قراءات - Comptes rendus de lecture

علي الأميركاني، هالة كوثراني (لبنان)، رواية Ali l’américain (’Alī al-Amīrkānī), Hala Kawtharani (Liban), Roman

, بقلم محمد بكري


 جائزة أفضل كتاب في مجال الرواية : “علي الاميركاني” لهالة كوثراني


الأربعاء ٧ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢
جريدة الحياة


جريدة الحياة


الكاتبة والصحفية اللبنانية هالة كوثراني

فازت رواية الزميلة هالة كوثراني “علي الأميركاني” بجائزة أفضل كتاب عربي في مجال الرواية في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2012.

والرواية تحكي قصة علي الذي أصبح أميركياً، وعاد إلى لبنان بعد 22 عاماً ليعيش مع أمه أيامها الأخيرة. ويصبح بيت عائلته في الجنوب، البيت الكبير المهجور، ملاذ علي الذي تطارده شيرين لتنسج حول حياته أحداث روايتها الأولى. تتقاطع رغبة شيرين في الكتابة مع ذاكرتها الخصبة وتعلّقها ببيت العائلة، ومع أسئلة الماضي الذي تلوح فيه ملامح الحرب اللبنانية.

الرواية هي رواية شيرين والسرد سردها، وهي تنسج حول حياة علي الأميركي وغيابه وغربته ومنفاه السيناريو الذي سيجعلها كاتبة. شيرين هي البطلة الكاتبة وعلي هو البطل البطل. وبين البطلين تنمو علاقة غريبة وغامضة...

هالة كوثراني صحافية وكاتبة لبنانية. مديرة تحرير مجلّة لها الصادرة عن دار الحياة وتكتب مقالة أسبوعية فيها. فازت في مسابقة “بيروت 39” التي نظّمتها مؤسّسة هاي فيستيفال عام 2009. صدر لها عن دار الساقي “الأسبوع الأخير” و"استديو بيروت".

عن موقع جريدة الحياة



 هالة كوثراني تكتب قصّة علي الأميركاني الذي لم يعرف كيف يصير لبنانياً


الأحد ٢٧ مايو/أيار ٢٠١٢
جريدة الحياة
كاتيا الطويل


جريدة الحياة


«بحثَت عنه عيناي في الوجوه والأجسام التي تقطع الشوارع الضيّقة بين رصيف وآخر. أمشي وراءه وأقول: اسمي هو اسمي منذ 34 عاماً و11 شهراً. تركتُ عملي منذ أكثر من أسبوع. تركتُ ابنتي مع أبيها، وقرّرتُ أن أنصت إلى نفسي... اسمي شيرين وأنا أتبع علي الأميركي». (ص:18)

هذه ليست فقرة من رواية بوليسيّة فيها شرطيّة تتقفّى آثار المجرم، إنّما هي فقرة من رواية هالة كوثراني الأخيرة «علي الأميركاني» (دار الساقي، 2012). ففي روايتها هذه بعد روايتَي «الأسبوع الأخير»، و «استوديو بيروت»، تكتب الصحافيّة والروائية اللبنانيّة ومديرة تحرير مجلّة «لها» قصّة شخصيّات تائهة بين الأمكنة والعوالم، تصف أبطالاً ناقصين تائهين لن يستطيع القارئ إلباسهم عباءة البطولة والقوّة والمثاليّة، تسرد أحداثاً تدور في ذواتٍ مضطربة وقلقة ومنتظرة. ترسم كوثراني أطياف شخصيّات هائمة على وجهها بحثاً عن هويّتها، عن انتمائها، عن مكانٍ لها بين الأمكنة الضبابيّة.

يتصدّر وجه علي صفحة الغلاف؛ بنظرة تائهة تعكس نفساً تائهة هي الأخرى، يقف علي وخلفه جبال لبنان وملابسه ملابس أميركيّة صِرْف. وتروح كوثراني، أو بالأحرى شيرين درويش - الراويّة الرسميّة لقصّة علي -، تروح شيرين في ستّة عشر قسماً تتناول حياة علي. فمن حين وقوع نظر شيرين على علي في مكتبة يافث في الجامعة الأميركيّة في بيروت، تروح تتبعه وتتقفّى آثاره مفتعلةً لقاءً معه أرادَت به أن يبدو محض مصادفة. تلتقي شيرين بعلي «صدفةً» في بيته في الجنوب، ذلك البيت الذي شهد قصّة حبّهما الطفولي قبل أن يسافر علي إلى أميركا ويختفي هناك لمدّة تناهز ثلاثة وعشرين عاماً.

تلتقي شيرين بعلي وتخبره عن نيّتها في كتابة رواية تريده بطلها؛ وتروح لقاءاتهما تتكرّر وتمتدّ طوال ساعات النهار، فها هي شيرين ترافق عليّاً في مشاويره إلى منزله في الجنوب وإلى منزل أخته حيث يزور أمّه المصابة بالألزهايمر: أمّه سبب هجرته من وإلى لبنان. أمّه سبب هجرة سترافقه طيلة حياته وستتجذّر فيه لتصبح تاريخه وحاضره ومآله الوحيد في المستقبل. تلتقي شيرين بعلي وتزيل القناع عن وجهه الهادئ وخطاه الصامتة، فتسلّط الضوء على نمط حياته في أميركا، وعلى حبيبته إيما التي تركته في المطار وعادت إلى أميركا، وعلى حبّه للرسم والشعر والعزلة.

تتوالى الأحداث ليكتشف القارئ أنّ عليّاً ليس الشخصيّة الوحيدة في الرواية التي تتخبّط في مستنقعات الهويّة واللاإنتماء، فتظهر شيرين هي الأخرى مثال المرأة البعيدة قاب قوسين أو أدنى عن الجنون. وتحرص كوثراني على الابتعاد عن قصّة حب مبتذلة بين شيرين الراوية وعلي البطل، فتجمعهما في مشاعر معقّدة تتأرجح بين الطفولة والنضج، وتوقفهما حائرَين إزاء قبلة ناقصة تؤجّج حماسة القارئ وتعود لإيقافها عبر إدخال شخصيّة هدى الطالبة الشابّة المجنونة التي تفلح في إثارة مشاعر علي بطريقة لم تستطع شيرين القيام بها. ولهدى قصّتها وجنونها وسخطها على المجتمع، هي الفتاة المدلّلة المأخوذة بحبّ الحياة تارةً وبغضب الانتقام تارةً أخر.

«أنا لم يسبق لي العيش في بلد آخر، لكنني لا أنتمي تماماً إلى بلدي، ولا يمكنني أن أنتمي إلى أي مكان، وأبحث دوماً عن مكاني. علي الآن، في هذه اللحظة بالذات، هو مكاني. أبحث عن مكاني في رجل يبحث عن مكانه». (ص:113) شيرين بدورها لم تجد يوماً انتماءها الحقيقي. هي المرأة الشرقيّة بامتياز التي تتزوّج وتنجب وتصبح ربّة منزل وتنتظر. ماذا تنتظر؟ تنتظر تحقيق ذاتها. تنتظر الخروج على روتينها الفارغ المحطّم. وبينما قلبها رابضٌ في حياة أخرى، تسير شيرين على دروب الحياة مسلوبة الإرادة وكأنّها تعيش «حياة امرأة أخرى». ويأتي علي، لتصبّ فيه موقفها الثوري، لتُلبسه الرفض والبحث والضياع، لتُلبسه قناعها وغربتها. صراع علي مع الأمكنة ما هو سوى صراع شيرين، ومراوغة علي واحتياله على الأوطان والمجتمعات ما هما سوى مراوغة شيرين الخجولة التي ستنفجر دفعةً واحدة. تكتب شيرين قصّة علي لتجد قصّتها وذاكرتها وروحها التي داست عليها عجلة الروتين. وهذا السرد اليومي لقصّة علي، هو سرد متقطّع لعمليّة تطهّر شيرين وبنائها لوجودها. هذا ما يُسمّى الوظيفة الكاثارثيكيّة fonction cathartique للأدب، فمن خلال سرد حياة علي تحارب شيرين انحطاط ذاتها وتلاشيها. فظاهريّاً هي تنسج خيوط حياة علي وضياعه ولكن ضمنيّاً تعيد هذه الرواية بناء ذاكرة شيرين وحياتها: «وأنا بالكتابة أخترع لنفسي هويّة بديلة. فأنا أيضاً فقدتُ هويّتي. أجهضتها». (ص:63)

بلا هوية

و«لكن أية هويات تلك التي أحملها في محفظتي؟ لا هويّة لي، أنا بلا هويّة، بلا طعم وبلا لون وبلا تاريخ، ولدت مجدّداً في أميركا، أحسست بأنّني أنجبتُ نفسي، ولدت وحدي. لا أهل لي ولا مستقبل، لا ماضي ولا حاضر ولا أي شيء. أنا اللحظة التي تمتلكني، لأنّني لا أمتلك أي شيء». (ص:98) بطل رواية كوثراني أو شيرين، بطل جبان هارب مزيّف، هذا البطل بحاجة الى بطل ينقذه ممّا هو فيه من غربة وضياع وعزلة. ذاكرته التي تعيد إحياءها شيرين والتي تقدّمها على طبق مضطرب من الأفكار والملاحظات، هي ذاكرة بلد خارج من الحرب، ذاكرة طفل لمّا يقطع الحبل السرّي بعد، ذاكرة رجل لا يعرف كيف يتحوّل إلى عشيق. علي التائه بين البلدان والأماكن والمنافي بطل قلق مضطرب، بينه وبين شيرين قواسم مشتركة أكثر ممّا يبدو للوهلة الأولى. فلعبة الجذور التي يُنازعان لحلّ لغزها توحّدهما وتضعهما في خانة اللاإنتماء المعزولة.

ونجد عقدة أوديب واضحة جليّة في حياة علي: فالسبب الأساسي خلف هجرته إلى أميركا هو أمه و «ديكتاتوريّتها»: «حين هرب من سيطرة أمّه عليه هرب أيضاً من غرامها به ومن ضعفه هو تجاهها». (ص:75) وعلي لم يعرف أباه ولم يحبّه لأنّه لم يعرفه، وكلّ ما بقي له هو أمّه التي أحبّته وأرادت صقله كما تتخيّله. وكما تتحرّر شيرين من غربتها ومنفاها عبر الكتابة، يتحرّر علي منهما عند وفاة أمّه: «قلبه واسع الآن، ضخم وسعيد ومرتاح». (ص:172) وكما يحتاج كلّ طفلٍ إلى قتل الأب في رأسه ليتمكّن من تحقيق ذاته وإخراج الرجل الذي فيه، هكذا كان على علي أن يشهد موت أمّه ليحرّر الرجل الكامن بخجل خلف ضياعه واضطرابه ومنفاه الأبدي.

«يعيش في بيت أميركي لا يحسّ بأنّه بيته. ولم يكن له بيت يوماً. كلّ البيوت التي استأجرها في نيويورك كانت بيوت الآخرين، بيوت سكّانها القدامى... لم يحسّ يوماً بأنّ له بيتاً، وهو يركض إلى البيت الكبير في القرية بحثاً عن شعور بالانتماء إلى مكان يمكن أن يقول إنّه بيته». (ص:131) لا بطل حقيقياً في هذه الرواية سوى المكان. فهجرة الأماكن في حالة علي وشيرين هي من مظاهر الغربة والضياع واللاإنتماء، والعودة دوماً إلى بيت القرية في الجنوب ما هي سوى عودة الانسان الأبديّة إلى الجذور.

ومع مرور الأيّام، تنمو شخصيّة الراوية بالتوازي مع شخصيّة البطل، ويروح كلٌّ منهما يجد هويّته الضائعة. وعبر الاسترجاعات الكثيرة التي تحفّ النصّ والضروريّة لخطّه السردي نلاحظ التطوّر النفسي الذي طرأ على نفسيّة الراوية وبطلها. ومن شأن الزمن أن يشفي جميع الأمراض، وفي هذه الرواية نجح الزمن المُرفَق بعمليّة مواجهة الماضي وسبر أغواره، نجح في إخراج كلّ العقد إلى الوعي لرؤيتها وفهمها وتخطّيها. وبينما تلملم شيرين هزيمتها الوجوديّة عبر الكتابة والخروج على قيود المجتمع والروتين اليومي، يترك علي زمام الأمور للزمن ويتحرّر من غربته وضياعه مع موت أمّه.

أمّا في ما يتعلّق بلغة كوثراني، فهي لغة واضحة سهلة وبسيطة، تبتعد كلّ البعد عن التنميق والزخرفة الأدبيّة وتركّز جامّ اهتمامها على وصف النموّ النفسي الذي يطرأ على شخصيّاتها. كما أنّ كوثراني تعمل على نحت شخصيّاتها عبر وصف دقيق مرهف زاخر بالتفاصيل.

عن موقع جريدة الحياة



 هالة كوثراني في لعبة الحب والهوية المتعددة


الجمعة، 6 يناير/كانون الثاني 2012
جريدة الحياة
محمد برادة


جريدة الحياة


تواصل هالة كوثراني في روايتها الثالثة «عليّ الأميركاني» (دار الساقي، 2012)، تجريب شكلٍ مغاير في كتابة الذاكرة ولملمة نتفها وشظاياها الموزعة بين ماض وحاضر غاطسين في بقايا الحرب وظلال المنفى واستعادة الحب المفقود...

تتوارى الكاتبة الحقيقية، هنا، وراء كاتبة متخيلة اسمها شيرين درويش، تقدم نفسها على أنها الكاتبة والراوية والبطلة، فارقت زوجها واحتفظت بابنتها، وقررت أن تكتب سيرة شاعر معجبة به، صارع المرض ورحل عن عالمنا المتعب. لكنها في الآونة نفسها صادفت في المكتبة عليّ، الجار القديم الذي كانت قد بدأت تتعلق به، قبل أن يسافر إلى أميركا ويغيب أكثر من عشرين سنة. حينئذ، قررت أن تحوّل مشروعها إلى كتابة رواية عن عليّ الأميركاني، حبها الأول الذي أيقظ في أعماقها ظمأ إلى الحب، تصارع به الوقت وينسيها فشلها في الزواج.

سعتْ إذن إلى تجديد علاقتها بعليّ واستحضرتْ معه ما تلاشى من ذاكرته أثناء الهجرة، وطلبت منه أن يساعدها في كتابة روايتها عنه، وذلك بأن يحكي لها، كل يوم، ما يفعله في بيروت خلال إقامته، وأيضاً بعض ما عاشه في أميركا. على هذا النحو، تستطيع شيرين أن تظل قريبة من علي، ترافقه إلى زيارة أمه المريضة في بيت الضيعة، وتلتقيه في بيروت كلما اتسع الوقت.

لكن ما لم يكن بحسبان الكاتبة المفترضة، هو تعرّف عليّ على الطالبة هدى الشابة، الجريئة التي تريد أن تنتـقم من صديقتها لأنها «سرقتْ» منها حبيبها وتزوجـــته، وهي تبحث عن علاقة جديدة تعوضها عن هزيمتها، فوجدت في عليّ ما تبحث عنه على رغم فارق السنّ والعقلية. ولأن العــائد من أميركا فقدَ خطيبته «إيما» التي تخلت عنه في آخـر لحظة، فقد وجد في هدى المقتحمة جاذبية تثيـر نفسيـته الغارقة في الملالة والضياع.

من هنا، تضعنا شيرين أمام بنيةٍ تخييلية تنسج من خلالها مشاهد قصة حبها المحتملة مع عليّ، وتلائم عبرَها بين واقعها وَتطلعاتها الحلمية. هي إذن تراهن على الكتابة والتخييل لاستعادة الزمن والحبيب الأول ونسيان فشلها في الحاضر: « ...الماضي الذي لا يشبه حاضراً لا أمتلكه. فـأنا أعيش أياماً كأنني استعرتها من حياة شخصٍ آخر. ولعلّ طلاقي وتركي عملي محاولتان لامتلاك أيامي. والكتابة محاولة ثالثة، فما نفعُ ذاكرتي الخصبة إذا لم أكتبها؟ » ص37. والعنصر الآخر المكمل لهذه البنية التخييلية يتمثل في استـشارة الكاتبة شيرين للقارئ كـلما استعصتْ عليها مسالك السرد واحتارتْ أمام مصائر الشخصيات: «... والآن، أأعيده إلى نيويورك في روايتي؟ أأقنعه بالتخلي عن القرية الجنوبية التي حملته إليها، وأعيده إلى مدينة هاجر إليها منذ أكثر من عشرين عاماً وأدمنها؟ أأنقله إلى متحف نيويوركي وأجعله يستريح من همّ أمه بين الفنّ الياباني القديم ولوحات الأوروبيين في القرن الثامن عشر في متحف ميتروبوليتان؟ عليّ حقيقي وأنا لم أكتفِ بتخيله».

في الواقع نحن أمام «تحايل» فني لجأتْ إليه «كاتبـتا» الرواية لإيهام القارئ بأن النص ينكتب أمامه وبمشاركته. وهو تحايل يحضّ المتلقي على استعمال مخيلته وتوسيع نطاق المحكيات لتتلامـس ما هو ثـاو في أعماقه.الكتابة اقتراباً من الحقيقة يمكن القول بأن كلاً من شيرين وَعليّ الأمريكي بطلان إشكاليـان، اعتباراً من أنهما يتشبثان بقيم الاستعمال ويرفضان قيم التبادل، حسب مفهوم لوسيان كولدمان، لأن كلاً منهما يرفض ما هو قائم ويبحث عما يطابق قيماً تحقق الملاءمة بين تحقيق الذات وتغيير الواقع باتجاه التحرر من سطوة الابتذال والوصاية : شيرين اختنقتْ داخل مؤسسة الزواج وعجز الوطن عن أن يتغير، وعليّ هرب من قيود العائلة ووصاية الأم فلم يجد في الغربة حباً يخلصه من وحدته...

الذاكرة، الغربة، الهوية المتعددة، الحب المتعثر، كلها ثيمات تستوقفنا ونحن نتابع فصول الرواية التي تكتبها شيرين بتواطؤ معنا؛ لكننا يمكن أن نعيد عناصر التأويل إلى مسألة جوهرية تستحوذ على وعي الكاتبة - البطلة، وهي مسألة الاقتراب من «الحقيقة». تكتب: «أستقبل وحدي ضوء النهار. لم أتصل بابنتي بعد. تركتها لأحلامها بأبطال خارقين ومنازل وردية. أما أبطالي أنا فمتعبون وعاجزون ولا يشبهون أبطال طفولتي. فأين الحقيقة ؟ وما هي الحقيقة ؟ ومَنْ هم الأبطال الحقيقيون ؟ أبطال الوهم في الطفولة أم أبطال الحقيقة العاجزون ؟ أليس أفضل أن تكون الحقيقة في حياتي وهماً ؟» ص111.

من هذا المنظور يمكن أن نستوعب هذا الصراع الدائم بين مطامح نتطلع إليها وتكوّنُ حوافـز الفعل لدينا، وَخيبات تردُّنا إلى واقع محدود مهما اتسع، فنغوص في الرفض ونلجأ إلى التخييل والكتابة لابتداع عوالم تعوضنا عن الاختناق ومحدودية الواقع. ذاكرة الطفولةفي هذه الرواية، نجد عليّ الذي فرّ من لبنان والحرب بحثاً عـن فضاء أرحب، يظلّ مشدوداً إلى ذاكرة الطفولة والشباب والبيت القديم والأم، وفي الآن نفسه يندمج في بيئة أميركية تمنحه المعرفة والنجاح؛ لكن هذه الهوية المتعددة تجعله موزعاً بين ثقافتين وحضارتين، متطلعاً إلى حبّ يعيد إليه التوازن والطمأنينة المفقودين. إلا أنه لا يستطيع البقاء في الوطن الأول ولا الاستجابة للحب، مفضلاً العودة إلى أميركا التي توفر له الغفلية في ظلِّ تعدد الهويات، والانسلاخ عن ذاكرة الطفولة.

وفي المقابل، نجد أن شيرين التي أحستْ أن الواقع هو دون الحلم والأماني، تلجأ إلى كتابة رواية تعدل اعوجاج الواقع وتعيد إليها حبيبها الأول الذي اعتبرته طوْقَ نجاة. غير أن مسعاها يخيب، والتخيـيل لا ينقذها لأن عليّ الأميركاني، الإنسان الواقعي، يتمرد على المسالك التي رسمتها شيرين لتستدرجه إلى شرَك الحب، فيقـرر السفر فجأة من دون أن يخبرها أو يترك لها رسالة وداع. يرحل هو، وتبقى هي في بيروت، المدينة التي «لا تغير جلدها» مطاردة ظلَّ عليّ الأميركاني الذي كانت تمني النفس باستكمال تجربة الحب معه.من خلال هذه البنية التخييلية ذات الأقنعة، استطاعت هالة كوثراني أن تلملمَ شخصيات ملأى برمزية تنغرس جذورها في صلب المجتمع اللبناني الذي تتجاذبه تيارات التغيير والمحافظة. ذلك أن كلاً من شيرين وهدى وعليّ يستمد دلالته من «البنيات المبنية» وفق مصطلح بورديو، إذ أن بنية لبنان المحافظة على توازنات اجتماعية وطائفية تكمن وراء موقف شيرين التي تهرب من الواقع الآسن إلى عالم الخيال والحلم، بينما هدى الشابة تواجه نفس الواقع باللجوء إلى العنف والسلوك المجنون، في حين أن علي الأميركي يؤثر الهرب من جديد، متقمصاً أكثر من هوية، لأن مدينة الطفولة « فقدتْ روحها» ولأن فقدان الذاكرة يجعل الألم أخف في حياة تفتقد الحب والتواصل، وتتغذى بالحرب والعنف ...

هذه البنيات المجتمعية تكمن وراء مواقف وسلوك الشخصيات الثلاث التي تختار كل منها مسلكاً مغايراً، تواجه من خلاله ضغط القيـم الموروثة.إلى جانب ذلك، تمتلك رواية «علي الأميركاني» لغة تعبيرية تجمع بين البساطة والشعرية، وتصوغ جملاً تكتنزُ إيحاءات وتأملات، مع مضاعفة النص السردي بـ «ميتا - نص» يطرح إشكالية الكتابة والسرد، ويجعل القراءة مقترنة بمتعة التشويق والتساؤل.

عن موقع جريدة الحياة



 هالة كوثراني روائية المتاهة والحنين


الاربعاء، 7 ديسمبر/كانون الأول 2011
جريدة الحياة
عبده وازن


جريدة الحياة


قد تكون «شيرين درويش» التي تختبئ وراء قناع «الروائية» وتؤدي دور الراوية في رواية هالة كوثراني الجديدة «علي الأميركاني» (دار الساقي) هي «البطلة» الأولى والأخيرة . هذه «الروائية» تعترف جهاراً في «التمهيد» وعنوانه «لماذا كتبت هذه الرواية؟» أنها في صدد إنجاز مشروعها السردي الأول الذي توخّت من خلاله أن تكتب قصة رجل، أو بالأحرى طيف رجل يعيش معها منذ أعوام، رجل كأنها تعرفه، هو مزيج من حبّها الأول (علي) والشاعر الراحل رمزي خير الذي يمكن اعتباره أيضاً بمثابة حبّ آخر. هذا «الطيف» المزدوج الوجه هو، كما تقول، «نسخة رجالية منّي». وكانت شيرين (الروائية) تسعى أصلا الى جعل الشاعر الذي رحل قبل ثمانية عشر شهراً بطلاً لمشروعها الروائي الأول لكنها منذ فاجأها علي بعودته من الولايات المتحدة الأميركية، قرّرت أن تجعل من عليّ بطلاً، متيحة لنفسها معاودة اكتشافه بصفته حبّها الأول. ولعل الشبه الذي طالما استوقفها، بين علي والشاعر، جعل من الواحد «قريناً» للآخر وجعل من القرينين «ظلاً» لرجل ليست واثقة بأنها تعرفه.

هذه «اللعبة» السردية الجميلة والمحكمة التي تبدأ هالة كوثراني بها روايتها، تمنح هذه الرواية فرادتها بوصفها رواية داخل رواية، إن أمكن القول، رواية تتأمّل في الفنّ الروائي بينما هي تمعن في السرد. هالة كوثراني الروائية تبتدع روائية تدعى شيرين درويش لتسند إليها دور الراوية التي هي في صدد كتابة رواية، عن علي كما عن خطيبته الأميركية إيما، كما عن الشاعر رمزي خير، شبيهه أو قرينه، كما عن هدى الفتاة التي نافستها على حبّ عليّ... لكنّ شيرين تعلم جيداً أنها لا تكتب سوى روايتها التي ستكون هي بطلتها. «أنا لا أكتب سيرة وفية لصاحبها، أكتب رواية أنا جزء منها»، تقول شيرين. والكتابة التي رسّختها عودة علي هي ضرب من «الاختراع» كما تعبّر أيضاً. فـ«قصص» علي هي التي مكّنتها من اجتياز مخاض الكتابة الذي عانته طويلاً. ومع أنها تعترف أنها أقنعت علي بكتابة سيرته معه وكأنّه الكاتب والمكتوب عنه، فهي لا تتلكأ عن التقاط زمام السرد جاعلة من علي بطلاً وإن متواطئاً معها في أحيان. فها هي تعترف أنّ الرواية التي تكتبها أنقذت حياتها، مضيفة: «أنا الآن البطلة، الكاتبة والراوية». إنها إذاً الراوية التي تخلق علي «مجدّداً» كما تعبّر وهي على قناعة تامة أنّ ما ستكتبه «سيكون أجمل من الحقيقة». هنا يجد القارئ نفسه أمام شرك روائي تسعى الكاتبة الى إيقاعه في حبائله، تاركة إياه يكتشف بنفسه أجزاء اللعبة ويخرج معتمداً «خيط» أريان الذي منحته إياه الكاتبة.

هذه رواية تقرأ دفعة واحدة. يشعر القارئ أنّه لا يستطيع أن يتركها حتى ينهي صفحتها الأخيرة. فاللعبة التي اعتمدتها هالة كوثراني محبوكة بذكاء، وكأنها لعبة «قرائن»: شيرين (الراوية) قرينة هالة (الروائية)، علي قرين رمزي... إنها لعبة الآخر الذي هو الأنا، أو لعبة الأنا في مرآة الآخر. لعبة وجوه وأقنعة.

مصادفة حاسمة

في مكتبة الجامعة الأميركية (بيروت) تصادف شيرين (الراوية) علي، حبّها الأول، بعد إثنين وعشرين عاماً من هجرته لبنان وأهله وإقامته في نيويورك. هذه الصدفة تقلب حياة شيرين، المقلوبة أصلاً أو «المخرّبة» كما تصفها. هذا حبها الأول، حبها «الطفولي المقدّس»، مثلما تصفه، ينهض فجأة من «مكان معتم في الذاكرة» كانت تركته فيه. وهذه الأعوام التي مضت، جعلت من شيرين شخصاً آخر، وكذلك من علي ومن أمّه التي تحتضر، ومن بيروت والقرية الجنوبية، مسقط رأس علي وشيرين، وكذلك بيت الجدّ في القرية الذي أصبح مهجوراً... رجع علي ليعاود «تركيب حياته» بحسب شيرين. ولكن أي حياة بقيت لعلي كي يعاود ترتيبها؟ هل قصدت شيرين أنها في «ترتيب» حياة علي إنّما تقصد «ترتيب» حياتها؟ هذا السؤال لا يحتاج الى جواب. فالأشخاص جميعاً في هذه الرواية يبغون ترتيب حياتهم. حتى إيّما الأميركية، خطيبة علي، الذي تركته وقطعت علاقتها به.

عاد علي بعدما علم بمرض أمّه واحتضارها. هذا هو السبب الأول والأخير لعودته. لا الوطن يعنيه ولا الأرض ولا الماضي... ولا العائلة، ولا شقيقاته الثلاث. فهو سافر خلسة واختار المنفى الأميركي طوعاً لا قسراً. كان يشعر-ومازال- أنّه مقتلع، والاقتلاع لديه يعني،في ما يعني لديه، أنّه مواطن «معلّق»، ليس منسجماً تماماً مع حياته الأميركية وليس منقطعاً تماماً عن «الجذور»، هذه الكلمة (الجذور) التي يكرهها. هذا الأستاذ الجامعي الذي بدأ حياته فناناً ثم فشل من دون أن يولّد الفشل لديه مشكلة، هو شخص «وجودي»، قلق وحائر ومضطرب، مثله مثل شيرين، الراوية والبطلة في آن واحد. ويكتشف القارئ أنّ علي لم يهجر لبنان هرباً من الحرب فقط، مع أنّه كان يكرهها ويشعر أنّه غريب عنها وعاجز عن حمل السلاح فيها، ولا من المشكلات الماديّة أو المالية الناجمة عنها، بل هجر لبنان هرباً من سطوة الأم. هرب من سيطرة أمّه عليه، كما تقول الراوية من دون أن تؤكّد هذه المقولة. هرب من غرام امه به ومن ضعفه هو حيالها.

وعندما يتحدّث الى شيرين عن أمه يعترف بالأثر الذي تركته أمّه فيه. أمّه التي، كما يقول، سعت الى تحويله «نسخة» منها. لكنه نجح في إفشال مخططها، تركها وابتعد واختار «النقطة الأبعد». وتقول الراوية: «تركها كأنه ينتقم من تعلّقها به»، ومن «ديكتاتوريتها» العذبة. لكنّ أمّه ظلّت حاضرة فيه، على رغم تعمّده تناسيها. ظل يذكر رائحة سيجارتها وعطر شعرها وحبها للرسم والشعر والقراءة... كأنّ هروبه الى أميركا لم يكن إلا هروباً من الأم، تماماً مثلما أنّ عودته الى لبنان لم تكن إلا عودة الى الأم، لكنها الأم التي فقدت ذاكرتها الآن والتي ترقد على فراش الاحتضار.

لم تتوارَ النزعة الأوديبية الكامنة في دخيلة علي، لكنها لم تظهر جلية تماماً. فعلاقته بأبيه الذي توفّي وهو طفل والذي لا يعرفه إلا في الصور، كانت على حال من الجفاء. كان يصعب عليه أن يحب والداً يجهله وأن يتصالح معه ولو ميتاً، أو أن يغفر له تركه إياه، طفلاً. كان علي يجبر نفسه على الظنّ بأنّه جاء من امه وحدها. لكنّ «أوديبية» علي، لا تظهر علانية إلا عندما كان يزور أمه في منزل شقيقته، وهي على سرير الموت. كان يقترب منها، يلصق خدّه بخدّها ثم يستمع الى دقات قلبها كما لو كان قلب امرأة يحبها. كان يشعر في تلقاء نفسه أنه لم يعد ابنها بل صارت هي ابنته أو طفلته، يهتمّ بها بحنان تام قبل أن تعود الى رحم أمها، التي هي الأرض. وكم بدا جميلاً مشهد موت الأم أو لأقل فراقها، لابنها كما للعائلة. كان في تلك الليلة يصرّ على تفقدها في السرير، متأكداً من أنها ما زالت تتنفس. وكان يشعر بخوف داخلي لم يعرفه من قبل، خوف ناجم من فقدانها الى الأبد. وفي «الساعات الأخيرة» اشتدّ هذا الخوف في أعماقه. وعندما انطفأت و «اكتمل غيابها» شعر بصدمة، لكن هذه الصدمة جلبت له شيئاً من الراحة. لقد ماتت أمّه أمام عينيه. كان معها في البيت نفسه والغرفة نفسها، قريبا منها. «لقد ولدت من جديد قبل أن تسلّم حياتها، قبل أن تسلّم الوديعة».

إلا أنّ الراوية (شيرين) لم تكتف بهذه العلاقة بين علي وأمّه، فهي لا تستطيع أن تجد نفسها هنا، داخل هذه المشاعر والأحاسيس التي اعتملت في قلب علي. كان عليها أن تجد «قرينة» في المعنى السردي، تنافسها على حبّ علي وتجعلها تشعر بالخيبة، فلا يكون علي هو «الجائزة»، كما تعبّر، بل «الكتابة عنه هي الجائزة». هكذا تحضر هدى، الشابة العشرينية التي تأسر علي وتوقعه في متاهة جنونها. فتاة يكبرها علي عشرين عاماً، تقوده الى مغامرة لا تخلو من الخطر. إنها بدورها شخصية مضطربة، تحيا شبه وحيدة، والدها الثري في نيجيريا وأمها تعيش حياتها الخاصة، خطيبها السابق غسان تركها بعدما وقع في الفخ الذي نصبته له صديقتها رانية. تعيش هدى حمّى الانتقام وتحاول أن تجرّ علي في سبيلها هذا. ومرّة تسرق المسدّس من خزانة أبيها وتلوّح به لغريمتها رانية وحبيبها السابق غسان. لكنّ علي الذي يفلت من حبائك رانية، لا يعود الى شيرين التي لم يكن بينه وبينها سوى علاقة طفيفة. هي أحبّته، وربما أوهمت نفسها بأنها تحبّه. هي المرأة التي سئمت حياتها وأسرتها وزوجها وعملها في المصرف...

تترك الوظيفة وتطلّق لتعيش الوحدة التي تحب والاستقلال الذي تبغي. تثور على حياتها السابقة، كما تفعل بطلات سيمون دوبوفوار، وتضع أمامها مستقبلاً مجهولاً ولكن «متسلّحة بورقة وقلم»... إنها تريد الآن أن تنصت الى نفسها، تريد أن تكتب، تريد أن تنقذ حياتها بالكتابة... ولم يكن علي، إلا ذريعتها السانحة لتعود الى الكتابة التي كانت تتعثر فيها، ولتنطلق... لكنّ علي الذي أشعل في نفسها جذوة الكتابة لا يلبث أن يرحل. لقد رحل تاركاً لها ظلّه. اختفى من دون أن يودّعها. لم يكتب رسالة اعتذار ولا أرسل «إيميلاً». غادر حياتها وكأنه لم يأت إلا ليرحل. رحل علي من حياتها لكنّه أصبح بطل روايتها. فقدت شخصه، لكنها ربحت ظله: «أكتب بيديه، بأصابع يديه... أكتب بيديّ كلماته وبيديه كلماتي»...

هالة كوثراني، في روايتها الثالثة «علي الاميركاني» ترسخ تجربتها الخاصة التي اختطتها لنفسها، وهي تجربة تجمع بين المراس السردي والثقافة والقدرة على استنطاق الانسان، فردا وجماعة ، والغوص في عالمه الداخلي وحميمياته والاسئلة الوجودية المعقّدة التي تحيط به.

عن موقع جريدة الحياة


صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة"الحياة" جريدة عربية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988 .

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)