مقال جريدة القدس العربي
جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8664 الجمعة 2 كانون الأول (ديسمبر) 2016 - 3 ربيع الأول 1438 هـ
أحمد مجدي همام - روائي مصري
«طُبِع في بيروت» لـ«جبّور الدويهي»… سيرة الطاووس الأعرج
يستخدم الروائي اللبناني جبّور الدويهي، تاريخ الطباعة والمطابع في لبنان، كواحد من المحرّكات الرئيسية في روايته الأحدث «طًبِع في بيروت» الصادرة عن دار الساقي للنشر. معلومات وشذرات تاريخية منتخبة يبثّها الدويهي بطول روايته، في معرض حديثه عن مطبعة «كرم إخوان 1908» التي يلتحق فريد أبو شَعر، بطل الرواية، للعمل فيها كمصحح لغوي.
يغزل الدويهي هذا الرافد المعرفي، بالدراما، حيث يدخل فريد أبو شعر، الذي خط كتاباً سماه «الكتاب»، إلى سوق النشر، باحثاً عن منفذ ينشر عبره ذلك الكتاب، فتقوده خطواته للتورط في لعبة كبيرة جداً، أكبر منه، وعابرة للقارات، عندما يجد نفسه متهماً في قضية دولية حول طباعة العملة المزوّرة من فئة العشرين يورو. زار أبو شعر مطبعة كرم إخوان لطباعة كتابه، وهناك، عُرِض عليه أن يتولى مهمة التدقيق اللغوي، وتم إرجاء نشر كتابه. وافق أبو شعر على العرض، وتحوّل من كاتب إلى موظف في المطبعة، حيث باتت صناعة الكتب عبئاً على أصحاب المطابع، مقارنة بطباعة المنشورات الإعلانية والانتخابية، وبيانات المليشيات المسلّحة، وحتى طباعة الكتب المدرسية.
علاقة عابرة تجمع بين أبو شعر، والسيدة بيرسيفون، زوجة عبد الله كرم مالك المطبعة ومديرها، ورغم أن تلك العلاقة لم تُكتشف ولم تنتشر، إلا أن فريد أبو شعر دفع ثمنها كاملاً، عندما تم الزج به في السجن بعدما أدين بتهمة تزوير العملة. غير أن الحقيقة هنا هي أن التزوير كان يتم بمعرفة عائلة عبدالله كرم، وبالتعاون مع عائلة حسين الصادق، وباستخدام ماكينة طباعة هايدلبرغ بأحدث طراز.
وعلى امتداد 36 فصلاً، يحكي الدويهي، الصدفة الكبرى التي تحوّل أبو شعر من خلالها من مجرد ساع لنشر كتاب، إلى شخص يقضي حكماً بالحبس مدة ثلاث سنوات. كذلك يقدم الدويهي، شذرات لشخصيات كثيرة، وقصص فرعية تنبت جميعها من جذع الحكاية الرئيسية، فتتحول تلك الشخصيات إلى ما يشبه شظايا مرآة مهشّمة، تقدم انعكاسات صغيرة وصوراً مبتورة، من المجتمع اللبناني، ومن تاريخ صناعة النشر في هذا البلد الذي كان أول من أدخل المطابع إلى الشرق الأوسط والبلدان العربية.
يقدم الدويهي تلك الحكاية الرئيسية وحكاياتها الفرعية عبر لغة متباينة، تراوح أحياناً بين التقريري والوصفي المحايد، لغة كافية لتطوير الأحداث ورصد النقلات الدرامية. وعلى الجانب الآخر، ثمة جمل طويلة حكائية، لا تقدم أحداثاً، بقدر ما تصبغ الرواية بروح خاصة، ليست شعرية، لكنها تبدو كذلك، تبدو ناعسة وكلاسيكية وذات لون حائل: «كانت الردهة تنعم هذه الليلة بهدوء تلمع فيه إشارات ملوّنة تبقى مضاءة في الآلات الحديثة ويقطعه صفير الكهرباء وأزيز محركات التهوية التي لا تنام، بينما ساكسفون جون كولتران مايزال يصل إلى مسامعها مصحوباً بنباح شبان سكارى في وجه القمر الكامل الساطع فوق المدينة وهي تنزل درج الحجر حافية القدمين». وفي هذه الفقرة لم يحتج الدويهي إلى علامات ترقيمية كثيرة، فقط فاصلة واحدة.
الشاعر الساذج يتحّول إلى مجرم
تنبت الروايات الجيدة من أرض الشك، أرض البين بين، بينما تنبت الملاحم من أرض الأبيض والأسود، الانتصار أو الهزيمة، الخير أو الشر. وفي رواية «طُبِع في بيروت»، تبدو الأمور كلها بين بين، هي سيرة حياة، فريد أبو شعر الأخ الأصغر المدلل الذي يعيش مع أمه، يراوح بين موهبته الأدبية ووسامته وإيمانه اللامحدود بقيمة كتاباته، وبين سذاجته المفرطة وخبراته المحدودة، طاووس أعرج، فالشاب الذي يتفاخر بأنه «وُلِد في لغة تغلب» تدليلاً على فصاحته ومعرفته باللغة، هو نفسه من ستقوده بعض الكلمات، إلى مصير أسود، وحتى المصير الأسود نفسه يبدو عبثياً تماماً، ففريد أبو شعر تحوّل إلى حكّاء الزنزانة ومؤنس المحابيس، وخرج منها بأفكار تملأ رأسه عن كونه عاشقا مغوارا لكن خصمه أوقع به.
شخصية عبدالله كرم أو (دودول)، شخصية رمادية كذلك، ضعيف بجسده المفتت إثر انفجار شوّه وجهه. وعنيد في أعماله وتجارته السرّية طباعة العملة المزوّرة. بيرسيفون أيضاً، وأيّوب صاحب ماخور لوس لاتينوس، عربيد طيّب. أما كيف صار الشاعر والمدقق اللغوي متهماً، فقد حدث أن وقع مخطوط كتابه، أو الدفتر الأحمر، في يد السيدة بيرسيفون التي عهدت إلى المعلم أنيس الحلواني بطباعة نسخة واحدة منه، مطبوعة على أفخم ورق، ومغلّفة بشكل مميز، ووضعت تلك النسخة على مكتب فريد، وهذا الأخير شعر أن حلمه تحقق أخيراً. واحتفظ بتلك النسخة المطبوعة من كتابه والتي لا يعرف من طبعها. ومن جهة أخرى كانت شرطة الأموال تواصل مجهوداتها لحصر المطابع التي تمتلك آلة طباعة متطورة تمكنها من طباعة عملة مزورة عالية الجودة يصعب تمييزها عن الأصلية، وهكذا تم التوصل إلى مطبعة كرم إخوان، بعد أن وصلت رسالة مجهولة المصدر إلى المحقق الهولندي الذي يتولى التحقيق في القضية. وهكذا تحول كتاب فريد أبو شعر إلى دليل إدانة له، لأن الورق المستخدم فيه هو الورق المستخدم في طباعة أوراق البنكنوت.
بيروت.. مدينة رمادية
كما ترد في العنوان، تحضر بيروت بكثافة في رواية جبور الدويهي، ويحضر معها تاريخ طويل للمدينة، إبان الحكم العثماني، وحتى الوقت الحاضر، إذ تتنقل مطبعة كرم إخوان بين الأحياء والضواحي، وفقاً لما تؤول له ظروف المدينة.
«الأشياء ليست كما تبدو في المرآة»، جملة ترد على لسان إحدى شخصيات «طُبِع في بيروت»، إشارة إلى اختلاف أحجام الأشياء في الواقع عن مرآة السيارة، وهذه الجملة تكاد تصف حضور المدينة في الرواية، وحتى حال عائلة آل كرم ومطبعتهم، تلك التي طبعت الدستور اللبناني ذات يوم، وظلت لسنوات تتمتع بسمعة جيدة، لكن انتهى بها الأمر إلى أن يحرقها أصحابها، تخلّصاً من آثار جريمتهم، وكذلك للحصول على مبلغ التأمين الكبير. وبقدر حضور التوصيف البصري، ومشهدية السرد في مواضع عديدة، جاء تناقض هذه الرؤية الواضحة المحددة، مع رمادية الشخصيات، ليصنع أجواءً ضبابية كابية حول الأحداث، يساهم في ذلك الإيقاع الهادئ والمتشعّب للسرد. هكذا حملت «طُبِع في بيروت» هذه الروح الرمادية، التي لم تنصف أحداً ولا تدينه، بقدر ما عرضت حياة أولئك الأبطال ومدينتهم، بيروت.
عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf
عن صحيفة القدس العربي
القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.
مقال جريدة السفير اللبنانية
جريدة السفير
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 25-10-2016 على الصفحة رقم 10 – ثقافة
ثقافة / السفير الثقافي
حسن نصّور
«طُبع في بيروت» لجبور الدويهي.. سيَرٌ في حياة مطبعة
طُبع في بيروت» رواية جبور الدويهيّ (مواليد 1949) الجديدة هي، في الأرجح، سيرة مطبّعة. والسيرة، هنا، ثمينةٌ ونادرة إذ إنها تفترق عمّا يُتوسل به عادة في القصّ من أدواتٍ السير. يتأسّس الافتراق على نوعيّة «الثيمة» الرئيسيّة. ثيمةٌ تحيل إلى واقعة تأسِيس مطبعة في بيروت مطلع القرن الماضي. بهذا، يكون، من نافل القول، إن سيرة مطبعةٍ بما تختزنه من هوامش سرديّة مدمجة في مسارب تاريخها فضلاً عمّا تحيل إليه من صلات باللغة والنشر والكتابة عموماً هو هيكل سرديّ فارقٌ بالغ الإغراء.
تقصّ الرواية سيرة مطبعة «كرم إخوان، 1908» على أن واقعة تأسيسها بحدّ ذاته يتحدّد في لحظة تأريخيّة مفصليّة هي انسحاب آخر العثـــمانيين من بيروت. يوكل الأتراك، إلى عبد الحميد الحلواني البيروتي، عامل الطباعة الماهر، نقل مطبعة «دير القديس يوسف للآباء اليسوعيين»، حيـــث يعمل، بالعربات إلى دمشـــق قبيل الانســـحاب. على أنّ تسريع الخروج من بيروت سوف يبقي المطبعة في عهدته. ثمّ ما يلبث أن يشترك مع فؤاد كرم البيروتي ذي الأصل الحلبي في حيازتها.
عمليّاً، يتمحور سياق الأحداث الرئيسيّ سردياً في الزمن الراهن. ونعني في حقبة أحفاد فؤاد كرم والحلواني. والسرد إذ يحيل في تفريعاته، إلى تنويعات ثمينة وممتعة، حَدثية أو سياسية أو تقنية تتعلق بالمطابع وسياقات العمل التحديثيّ عليها أو نَسَبيّة عائلية واجتماعية يتطلبها المبنى السرديّ، فإن السرد، في العمق، يبقى منجذباً إلى مزاج واحد من الشخوص الرئيسيين. وقد لا نبالغ في القول إنّ هذا المزاج السرديّ للنص يكون منقاداً، بدرجة كبيرة، إلى محوريّة الشاب حامل المخطوط الشعريّ «فريد أبو شعر»، الذي بعد لأيٍ ومعاناة مع أكثر أغلب دور النشر، يجد نفسه مصحّحا لغوياً في مطبعة الحفيد «عبدالله كرم». يقع الشاب في غرام زوجة ربّ عمله الفاتنة «بيرسيفون». على أن تورّط أصحاب المطبعة في عمليات تزوير عملة ومن ثمّ انفراط عقد المطبعة يسوق الشاب إلى حكم ملتبس بالسجن ثلاث سنين إذ يتبين للمحقق أن النسخة اليتيمة من ديوان فريد أبو شعر والمطبوعة على نحو سريّ باتفاق بين الزوجة وأنيس الحلواني المشرف هي نسخة تطابقُ أوصافُ ورقها وصفَ ورق العملة. «أخذ والد أنيس المصلحة باكراً عن أبيه. عبد الحميد بدأ بسبك الأحرف، أما مصطفى فامتهن الصف. هو أيضاً بدأ بالعمل عند آل كرم حتى انتفت حاجتهم إليه. كان أعسر وحادّ الطباع، يرتب الحروف في رفوفها وعلبها على طريقته الخاصة. يضع الشمسية منها الدال والذال والصاد والضاد في الرف الأعلى وتحتها في علب موازية والحروف القمرية مثل الحاء والخاء والميم والهاء. هذه بدعته. فكان إذا تغيّب عن العمل وجد الصفّيف البديل صعوبة بالغة في التأقلم مع هذا الترتيب الفريد. (ص. 75).
تتأتى متانة الأسلوب السرديّ عند الدويهي من بساطة القصّ. لكنها بساطة نادرة لا تتوسّل بأي نحو تلك الفانتازيات اللغوية أو الإغراقات الوصفية المبالغة التي تثقل غالباً الشخوص والأمكنة. وهو سرد لا يتوسّل «ديالوغات» طويلة بل ينحاز الراوي فيه إلى ما يستدرجه هذا النمط السردي من إنشاء مسافة آمنة عن الشخوص أو الإدماجات التأريخيّة أو المبنى الروائي عموماً. نتحدث عن قصّ سلس وفصول محسوبة إذا صح التعبير. إنه سردٌ يثرى أيضاً من القدرة الفائقة على إقامة الشخوص والأحداث في مجالات نفسانية يعرف الدويهي جيداً أنها تصلُ المتلقي ومن خلال إحالاتها إلى شبكة لامتناهية من التصورات الشعورية من قبيل تلك النوستالجيات المتجذّرة المتصلة بالمكان، بيروت، وبالاجتماع البشريّ الشديد الثراء والتنوّع في قلبها.
تتبدّى في نصّ صاحب «مطر حزيران» (2006، اختيرت ضمن اللائحة القصيرة لجائزة بوكر في دورتها الأولى) ـ وتحديداً من خلال شخصيّة الشاعر «أبو شعر»، مصحّحِ اللغة العربية ـ تلك الإشارات اللغوية والتطعيمات التراثية (أسماء أعلام ومخطوطات..) التي تحيل إلى مجالات خلفية هي مصادر تساهم بقدر في تشكيل مادّة الدويهي النصيّة. مصادر قد يقصد الدويهي من خلال إبرازها على هذا النحو وعلى الرغم من كون السياق السردي يتطلّبها، إبرازَ معنًى ضمنيّ فيما يتّصل بالهوية الكتابية الروائية باللغة العربية. وأن مصادر النحو وأمّهات الكتب تبقى، في مستوى من المستويات، مصدر ثراء معجميّ من غير الممكن إغفاله في مجمل اشتغال كتابيّ أو في مجمل تحوّل أسلوبي حداثيّ ينحو للتبسيط والتخفيف، في بنية العبارة السردية العربية.
تُبرز أعمال صاحب «شريد المنازل» (2010)، في العمق، تفصيلاتٍ ثمينةً في ما يتّصل بالجماعات اللبنانيّة. تفصيلاتٌ تعمّق الرؤية إلى الصلاتِ المتفاوتة البـــينية لتلك الجماعات (حروب أهلية...) أو من ضمن الجـــماعة نفسها.. إنه نبرٌ سرديّ ذو مسحة تأريخيّة بالغة الخصــوصيّة. نبرٌ يتسلل إلى فكرة الجماعة الطائفية أو الإثنــية من أمكنة أو مجالات تحتية وهامشية قد تعجز الأنواع التعبيرية الكتابية الأخرى عن بلوغها على هذا النحو. فشخوص الدويهي تتعدّى غالباً أوصافَها المباشرة لتشــكل من خلال سمــــة شخصية أو عائلية أو مفردة أو طريقة في الســــلوك ما يشبه شيفرات يحدس القارئ بما تحيل إليه في الحـــقل أو في المجال المــــدينيّ/ القرويّ التأريخي اللبنانيّ من استدراجاتٍ في مخيال الجماعة.
عن موقع جريدة السفير اللبنانية
صدر العدد الأول من جريدة السفير في 26 آذار 1974، وكانت ولا تزال تحمل شعاري “صوت الذين لا صوت لهم” و “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
اليوم، وبفضل تقنيات الاتصال الحديثة والإنترنت، تخطت السفير مصاعب الرقابة والتكاليف الباهظة للطباعة في الخارج وتمكنت من الوصول إلى قرائها في القارات الخمس.
تتضمن صفحات السفير الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
وتتولى تغطية الأحداث اليومية مجموعة صحفيو السفير ومراسلوها في واشنطن وباريس ولندن والقاهرة وفلسطين ودمشق وعمان وموسكو وروما وبون، مستعينون كذلك بالخدمات الإخبارية التي توفرها وكالات الأنباء العالمية.
لقراءة المزيد
مقال جريدة جريدة الحياة
السبت، ١٥ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٦
جريدة الحياة
كاتيا الطويل
جبّور الدويهي يروي بيروت المطبعة
أستعاد جبّور الدويهي في روايته «طُبع في بيروت» (دار الساقي، 2016) المقولة القديمة «مصر تكتب، بيروت تطبع، والعراق يقرأ» في سياق من السخرية الجميلة والمبطنة. إنّما هذه المرّة لم تُطبع في بيروت كُتُب الشعر أو النثر. لم تُطبع صفحات الأدب. هذه المرّة ما طُبِع في بيروت هو العملة المزوّرة. عملة تكبّد الإنتربول مشاق كبيرة لاكتشاف مصدرها. بحثٌ وسهر ومحقّقون وصلوا أخيرًا إلى مطبعة «كرم إخوان». إلى بيروت: المطبعة الأولى.
خان الكاتب اللبنانيّ الزغرتاويّ الشمالَ هذه المرّة، خان حيّ الأميركان وإهدن وطرابلس. جعل بطله يحمل مخطوطته وينزل إلى بيروت حيث تشرّد على أبواب المطابع ليجد من ينشر له كتابه الأول الذي بدا أنه الأخير. ومَن يظنّ أنّ بيروت ستكون صعبة المراس على الدويهي فهو مخطئ. فالكاتب عالم بأسرار هذه العاصمة النهمة التي تبتلع الكتّاب وتقرّر بمزاجيّة مفرطة أكانت ستنشر كلماتهم أم لا.
قرنٌ بأكمله من تاريخ بيروت يضعه الدويهي بين يدي قارئه. سرد يبدأ مع بدايات القرن العشرين ويصل إلى يومنا هذا: العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. قرن بأكمله، أربعة أجيال من عائلة كرم، ومطبعة واحدة تسرد بيروت بحقباتها الذهبيّة وبزلاّتها المعتمة. عاصمة ومطبعة ومئة عام من الطبع والتمرّد والقتال: «انتهت الحرب بتدمير سبع مطابع في بيروت وضواحيها ونهبِ اثنتي عشرة وإقفال عدد مماثل وتقادم الآلات ومعدّات غالبيّتها بحيث عجز أصحابها عن تجديدها فدخل مجال الطباعة وافدون جدد [...] مطبعة كرم إخوان 1908 كانت من القلّة القليلة التي بقيت على قيد الحياة».
الراوي العليم
ستّة وثلاثون فصلاً قصيرًا تقدّم مشهدًا بانوراميًّا لراوٍ كلّيّ العِلم (narrateur omniscient) يرافق شخصيّاته بأفكارهم ومشاعرهم وخطتهم، يواكب الأحداث الأماميّة والخلفيّة وتلك التي تجري في الكواليس، يتتبّع تاريخ بيروت بحذافيره منذ الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) فالاستقلال (1943) فالحرب العالميّة الثانية (1939-1945) فالحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990) وصولاً إلى يومنا هذا. يرافق الدويهي بيروت ومطبعة كرم والشوارع والعائلات وحركة الطباعة بدءًا باليسوعيّين ومطبعتهم الكاثوليكيّة مرورًا بالمطابع الخاصّة وصولاً إلى التطوّر الذي بلغه هذا المجال، حركة سرد مؤطّرة طالما برع بها الدويهي وطالما ميّزت أسلوب رواياته.
ويبدو الدويهي ممسكًا بزمام الزمان والمكان، فيبسط أمام القارئ قصّة فؤاد كرم المؤسّس الأوّل للمطبعة، من بعدها قصّة حفيده لطفي كرم ليصل اليوم إلى عبدالله كرم الوريث الوحيد للمطبعة. قفزات سلسة إلى الماضي، رجعات إلى الوراء تليها مشاهد من الحاضر، تمزج بين الأجيال وتقدّم صورة وافية عن عائلة كرم التي تسير نحو الهبوط. فتبدو هذه الوراثة محكومة بالاضمحلال. وبينما الجيل المؤسّس يمثّل جيل الدهاء والحنكة والقدرة على استغنام الفُرص، يسقط التاريخ في هوّة الانحطاط، ويتجلّى عبدالله الوريث الرابع للمطبعة رمزًا للخمول والخسارة. فيتجلّى عبدالله رمز التهافت أوّلاً من خلال اسمه هو الذي يناديه الجميع «دودول» وهو اسم خالٍ من المعنى والقوّة والجاذبيّة. ثانيًا دودول هو رمز العقم والتلاشي فهو لم يستطع الإتيان بابن ذكر يكون الحامل الخامس لإرث عائلة كرم واسمها، وعندما يطلب منه والده أن يطلّق امرأته ليتزوّج أخرى تؤتي العائلة بوليّ عهد، يقول دودول بضعف: «نطلّق؟ لماذا؟ أنا أحبّ زوجتي» (ص: 184) وليس من الضعف أن يعترف الرجل بحبّه لزوجته، بل الضعف في أن يستعمل هذا الحبّ واجهةً بينما هو فعليًّا لا يقترب منها ولا يجرؤ على النوم معها في الغرفة نفسها وبالكاد يتحدّث معها ويفضّل فتيات الهوى اللواتي يشعر بفوقيّته عليهنّ عندما يدفع لهنّ المال.
وقد يكون دودول أوّل مؤشّرات سقوط مطبعة كرم والمطابع كلّها، سقوط حركة الطباعة في بيروت. قد يكون رمز بيروت التي تخسر الكثير من بريقها الذهبيّ. قد تكون أرستقراطيّته المزيّفة المنهارة تحضيرًا لسقوط أكبر. إنّما لا ضرورة فعليّة لتحميل النصّ بهذه الكمّيّة الخانقة من السوداويّة والتشاؤميّة، فبيروت مزاجيّة متقلّبة دائمًا، لا هي تنكسر تمامًا ولا هي تربح في شكل حاسم، تتماهي مع الصورة التي يمنحها الدويهي لإحدى صاحبات المطابع قائلاً: «سيّدة تدخّن سيكارًا طويلاً ورفيعًا، طلبت له القهوة من دون أن تسأله [...] تأخذ سحبة خفيفة من سيجارها وتجمع أرقامًا على مفكّرة أوراقها صفراء، ترفع عنها رأسها لتجد المنتظر صامتًا يراقبها. واثقة من نفسها، سمراء، مثيرة. لم تسايره». (ص: 9).
المرأة اللعنة والمحرّك الأوّل والوحيد
مخطئ هو القارئ الذي يظنّ أن بطل هذه الرواية هو الشاعر الشاب الذي ينزل من ضيعته لينشر كتابه. مُخطئ هو الذي يرى في الشخصيّة الأولى التي تدخل مسرح الأحداث المحرّك الأساسيّ للأحداث. فريد أبو شعر شخصيّة هامشيّة، شاعر مأخوذ بأوهامه وكلماته، يتفرّج على أحداث الرواية تمامًا كما يفعل القارئ، لا هو قادر على التصرّف أو الاعتراض، ولا هو قادر على الانسحاب أو الهرب. هو واجهة سرد بيروت المرأة الأولى بتاريخها وقسوتها، هو عذر لسرد بيرسيفون الإلهة الرائعة الجمال.
الإسم الاغريقي
المحرّك الفعليّ لهذه الرواية هي «بيرسيفون» الإلهة اليونانيّة التي استعارها الدويهيّ من الأساطير اليونانيّة وصقلها بحنكة روائيّة لا مثيل لها. فبيرسيفونPersephone هي الابنة الرائعة الجمال لديميتر إلهة الأرض وزيوس إله الآلهة. ولجمالها الأخّاذ، أخفت الأم ابنتها عن العيون وحافظت على جمالها بعيدًا عن الآلهة الأخرى، لكنّ سيّد الموت نفسه أُغرِم ببيرسيفون واختطفها من مخبئها وأخذها إلى مملكته في أعماق الأرض. وبعد نزاع كبير نشب بين الآلهة، حكم زيوس بأن تُمضي بيرسيفون ستّة أشهر فوق الأرض وستّة تحتها فيكون بذلك قد أرضى الأمّ الغاضبة والعشيق الملوّع. فتعيش بيرسيفون حياتها على هذا المنوال وتنجب ولدين من إله الموت. وبيرسيفون مشهورة كذلك لكونها رمز الفخّ الذي يستعين به الآلهة للإيقاع بالبشر، هي الجمال الأخّاذ المُغري الذي يغوي بلا رحمة.
وبيرسيفون الدويهي هي الأخرى متحدّرة من جذور يونانيّة، أخفتها أمّها عن العيون خوفًا عليها من الحسد لجمالها وإشراق وجهها. بيرسيفون الدويهي هي الأخرى تتزوّج مَن لا يهتف إليه قلبها وتنجب منه طفلتين وتشكّل الجمال الوحيد في عالم الحبر والطباعة والكلمات. وعلى غرار بيرسيفون الأولى، تعيش بيرسيفون الدويهي في الطبقة العُليا من المطبعة ولكنّها تنزل إلى أسفل في بعض الأحيان لتغوي عشّاقها أو بالأحرى عاشقها الأوّل: الشاعر.
مهارة روائيّة مبطّنة تحكم حياة فريد أبو شعر الذي يسير إلى حتفه من دون علمه. فبيرسيفون هي التي تجذبه ليقبل العمل في مطبعة كرم مصحّحًا للّغة هو الشاعر الصارم الكلاسيكيّ. هي التي تسرق مخطوطته وتحوّلها إلى كتاب أوراقه هي أوراق العملة المزوّرة. هي التي تُعيد إليه الكتاب وتضع المسمار الأوّل في كفنه ومسيرته نحو الهوّة. هي التي تقرأ الكتب البوليسيّة وتحكم على هذه الرواية بالتحوّل إلى سباق بين الإنتربول والمزوّرين. هي التي تنزل ذات ليلة إلى المصحّح الحالم وتغويه وتثير حنق زوجها - صاحب المطبعة - عليه. هي المحرّك الأوّل للمصائب كلّها التي تحلّ بالشاعر المسكين. وكأنّ الآلهة الجميلة ستظلّ دومًا لعنة الشعراء حتّى في القرن الواحد والعشرين الذي نعيش فيه.
«طُبِع في بيروت» رواية جبور الدويهي التي يصبّ فيها ثقافته الأجنبيّة الصلبة داخل عالمه اللبنانيّ المتين. رواية الشعر والحبّ والكلمات والسنوات والجمال محشورة كلّها في مطبعة بيروتيّة عتيقة. «طُبع في بيروت» رواية بيروت، رواية إلهة يونانيّة فارّة من كتاب أوفيد تأتي لتغوي وتجذب قبل أن تضرب ضربتها القاضية.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.