأولين-، ثم «سلّم إلى دمشق» لاحقاً بين أعمال أخرى متنوعة ومتفاوتة الاهتمامات والجودة، كيف نقرأ سينماه بين السطور، واضح أن المخرج لم يكن مبالياً بتاريخية الحادثة نفسها، قدر مبالاته بأن ينطلق منها لكي يحقق فيلماً يقول بعض همومه ومشاغله. بعض هموم زمننا العربي الراهن – المتواصل، ومشاغله. ولأن هذه الهموم لازمنية، تقف وتوقفنا معها خارج التاريخ، يقفز المكان – جمالياً بين أمور أخرى – بوصفه العنصر الأول المهيمن على تركيب الفيلم.
كأننا خارج العالم
والمكان هو هنا باب المقام في حلب، الحي الشعبي المحافظ الذي يعيش أهله في حياتهم اليومية وعلاقاتهم وعاداتهم وكأن ليس ثمة في هذا العالم زمن يمر وأحداث تمضي. الأحداث السياسية موجودة طبعاً، وهي صارخة أحياناً. ويحدث لها كذلك أن تضع واحداً من أبناء الحي في السجن كمعتقل سياسي. بل هي أيضاً في خلفية – إيحائية على الأقل – تفسر الشرّ الذي قد نرصده في تصرف شخصية ثانية... غير أن هذه الأحداث سوف تبدو في نهاية الأمر، بعيدة من السياق العام لتاريخ الحي وتاريخ قضيته. ومع هذا ليست خصوصية الحي وخصوصية المدينة، موضع الإدانة المطلقة هنا في شكل استثنائي، لأن المتفرج سرعان ما يكتشف، إذ يُعمل فكره بصورة جيدة، أن هذا المكان – في الجانب المتعلق منه بالحدث الذي يشكل لبّ الفيلم – إنما هو أشبه ما يكون بكناية عن المجتمع الكبير. ومن هنا أيضاً تبرز لازمنية أكثر ضراوة، يحاول المخرج، إذ لا يمكنه مقاومة الأمر طويلاً، أن يربطها بزمنية معينة: هي عبارة عن إبراز نوع من المقارنة – من طريق فن الغناء وردود الفعل تجاه تلقيه وتجاهه – بين الماضي والحاضر. والحقيقة أن مثل هذه المقارنة تتخذ في هذا السياق دلالة شديدة الأهمية، لأننا هنا موجودون في حلب، وهي واحدة من المدن العربية القليلة التي اشتهرت أصلاً بحب أهلها للفن ونزوعهم إلى الطرب، يستمعون إليه من كبار الفنانين، ويمارسونه هم أيضاً في حياتهم العائلية والفردية كجزء عضوي من حياتهم وإقبالهم على الحياة.
بعد هذا التقديم الذي قد يبدو غامضاً لمن يقرأ هذا الكلام من دون أن يكون قد شاهد الفيلم، لا بد من توضيح الأمور بعض الشيء.
الحق على كوكب الشرق !
ففيلم «باب المقام» المنطلق أصلاً من حادثة حصلت حقاً في مدينة حلب، يروي حكاية الحادثة: امرأة متزوجة تعيش مع زوجها السائق وطفليها سعيدة هانئة في عش الزوجية. وهي، لأنها من حلب ومن حيّ شعبي في المدينة، تتقاسم مع زوجها نوعي الاهتمام الرئيسيين اللذين يخرجان عن الأطر المحددة للعيش العائلي: هي تحب الغناء وأم كلثوم في شكل خاص، تسمع أغانيها وتغنيها لزوجها وفي خلواتها، وتعلمها لابنيها. وهو يسمع نشرات الأخبار السياسية من دون هوادة ولا يكف عن لعن الأزمان الرديئة. مثل هذا التقاسم كان يمكن له أن يمر مرور الكرام ويشكل عماداً لعيش مشترك في أزمان أخرى وفي أماكن أخرى. ولكن هنا لا بد من أن تلعب التفاصيل دورها. فللمرأة (إيمان وتلعب دورها سلوى جميل) أخ معتقل في السجن بتهمة سياسية، ولهذا تتولى هي تنشئة ابنته الصغيرة في بيتها، بعدما ربت شقيقاً لهذه الأخيرة، في انتظار أن يعود الأخ المعتقل من سجنه. وبين الأمور التي تربي إيمان عليها ابنة أخيها وكذلك ولديها هي، حب الفن الحقيقي وحب الغناء. وهذا أيضاً كان من شأنه أن يكون أمراً مستحبّاً في حلب الماضي. وربما في حلب الحاضر أيضاً... لولا وجود أبو صبحي.
أبو صبحي هو عم إيمان وحمو أخيها في الوقت نفسه. وهو يبدو لنا منذ البداية صارماً قاسياً، لنعرف أنه عسكري قبل أن نتأكد من ذلك. لكننا سنعرف لاحقاً أنه عسكري سابق يعيش إحباطاته إذ فُصل من الخدمة بسبب آراء سياسية (يبدو أنها في زمنها كانت ديموقراطية أو شيئاً من هذا القبيل، وهو أمر لا يظهر إلا في شكل ملتبس في مشهد لاحق من الفيلم.
تلك هي، هنا، هذه المعضلة التي ستلوح في الفيلم، إنما في شكل شديد الغموض. والحال أن ظهورها – لمن يقرأ سينما محمد ملص بين السطور – سيضفي على موضوع الفيلم خصوصية تفصله عن عمومية كانت ستبدو مفتعلة. غير أن محمد ملص يفرّق تماماً هنا، بين خصوصية تقود الموضوع إلى متاهات ميلودرامية حدثية تفرض على الفيلم محدودية في الحدث وتجرده من أي بُعد عام، وتجعل من قضية إيمان قضية شديدة الخصوصية، وبين خصوصية أخرى ترفد الموضوع بأبعاد تصل إلى ما هو واقع فعلاً في حياتنا العربية العامة.
في هذا التفريق، بدا محمد ملص يلعب فوق حبل مشدود. وبالتالي بدا منطقياً ميله إلى عدم إدانة أحد في هذا الفيلم – وهذه نقطة تحسب، في عرفنا لمصلحته، مع أن كثراً سوف لن يغفروها له.
فإذا كان أبو صبحي قد تصرف كما تصرف، محرضاً على قتل إيمان، فليس هذا لأنه يمثل الشر المطلق، بل لأنه إنما يريد في أعماقه أن يرد على استلابه الشخصي.
الحادثة/الذريعة
وانطلاقاً من هنا تصبح الحادثة نفسها مجرد ذريعة لتصوير مجموعة مترابطة من الشخصيات المحبطة والمستلبة التي تريد كل واحدة منها أن تلغي استلابها من خلال إما تحميله للآخر وإما إلغاء هذا الآخر على اعتبار أنه يمثل بعض الأبعاد الخفية لفعل الاستلاب. وفي هذا الإطار الحدثي، يمكن منذ البداية الإشارة إلى أنه إذا كانت أحداث هذا النوع من الأفلام – الاجتماعية – تتوالى على شكل مفاجئ، ما يعطي للمشاهدة والمتابعة لذة خاصة، حتى ولو كانت مريرة ومدمرة، فإنه ليس ثمة مفاجآت هنا. فنحن منذ البداية نعرف أننا أمام ما يمكن أن نسميه: وقائع قتل معلن. منذ البداية نعرف، معلوماتياً أو من طريق التواتر، أن إيمان سوف تقتل في نهاية الأمر، وأن القاتل سوف يكون أخاها الأصغر. وأن الصمت والتواطؤ في العائلة سوف يساهمان حقاً في جعل تلك الجريمة ممكنة.
كل شيء في هذا الإطار واضح ومحدد منذ البداية، بمعنى أننا لسنا أمام فيلم بوليسي ولا أمام فيلم تشويق. وكذلك لا يخالجنا أي اعتقاد طوال ساعتي الفيلم بأن معجزة ما قد تأتي لتنقذ إيمان من مصيرها، وإذ كان محمد ملص يعرف هذا منذ البداية ويعلنه من دون مواربة، بقي عليه – وهو ما فعله – أن يشتغل في شكل متوازٍ على مستويين هما اللذان أعطيا الفيلم كل قوته وجعلاه ممكناً وأيضاً... استثنائياً إلى حد ما في تاريخ هذا النوع من السينما العربية:
المستوى الأول هو الذي يحلو لنا أن نسميه «تشريح قتل مرسوم سلفاً وتقود إليه كل دروب الفيلم» ويقودنا اليه كذلك ما نعرفه ويعرفه عن الحادثة الحقيقية.
والمستوى الثاني، شكلي لكن له أهميته الفائقة هو الآخر، هو مستوى العلاقة مع المكان التي افتتحنا بها هذا الكلام، بالنسبة إلى المستوى الأول سار محمد ملص مع موضوعه بالتدريج: بالغ بعض الشيء في أخذ وقته قبل أن يقدم لنا الشخصيات واحدة بعد الأخرى – وهي مبالغة تتصل أصلاً بأسلوبه المعتاد والبطيء الذي لطالما أغاظنا في بعض لحظات «أحلام المدينة» و«الليل»، لكنه ما إن قدّم الشخصيات وحدّد موقع – ومستقبل – كل واحدة منها، حتى انطلق في موضوعه – الحدثي – الأساس: عرض علينا ما سيجرّه على إيمان حبها للغناء ولأم كلثوم... مع تفريق كان لا بد منه: فالعائلة، بدءاً بأبي صبحي، لم تقتل إيمان لأنها تحب أغنيات أم كلثوم أو تستمع إليها أو تغنيها، بل لأن هذا الحب بات في رأي العائلة علامة. بل علامة مزدوجة: من ناحية على تحرّر إيمان وبالتالي إمكانية أن تكون لها علاقة خارج حياتها الزوجية – وهو أمر عززه بعض الظواهر على أية حال، ما يبرئ فيلم محمد ملص من تعسف في الحكم قد يتهم به، ويعيدنا إلى فكرة ان لا أحد مداناً هنا بصورة مطلقة -... طالما أن لا أحد يشغف بأغاني أم كلثوم من دون أن يكون عاشقاً. ومن ناحية ثانية على فقدان زوجها شخصيته وعجزه عن «تأديبها» طالما أنه يغني معها.
لكن هذا خلق، كما يخبرنا محمد ملص، مجموعة متلاحقة من الاستلابات، التي يبدو كل واحد منها قادراً على تبرير الآخر... لتتجاوز الإدانة، في نهاية الأمر الأفراد، إلى المجتمع ككل: المنظومة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد من دون تفرقة.
كل هذا عالجه الفيلم – وتحديداً سيناريو الفيلم – بدقة، قبل أن يأتي اشتغال محمد ملص عليه، ليحوّل الحكاية ككل، إلى لوحة اجتماعية قاتمة – مضموناً وشكلاً –، مضموناً من ناحية أنه عرض لنا كيف أن ما من معجزة بدت قادرة على إنقاذ إيمان من «حكم الإعدام» الذي أبرم في حقها، وشكلاً من ناحية أنه صوّر المدينة – أو على الأقل الأجزاء التي شاهدناها من حلب – كدهاليز سجن كبير. فأنى ذهبت سوف تجد نفسك مراقباً. ثمة «حواجز» نظرية في كل مكان. وإيمان التي تعرف هذا جيداً، لا تعود قادرة على أن تعيش فسحة حريتها إلا في الأماكن القليلة الغائصة بعيداً من تلك الدهلزة – بيت المغنية القديمة، محل بيع الأسطوانات -، ناهيك ببيتها، مثوى حريتها الأخير، الذي سرعان ما صار قبرها في نهاية الأمر.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.