قراءات - Comptes rendus de lecture

على ضفاف البحيرة، مصطفى لغتيري (المغرب)، رواية Sur les rives du Lac, Mustapha Laghtiri (Maroc), Roman

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار


 على ضفاف الحب والموت


في روايته الجديدة «على ضفاف البحيرة»، يربط الكاتب المغربي يستقي الروائيّ المغربيّ مصطفى لغتيري بين أسرة بسيطة، ومنطقة سياحية نائية. عمل يقوم على لعبة سردية، أبطالها الأب وابنته وزوجته، لكنّه لن ينجو من الخطابية والمباشرة في بعض الفصول.

هيثم حسين

يستقي الروائيّ المغربيّ مصطفى لغتيري مادّته الروائيّة من جغرافيا الحزن والتهميش، في عمله الأخير «على ضفاف البحيرة» («النايا»، و«محاكاة»، سوريا). يروي لغتيري ما يعترك في داخل المرء الذي يفقد الأمل والرجاء، وما يعترك في قلب المناطق التي تبقى على تخوم الاهتمام الرسميّ، وفي قلب الولع الشعبيّ. يخلق مثلّث السرد محسن، وشمس، وأسماء، ويمنح هؤلاء فرصاً للتعبير عن أنفسهم. يمثّل كلّ واحد منهم زاوية في المثلث، كما يشغل مركزاً هامّاً في سرد الآخر، حيث يكون السارد والمسرود عنه في الوقت نفسه. عبر هذه اللعبة السردية، يلقي لغتيري نظرة ثلاثيّة الأبعاد على الحدث الروائي نفسه. ولن يكسر تبادل السرد بين الأبطال الثلاثة، إلا صاحب المقهى الذي يستلم الحكاية ليروي قصّته وقصّة أجداده في مقارعة الاستعمار، ويفصّل في الظروف المعيشيّة الصعبة التي يعانيها سكّان منطقته النائية التي لا توليها الدولة العناية المطلوبة.

إلى هذه المنطقة بالذات التي يعشقها محسن، ستذهب شخصيّات الرواية في رحلة سياحيّة، بعد إلحاح ابنته شمس، ورضوخ أسماء أمام رغبة زوجها وابنتها. تنطلق الأسرة في الرحلة التي ستشهد حادثاً مأساوياً يشتت شملها: يعود محسن وحيداً وحزيناً، بعد أن يفقد زوجته وابنته.

هكذا، سيُبحر في مستنقعات يأسه وذكرياته. تهيمن عليه المآسي، وتقوده إلى التقوقع على الذات وإهمال أسباب العيش.

ما يؤرقه أنّه كان المتسبّب في الحادثة، وما يزيد من أرقه، أنّه ظلّ حيّاً بعد مقتل زوجته وابنته. على ضوء شعوره بأنّ ابنته تراقبه وتعيش معه، يقرّر ذات صبيحة أنّه سيعود قويّاً كما كان، عساه ينسى الحادثة التي غيّرت مسار حياته. يحاول في مسعى حثيث منه أن يتجاهل وحدته وأساه، ليسترجع تكيّفه مع محيطه، لكنْ رغم كل محاولاته، سيظل رهين الماضي، ليصبح مستقبله استعادة لذلك الماضي، ترتيباً وتبويباً وتأسّفاً ومعايشةً. إذاً، تتقدم الحكاية في اتجاهين متوازيين: رحلة في الطبيعة إلى منطقة البحيرات، ورحلة أخرى إلى الأعماق والذاكرة. الحب هو الرابط بين الرحلتين، وهو النقطة التي تتحكّم في زمام الرواية. ذلك أنّ حبّ محسن للبحيرة والغابة تسرّب إلى ابنته الشاعرة شمس، وفي المقابل، كان حبّ شمس دافعاً للاكتشاف والفضول، ثمّ كان حبّ أسماء لأسرتها الدافع الأبرز لمسايرة جنون زوجها وابنتها، ومرافقتهما. تصل الأسرة إلى البحيرة وتخيّم على ضفّتها، ليكون ذلك مصدر بهجة وولع للأب والابنة، فيما يكون مصدر شقاء وتعاسة للأمّ. وهكذا يكون لكلّ موقف أثران، أحدهما إيجابيّ على طرف، وآخر سلبيّ وأليم على الطرف الآخر، كما تصير البحيرة سبباً للوساوس والتوجّسات للأمّ، وباعثة على الشغف والاستمتاع للأب وابنته. الرحلة إلى البحيرة تمرّ بالكثير من المنعطفات والمنعرجات والتضاريس الخطيرة، يوضح من خلالها الروائيّ حجم الإهمال الذي تتعرّض له تلك المنطقة، والبؤس الذي يسودها، كما يشير إلى الخلافات التي تسِم العلاقة بين السلطة وسكّان تلك المناطق. لا يخفى أنّ الكاتب ينحدر إلى المباشرة في أكثر من فصل، ولا سيّما في تركيزه على الحديث عن نضالات أبناء تلك المنطقة، ومساهماتهم في التحرير وبناء البلد، كأنّه في صدد إلقاء خطاب يقارن فيه بين الماضي والحاضر، وتداعيات ذلك كلّه على
المستقبل.

عن موقع جريدة الأخبار
العدد ١٧٥٠ الجمعة ٦ تموز/يوليو ٢٠١٢
ادب وفنون


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



موقع الحوار المتمدن


 الفصل الأول من الرواية


مصطفى لغتيري
الحوار المتمدن - العدد : 3723 - 2012 / 5 / 10 - 11:34
المحور: الادب والفن

محســن

مع تباشير الصبح الأولى، انسلت أشعة الضوء عبر شقوق النافذة. تدريجيا أحالت الغرفة المظلمة إلى باحة للضوء، الذي انطلق من أعلى، من الزاوية القصوى، حيث ركزت بصري شيئا فشيئا، وقد اخترقني صحو مفاجئ، أحسست معه بحيوية وصفاء ذهن افتقدتهما منذ زمن بعيد. شيء من الأمل بسط يديه الغضتين على نفسي، فامتلأت باللحظة الآنية، شعرت بالقوة والعنفوان، يكتسحان جسدي وروحي، وكأنني أصبحت إنسانا آخر بعث من جديد في هذا الصباح، إنسانا لا علاقة له البتة بذلك الذي كنته حتى ليلة أمس. إنني هنا، في هذا المكان بالذات، وفي هذا الزمان عينه، أضحى الماضي بالنسبة لي أشلاء متناثرة، فقدت القدرة على تكبيلي بين أغلالها المتعفنة.

انتصب القرار أمامي، أراه ثابتا مستقرا أمام ناظري، فلم أجهد نفسي في دفعه أو تأجيله إلى وقت آخر. هكذا قررت أن أبدأ من جديد. ما حدث قد حدث، وليس بإمكاني – مهما تألمت أو حزنت – أن أغير مجريات الأمور. أبدا لن أستطيع إعادة عقارب الزمن إلى الخلف، وأصحح ما يمكن تصحيحه. هذا الإحساس بالذنب، الذي استسلمت له زمنا طويلا، وهذه اللاجدوى التي عشت في كنفها لا فائدة منهما .. لقد نلت حقي من التبكيت ولوم النفس، بل وتحملت ما فوق طاقتي. لكن، الآن، وليس في أي وقت آخر، لابد لي أن أبدأ من جديد، وأن أعيد ترميم حياتي بشكل لائق. رغم كل شيء فالحياة تستمر، ويتعين علي أن أرمي نفسي من جديد في قطار الحياة، لن يفيدني في شيء أن أظل على هذه الحال. فمنذ الحادثة اللعينة، أغلقت الأبواب دوني، واعتكفت في دواخلي، أجتر مرارتي، لا أسمح لنفسي بأن تتعدى المساحة الوهمية التي حددتها لها وألزمتها بها. اتخذت مسافة بيني وبين الناس، حتى كدت لا أحدث أحدا إلا للضرورة القصوى.

قررت أن أهمل نفسي إلى أقصى الحدود. ما حدث ذلك اليوم المشؤوم هيمن على نفسيتي وتفكيري، فلم أعد قادرا على النظر إلى الحياة والتعاطي معها إلا من خلال ما وقع. تقلص العالم في ناظري وتحول إلى مأساة، تلقي بثقلها على وجودي. كان لزاما علي آنذاك أن أهمل أسباب العيش وأتقوقع في داخلي، أتقلب في تنور الذكرى المؤلمة، التي حولت كل شيء أمامي إلى دبابيس تنغرس في القلب، فينزف بلا توقف ولا رحمة.

تجولت بنظري في أرجاء الغرفة. تدريجيا اتضحت معالمها، استقر بصري على الأثاث الذي طالما وجد في مكانه بالغرفة، فبدا لي مختلفا. كل شيء مختلف هذا الصباح. ذلك الصفاء الذي اخترقني فجأة طال كل ما حولي. أنا الآن على يقين أن حياة جديدة تنتظرني.

إنها تفتح أحضانها واسعة لتضمني إليها. لقد آن الأوان لأخرج من قوقعتي، وأنطلق في درب الحياة الرحب. غادرت سريري بخفة غير معتادة، خرجت من غرفة النوم، واتجهت نحو الحمام. توقفت أمام المرآة، نظرت إليها بتمعن. على سحنتي لمحت كثيرا من الألفة التي افتقدتها منذ زمن. أدرت الصنبور، تدفق الماء من الرشاش، كان الماء باردا وهو يتدفق على جسدي، ثم ما لبثت حرارته أن ارتفعت، ليفت جسدي بالصابون، ثم خللت شعر رأسي بكثير من المتعة والانتعاش، وحين انتهيت من ذلك، تمددت في حوض الحمام، تركت الماء يرشني للحظات من الزمن، كانت كافية، لتشعرني بمدى التحول الذي أقدم عليه، إنها بحق مرحلة انتقالية، ولن أتهاون في استثمارها والمضي فيها إلى أقصى حد .. بعد فترة من التمدد في الحوض، غادرته، تناولت فوطة ونشفت نفسي بحيوية ملحوظة وقد اندلق من فمي لحن جميل لأغنية تعجبني، لم أرددها من زمن بعيد. تقدمت نحو المرآة من جديد، نظرت إلى نفسي بتمعن فلاحظت شيئا ما، لم ألحظه في نفسي منذ أمد بعيد.. كنت – حقيقة – أشع بشرا، مما رسخ في ذهني أنني لا بد ناجح في مسعاي، فما علي سوى أن أفتح أحضاني للحياة، فأبادلها إقبالا بإقبال.

ابتسمت .. عمدت إلى أدوات الحلاقة .. مررت الرغوة على امتداد ذقني .. تأملتها للحظات. بعث بياضها في نفسي بعض النشوة، ثم ما لبثت أن أمسكت الشفرة، وطفقت أتتبع البياض بدقة، حين كشطت آخر ندفة منه، اكتسى وجهي بلمعان واضح. ابتسمت من جديد، ثم رششت وجهي بحفنات من الماء .. غادرت الحمام، وقد عرش في وجداني نوع من الابتهاج. تمددت على أريكة، في انتظار أن أستجمع أنفاسي. مددت يدي نحو جهاز التحكم، ثم صوبته نحو التلفاز، أغمضت عيني، فطفرت إلى مسمعي ألحان بديعة لأغنية شرقية راقية. كانت فيروز تطلق في الأجواء فرشاتها البديعة، تحلق في فضاء البيت، وتحط على الأثاث لتزركشه بألوانها الجميلة، ثم لا تلبث أن تطير جماعات، فيحدث رفيفها نسيما لطيفا، يداعب بشرتي، ويتسرب إلى أعماقي. أفتح عيني ثم أغمضهما بانتشاء، وسرعان ما غفوت غفوة خفيفة، أيقظني منها تغير الأغنية، إذ احتلت الشاشة مذيعة تعلن عن برنامج جديد. تناولت جهاز التحكم، وأخمدت أنفاس التلفاز، وانقذفت من جديد في إغماءتي وصدى الأغنية التي جادت بها فيروز يدغدغ خيالي.

حين طردت النوم من عيني، اخترت بعض ملابسي، ارتديتها بكل ما أملك من توهج، وأنا أتماهى مع لحظات الصفاء التي تشع داخلي.

دلفت نحو غرفة المكتب، أشعلت النور، ثم ما لبثت أن أطفأته، تقدمت نحو النافذة، فتحتها، فغمر الغرفة ضوء الشمس الفاتر.

جلست إزاء مكتبي، أخذت أقلب أوراقي، التي أهملتها لمدة من الزمن. فمنذ ثلاثة أشهر لم أقم بأي عمل، فقط استسلمت لاجترار المأساة، كانت بقايا صورها تترد في ذهني، فلا تترك لي المجال سانحا لفعل أي شيء. حين تحضر في الذهن، أشعر بثقل ينيخ على صدري، أتنفس بصعوبة، ثم سرعان ما يتحول ذلك الضيق في التنفس إلى صداع مرير في رأسي، يصاحبه شرود مزمن لا يكاد يفارقني، أعيش – تحت وطأته – تفاصيل الأحداث، وكأنها تقع في تلك اللحظة بالذات. أراها أمام ناظري بأدق تفاصيلها فتصيبني بانتكاسة تعيدني إلى نقطة البداية.

كان الحادث مفاجئا. ولا مقدمات له. هكذا حدث فجأة في الوقت الذي كنت أعد فيه نفسي لأمور شتى، تشي بأن الحياة تفتح لي أحضانها، وتقدم لي هدية تلو الأخرى، حتى وطنت نفسي على الإحساس بأنني بمنأى عن أي خطر. اشتغلت زمنا طويلا بجدية وصلابة، حتى ظننت نفسي في منأى عن أي مكروه، فإذا بكل ذلك مجرد سراب كاذب تعلقت به نفسي لردح من الزمن. إنه عبارة عن قصر منيف من ثلج شديد البياض، تتعلق به النفس، إنه لامع ومثير لكنه هش، فما إن تشرق الشمس وتسلط عليه أشعتها الدافئة حتى تأتي عليه قبل أن يرتد للمرء طرفه. أمامي رأيته يتهاوى ولم أملك القدرة للذود عنه، فأصابني إحباط لا قدرة لي على مقاومته....

مشاريع شتى على المكتب.. مشاريع لم يكتب لها النور، أصابتها الحادثة اللعينة برذاذها الطائش، فطالها النسيان. لكني اللحظة سأحاول أن أبعث فيها الحياة، أبدا لن أستسلم بعد اليوم لحالة الخمول والعبث التي هيمنت على تفكيري ووجداني .. “إنها الحياة” هكذا قلت في نفسي خلسة، عازما على بناء ذاتي من جديد. سأنطلق بقوة وأستعيد ما سلبه الدهر مني... أملك العزم والقوة لفعل ذلك، ولن أتنازل عليه.

كنت معتزا بأسرتي، ربطت نجاحاتي المتواصلة في العمل بتواجدها. بطريقة ما كانت محفزة لي ومشجعة على التفاني في العمل. كانت بمثابة ذلك القبس من نور دائم التأجج، يمدني بالدفء والطاقة، لأشعر دوما بأنني في مهمة سامية، يتحتم علي النجاح فيها، حين يخالجني كلل ما أو تعب، كان يكفيني أن أتسلل إلى غرفة “شمس”، فأراها تتمدد في سريرها، تداعبها أحلام الليل اللطيفة، فيما ارتسمت على شفتيها ابتسامتها الجميلة، وقد اكتست سحنتها بسيماء البراءة واللطف، كان ذلك كافيا ليشع في قلبي وذهني نور متلألئ وهاج يطيح بكل ما علق بالنفس من تردد أو كلل، أطبع على جبينها قبلة خفيفة، أرتب الغطاء فوقها، ثم أقفل عائدا نحو المكتب، لأنكب على عملي من جديد.

كل تصاميمي الهندسية تقريبا حازت إعجاب المستثمرين العقاريين، فحققت النجاح تلو الآخر، أشعرني كل ذلك بالفخر، وعبد أمامي طريقا سالكا نحو التفوق والنجاح. حين أمر بسيارتي أمام إحدى البنايات البديعة الشامخة، أشير إلى زوجتي “أسماء” وابنتي “شمس” بأصبعي نحوها، ثم أقول لهما بكثير من الحبور: “هذه البناية من تصميمي”. تنظر “أسماء” و “شمس” إلى البناية بإعجاب معبرتين عن فرحتهما بذلك، لم تكن “شمس” تكتفي بذلك، بل كانت تصر على أن نتوقف قليلا، لألتقط لها صورة مع تلك البناية، وهي تكلل وجهها بابتسامتها المتألقة الرائعة، تلك التي تتملك لبي وتأسرني بسحرها الأخاذ. كان تصرفها هذا يشعرني بإحساس فريد، لا مثيل له. حتى أنني كنت بين الفينة والأخرى أتعمد المرور من أمام كثير من البنايات التي وضعت تصميم بنائها، حتى أظفر بهذا الإحساس الرائع. كنت أحس بأن شمسا تشعر بمدى الفرح الذي تبثه في قلبي حين تطلب مني أن ألتقط لها صورة مع البناء، فتواطأت معي – بلا اتفاق مسبق- على ذلك، في حين كانت “أسماء” تحضننا من وراء زجاج السيارة بنظرات حانية، تدثرنا بلطف وحدب، ونحن نندمج – أمام ناظريها – في هذه اللعبة الجميلة، وحين نعود إلى السيارة كانت تعلق قائلة: “أنت وابنتك مجنونان”.

كنت ألزم الصمت حينها، لكن شمسا باندفاعها المعهود كانت تدافع عن تصرفنا، وكانت ترد عليها قائلة:

“إنني أعد ألبوما لتصاميم أبي، سأعرضها يوما في معرض ما، وسترين”.

كل ذلك هوى، تحطم في لحظة واحدة، لحظة مجنونة، لا منطق لها، وكأنها خارجة عن سياق الزمن، لحظة توقف فيها منطق الأمور، وأخذ الزمن حينها مسارا عبثيا، عصيا عن الفهم. كل الآمال والأحلام التي شيدتها لبنة لبنة، وارتفع بناؤها حتى أضحى صلبا شامخا لا يمكن اختراقه، أضحى أشلاء وشظايا يصعب لملمتها وتشكيلها من جديد.

نظرت بتمعن إلى أوراقي. تطلعت إلى الرسومات الناقصة. ركزت على الخطوط المنتشرة على امتداد الصفحات، إنها مشاريع واعدة، لكنها لم تكتمل. اليوم أشعر بأنني على أهبة الاستعداد كي أبث فيها الحياة، إخلاصا لذكرى الحبيبتين. لا بد أن أكملها، وأن تكون على أحسن ما يرام، في أبهى حلة ممكنة.. إنها هدية إلى “شمس” و “أسماء” اللتين عبثت بهما يد القدر، فلم ترحمهما، ربما لهذا السبب بالذات نجوت من الحادثة، فللأقدار تصرفها الذي لا يمكن - في كثير من الأحيان – فهمه أو الوقوف على جدواه.

دققت النظر تدريجيا في الرسومات، وفي يقيني أنها سرعان ما ستستقيم بين يدي. بالضبط كما كان عليه الأمر حين كان دفء الحبيبتين يحيط بي من كل جانب، ويبعث في نفسي الإلهام والقوة على الإنجاز.

سأجعل من أجمل الذكريات التي جمعتني بهما، وعشتها صحبتهما نبراسا أستضيء به، ينير طريقي، فأمضي فيه حثيثا، بإصرار وعزم، حتى أصل إلى مبتغاي.. لقد أخذت قرارا لا رجعة فيه بأن أنضو عني ثوب الحزن، وأن أتخلص مما عشته لشهور في كنف الألم والحسرة. أبدا لن أستحم – منذ اليوم- إلا في بركة صافية، يتدفق ماؤها من ينبوع الصفاء، المنبثق من الذكريات اللامعة والجميلة، سوف تكون هذه الذكريات الزاد الذي يرفدني ويدعمني في المسار الذي أراه طويلا ومشرقا. كلما شعرت بالوحدة والخواء ألتجئ إلى شمس فتضيء ببسمتها الخالدة، التي لن أنساها أبدا، درب حياتي.. في تلك اللحظة بالذات حضرت في ذهني “شمس” ببهائها الأزلي ... لا أستطيع رؤيتها بعيني المجردة، لكنني أشعر بوجودها، حتى أن سمتها الجميل تردد خياله في غرفة المكتب فأسكرني عبيره الفواح. ثم ما لبثت “أسماء” أن رافقتها، وكأنهما حضرتا في هذه اللحظة بالذات، ليشدا من عزمي، ويباركا اختياري الجديد، في أن أرمي وراء ظهري كل الأحزان وأستمر في طريقي، مصحوبا بمباركتهما لي.

انكببت على عملي الذي أحبه، وأبدعت فيه زمنا، فأخذت الرسوم تخاطبني بلغتها الخفية، الصامتة.. تلك التي أتقن الاستماع إليها وأفهم رموزها.

كان يتعين علي أن أنجز تصميما هندسيا لمركب سياحي، سيشيد في ضاحية مدينة الدار البيضاء، على مشارف الشاطئ. كنت قد بدأته قبل الحادثة، لكنني أهملته بعد ذلك، من حسن حظي أن تاريخ تقديم التصاميم لا يزال بعيدا. وأنا اللحظة أشعر بنفس الحماس الذي كان يميز عملي قبل الحادثة، بل أحسه أكثر عنفوانا. الإصرار ينبني في داخلي بلبنات صلبة، لا يمكن قهرها. تناولت عدة العمل، وطفقت أرسم خطوطا افتراضية، علها تشق لها طريقا نحو تصور واضح .. سبق لي أن قمت بجولات عدة في كثير من البلدان واطلعت عن كثب على أنواع عدة من التصاميم الهندسية. كنت دوما معنيا بمزج لمسة الشرق الساحرة كما تعبر عن نفسها في دول كتركيا وإيران والعراق والأندلس، ولمسة التحف الأوربية في كل من إيطاليا والنمسا وغيرهما، دون أن يفوتني أن أقدم ذلك في إيهاب عصري، أستلهمه من العمران الحديث في أمريكا الشمالية وبعض إمارات الخليج العربي خاصة في مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة.

هذا الحضور الزئبقي لشمس وأسماء حفزني على العمل، فلم أستكن إلى الخمول أو التأجيل، ظهرت في أعماق الرسومات صورة شبه واضحة لما أطمح إليه. لا أدري كيف استقر في ذهني أن أستثمر في تصميمي الموعود طبيعة المنطقة التي شهدت الحادثة. هناك في أعماق جبال الأطلس. لا بد أن يحمل التصميم بصمة من المنطقة وبذلك سأكون قد خلدت المنطقة التي أحبتها “شمس” وأحببتها أنا كذلك، لكن الزمن غدر بنا هناك، حيث لم نكن أبدا نتصور ذلك.

أمور العمران تتغير في البلد، وقد ولج فاعلون جدد الميدان، وخاصة تلك الشركات الخليجية العملاقة التي فتحت الشواطئ المغربية شهيتها لتوسيع مجال استثمارها في المغرب. لهذا كان لزاما علي أن يكون عرضي مقنعا حتى ينال استحسان المستثمرين، فالمنافسة على أشدها.

في قرارة نفسي كنت مطمئنا، لأني قادر على ابتكار تصاميم جديدة تجمع بين الطابع المغربي والشرقي عموما، وبين الطابع الغربي الذي يبدو أنه استبد بلب الخليجيين، فأضحت كل بناياتهم تشيد على نمطه.

عن موقع الحوار المتمدن

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)