ستيمر بوينت، أحمد زين (اليمن)، رواية

, بقلم محمد بكري


 عدن الإنجليزية تتشظى في مرآة الواقع


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الأحد - 13 شعبان 1436 هـ - 31 مايو 2015 مــ
الصفحة : يوميات الشرق
صنعاء : محمد عبد الوهاب الشيباني


ينهض العمل الروائي الرابع للكاتب أحمد زين، «ستيمر بوينت» الصادر عن دار التنوير - بيروت، على بناء سردي صارم، مرتكزا بدرجة رئيسية على تعدد أنوات السرد ومصادرها، في مساحة زمنية قصيرة، استدعت إلى لحظتها الرئيسة المغلقة، التي لا تتجاوز ليلة واحدة، سِيَر الشخصيات وأفعالها داخل الزمان والمكان، اللذان تقوم على (مبذولاتهما) التوثيقية. «ستيمر بوينت» رواية شديدة الالتباس والخطورة، بدا المتحكم الرئيس صوت الراوي الخارجي، الذي لا يتوانى أحيانا في إسقاط وعيه اللاحق على مسبوقات الأحداث.

أما الثنائيات بتقاطعاتها الحادة، التي تحضر في تاريخ المدينة، فقد أرادها المؤلف أن تكون (رواية) أخرى لخصوصياتها التاريخية والثقافية، حتى عشية استقلالها أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 1967. الشاب اليمني والعجوز الفرنسي، اللذان تنهض على استرداد ذكرياتهما، وهي تأتي في هيئة تداعيات صامتة، ومسموعة أحيانا، في مساء الثامن والعشرين من نوفمبر 1967، الفكرة السردية الرئيسة، ببناها الحكائية ومستوياتها المتعددة، إذ يمثلان النواة الصلبة للعمل. فمن خلال مرآة كبيرة، تُظِهر للفرنسي وجه خادمه الشاب، الذي يقعد طرف الصالة، في قصر العجوز «العجائبي» المطل على مدينة التواهي (ستيمر بوينت) وبحرها، في ذلك المساء البعيد، منتظرًا أوامر سيده، هي في الوقت ذاته - أي المرآة - تظهر وجه العجوز الفرنسي وتعبيراته، التي يقرأها الشاب بوضوح، ويعرف ما يجول بخاطر صاحبها، تماما مثلما يعرف العجوز ما الذي يستبد بتفكير الشاب.

الثنائيات المتعارضة هذه، التي يمكن تمثيلها بـ(الشاب / العجوز - الفرنسي / العربي - الثري / الفقير)، تتحول إلى ذات واحدة، ممتلئة بحب المدينة، التي وفد كلاهما إليها من خارجها، والخشية عليها وعلى حياتهما أيضا من النزعة الانتقامية للحكام الجدد، عشية الاستقلال. العجوز جاءها شاب فقير من إحدى المدن بفرنسا، ليعمل مع تاجر من أبناء جلدته، عمل عنده أواخر القرن التاسع عشر أيضا الشاعر (آرثر رامبو)، الذي ظل العجوز يحتفظ بصورته على الجدار، مختزلا الكاتب بهذا الترسيم الشخصياتي، السيرة الأقرب لأشهر تاجر أجنبي مر على عدن، وهو (توني بس)، الذي يظهر هنا ملتبسًا بالشخصية الروائية. وهو ما حاول طرقه الكاتب في التخييل الروائي، لإعادة تقطير هذه الشخصية سرديًا بكثير من الذكاء، دون الوقوع في التباسات السيرة الفعلية إلا فيما يخدم بنية الخطاب.

أما الشاب الذي قدم إليها من الحديدة، منذ أعوام خمسة، بعد مقتل أبيه في حروب الجمهوريين والملكيين في شمال اليمن، وبإلحاح من جدته لأمه، اندمج فيها إلى الدرجة التي حاول الذوبان فيها، وتمثل حياتها المدينية، معتبرا أن حضورها المميز كمدينة حضارية في منطقة متخلفة، صار بفضل الإنجليز وفعلهم، وهو المأخذ الذي سيؤخذ عليه من قبل بعض أصدقائه الثورجيين، وعلى رأسهم نجيب الذي كان يرى في قناعات سمير حيال المدينة وأثر الإنجليز فيها نوع من الخيانة للقضية الوطنية.

آناتا الشاب والعجوز المتشظيتان، سيراهما الشاب واحدة، حين يتخيل أن العجوز يتفوه بما يريد قوله، وما ينبثق من أعماقه، كاعتراف مُر، بلحظة الانهدام الكبرى التي تتحكم بمشاعرهما المضطربة. الليلة الطويلة، التي رآها العجوز دهرًا، التي تساوت فيها عنده رائحة الكحول الراقي برائحة البارود، التي بدأت تنتشر في الأرجاء، ستنتهي باستيقاظ الشاب بعد غفوة طويلة بذهن مشوش، وجسد محطم، لم ير العجوز على الأريكة حيث كان، ولم ير المرآة أيضا، وحين هم بالمشي اصطدم بحطام المرآة، ومن شظاياها اللامعة رأى وجهه مشوها وقريبًا من القبح، فلم يجد أمامه من حل سوى ترك المكان والهروب إلى اللا شيء، حيث تساءل وهو يسمع هدير الموج في المرفأ، كم طريق تؤدي إلى عدن؟ طريق قوافل البخور في الأزمنة السحيقة، أم مسالك الغزاة منذ الرومان إلى الكابتن هينس إلى..؟

في الرواية سيظهر قاسم الذي عمل تاجر أخشاب قبل الحرب العالمية الثانية. (آيريس) الإنجليزية الفاتنة، التي جاءت إلى عدن لدراسة انعكاس المكان على الجنود والموظفين الإنجليز، فوجدت نفسها موضوعا للدراسة. نجيب الثورجي، الذي عبر بصفاء عن لحظة الاندفاع، وأراده المؤلف أن يكون التمثيل لفكرة التمرد اليساري، في تماهيها النظري مع فعل الكفاح المسلح على الأرض، لهذا كان يحضر كشخصية استعراضية تتعالى على ما حولها. سعاد الشابة العدنية، التي ظلت مشتتة بين سمير الذي يحبها، ونجيب الذي يؤثر في وعيها، كثيرا ما «فكرت أنها تعيش تحت ضغط الرقابة الداخلية للمجتمع، لكنها لم تشأ عن سابق قصد وإصرار في التحرر منها، واعتبرت ذلك ما يميزها، ويمنحها تألقها الشخصي. خاضت نقاشات حادة مع زميلاتها في الكلية حول ارتداء بنطلونات الجينز، والتعرف على شباب والجلوس معهم في البارات والمقاهي الحديثة. ومكثت طويلاً تفكر أن الجسد الذي تعيش فيه، غير قادر أن يستوعب الحياة، التي تشعر بها تصطخب في أعماقها».

عدن مدينة (كوزموبوليتية) بتعددها الثقافي والإثني، لم يعبر عنها، فقط العدني العربي واليمني، بل عبر عنها الهندي والصومالي والفارسي والإنجليزي والفرنسي، عبر عنها المسلم واليهودي والمسيحي والبوذي واللاديني بوصفهم أبناءها الطيبين، في جملة الأصوات التي تظهر مشبعة بروح المدينة، التي آثرت نخبها بعد استقلالها تقديم شططها السياسي وانقساماتها، على روح التعدد والانفتاح فيها، تماما كما عبر عن ذلك سمير في ذروة خوفه عليها، أو بمعنى أقرب السارد الخارجي، الضاغط بوعيه اللاحق على مسبوقات مدركاته، حين رأى أن حماسة الفدائيين لا تعني سوى سيطرة الريف على المدينة، وإغراقها في مستنقع صراعاتهم، لأن ما كان يحركهم أولاً هو جوع السلطة، وبفعلهم ستتحول إلى مدينة مغلقة على نفسها، وهو ذات ما تحقق على مدى سنوات لاحقة.

«ستيمر بوينت»، تجهد في البحث عن قارئ مختلف وصبور. خبرات الكتابة المستفيدة من تقنيات الصورة السينمائية، في تبدل مواقع (أنوات) السرد، وأمكنته وأزمنته المتداخلة، واحدة من السمات الواضحة في العمل، والتي تتحول أحيانا إلى عبء على قارئ قليل المعرفة بالمدينة.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد



جريدة الحياة


الأربعاء، ٨ أبريل/ نيسان ٢٠١٥
جريدة الحياة
لندن - مودي بيطار


 التاريخ بطل رواية «ستيمر بوينت» اليمنية


يضع أحمد زين شخصياته تحت ضغط التاريخ، ويرافقهم في رحلة التأزّم، الخوف وتعثّر البحث عن الخيار والخلاص. يختار الكاتب اليمني خروج المحتلّ البريطاني من عدن زمناً لعمله الأخير «ستيمر بوينت» الصادر عن دار التنوير. يبرع زين في تمحيص الهيئة، الحال والمشهد، ويبدو أقرب الى كاتب القصة بنهايتها المفتوحة منه الى الروائي وفق المعايير الكلاسيكية. لكن ذلك لا يسيء إليه أو الى القارئ الذي يجد أمامه مناخاً بصرياً وداخلياً مرصوصاً ينتقل بسرعة من طمأنينة الرفقة اللطيفة الى شمّ رائحة الدم في كلمات الرفاق في جلسة واحدة (الصفحة 131).

التاريخ بطل أحمد زين مجدداً، وتحديداً 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 قبل يومين من انسحاب القوات البريطانية من عدن. يجمع الخوف التاجر الفرنسي العجوز ومستخدمه سمير من انتقام المقاومة اليمنية الجنوبية، ولئن أصرّ الأول على تجهيل هويّة الثاني وإنكار فرديّته ومناداته دائماً «الشاب»، تتحوّل المرآة هذه الليلة وسيلة تلصّص لكل منهما على الآخر، وطريقة متأخرة للاعتراف وإشباع الفضول والمعرفة. يصبح ابن البلد شخصاً ذا أبعاد تتعدّى الخدمية الى طلب الحماية والمشاركة في خانة واحدة هي المطالبون ببقاء الإنكليز، الخائفون من هجوم الوطنيين عليهم. يفصّل زين التاريخ الحافل لعدن الكوزموبوليتيّة، بجماعاتها وتجاراتها وأشخاصها، ويزيد معرفة القارئ بالبلاد التي يعيش بعيداً منها في الوقت الذي يؤكّد انتماءه وحنينه. تبهر المدينة بتنوّعها الحضاري الذي يجمع اليمنيين، الإيرانيين، الهنود، اليهود، الصوماليين، البريطانيين والأوروبيين، وتجد في الباحثة الإنكليزية آيريس معجبة رومنسية بـ «المتوحش النبيل».

ينتقل النص بين المونولوغ والسرد بصيغة الغائب، ويتابع أساساً قاسم وسمير الذي يبقى «الشاب» طوال ظهوره مع الفرنسي، الإمبراطور داخل الإمبراطورية، حتى بعد معرفتنا اسمه. نعلم، وسط تقطير المعلومات، أنه معلّم للتربية الفنية يكتب مسرحية مدرسية عن الاحتلال البريطاني لعدن في القرن الثامن عشر. يعمل أيضاً مشرفاً على المستخدمين في قصر الفرنسي الإنكليزي الطراز، وطاهياً بديلاً عند غياب طبّاخه. يصرّح عن هواه السياسي منذ الصفحة الأولى: «شخص آخر تتحوّل فور أن تكون داخل هذه الأبّهة الكولونيالية (...) تشعر بك تتخلّص تدريجاً من الشخص الذي تكونه في منزل جدّتك (...) كيانك كله يتحقّق ما إن تكون في منزله». يدمغه إعجابه العنيد بالمحتلّ ويجلب عليه الخطر والخسارة، ويطالَب بتحديد موقعه بين «معنا أو ضدّنا» حين ينتقد القتال بين فصائل الكفاح المسلّح. بدت له عدن قطعة من الجنّة، صَنَعَ الإنكليز «معجزةَ» نهضتِها حين قصدها من «الشمال المتخلّف» قبل أربعة أعوام إثر مقتل والده في ثورة 1962، وعرف أنه لا يريد الانتماء سوى إليها. رأى الإنكليز يرفسون ويضربون بالبنادق المطالبين بخروجهم، ورأى أيضاً «الإخوة يتحوّلون وحوشاً كاسرة، ذئاباً جائع بعضها للحم بعض» في الصفحة 50، «لم يستشرسوا في طرد البريطانيين قدر استشراس أحدهم في مواجهة الآخر» في الصفحة 111. يقول: «جرّبت أن أكرههم، لم أقدر. أحبّ طريقتهم في الحياة. وأعثر على نفسي في كلّ مرّة أكثر شغفاً بما صنعوه في هذه المدينة» (الصفحة 56)، فتردّ سعاد المعجبة بتقليد شاي الساعة الخامسة: «كأنما عيناك غير عيوننا. من أنت؟ بطل ترديد معجزات البريطانيين؟ في اللحظة المناسبة سنصنع نحن معجزاتنا».

يـــبـدو التقـاتــل الداخـلي والخوف من غياب الاستقرار مبرّراً لانحياز سمير الى الاحتلال البريطاني الذي لا يراه خيانة أو عمالة أو تواطؤاً (الصفحة 14) خلافاً لنجيب الشيوعي، الذي يريد الاستقلال مع معرفته أن أكثرية العدنيين عمّال أميّون لا تأثير لهم. يصرّ سمير على هويّة أخرى هي العدني الذي يريد أن يُرضي الإنكليز، وإلا ما الذي يأتي بالرفاق، شبّاناً وشابات، الى الأحياء الجديدة ومقاهيها الحديثة؟ لا يفهم سبب تحوّله مع حبيبته سعاد خصمين، وكانت هذه بسفورها وسروال الجينز وثيابها القصيرة وجلوسها في المقاهي والحانات مع الشبان وراحتها في الحديث مع الرجل، صورة لعدن الجديدة بفضل والدها أساساً. أبدى مرونة شديدة تجاه اندفاعها، خلافاً لوالدتها (الصفحة 68) وأعطاها الصحيفة يومياً لتقرأها بعده. رأت نفسها مختلفة، وسعت عن وعي إلى «التألّق الشخصي» وابتعدت من سمير حين بقي في حقبة رآها البريطانيون أنفسهم بائدة. تنحاز الى نجيب الذي كان يعمل في فندق أجبره على تنزيه كلاب النزلاء وتنظيفهم وتلبية رغبات الأجنبيّات فيه. ترك ماضيه وراءه وتاق الى اللحظة التي يعيد فيها صياغة نفسه: «لنكن حالمين، ولتكن أحلامنا كبيرة» (الصفحة 86).

قاسم ديناصور عاطفي مثلما سمير ديناصور سياسي، وهو يشكّل معه القصتين الطويلتين في «ستيمر بوينت» التي تعني ملتقى البواخر في منطقة التواهي. يطلّ في أول أربعينات القرن الماضي عند تزويده الضابط الإنكليزي الستّيني بامرأة جديدة يشعر بألم خفيف في معدته حين ينظر إليها. يتساءل هذه الليلة عما يفعله، ويشعر بالخزي والنجاسة، وإذ يلتصق الضابط بالفتاة وتبدو كأن لا قيمة لها، يكرهه ويتمنى أن يؤذيه. لكن الإنكليزي وفّر له الحماية، وتجنّب مواطناته كما لو كنّ مصابات بمرض معدٍ. تردّد أنه شاذ أو عاجز، وسأل قاسم الفتاة عما يفعلان حين التقاها لشراء حاجيات البيت. طلب منها ارتداء الملابس والقبعات ثم خَلْعَها وهو في كامل لباسه العسكري. غيّرها وأبقاها معه مدة فاقت الفترة التي قضتها الأخريات، وأراد تحويلها سيّدة بإدخالها الى نادي سيّدات عدن. كانت ظنّت أنه أرادها لنفسه حين قصد كوخها، ونبّهته الى رحيل الضابط إلى بلاده قبل يوم، لكن أصابعها التي مسّت ذراعه شلّت تفكيره.

تمعن آيريس، كارهة قومها، في تحدّيهم حين تتّخذ التاجر الفرنسي والقنصل الأميركي عشيقين في الفترة نفسها، وتلتقيهما معاً. يصدمها تعالي البـريـــطانيـــين على السكان المحليين، وتكتب عن حياتهم في محيط هم دخلاء عليه. تستنكر إعجاب سمير بهم في الوقت الذي يكره بعضهم ذاته لأنه محتلّ. على أنها تتعالى وتُخصي فردياً مقابل الاحتقار والإخصاء الجماعي للمجتمع المستعمَر، إذ يشكو خادمها العجوز تجوالها عارية أمامه كأنه ليس رجلاً قادراً على الرغبة والهجوم عليها.

يلتقط زين ببراعة اللحظات الحسّاسة، العابرة، اليومية والعواطف والحركات السريعة التي تخفي عمقاً يعود هاجساً وعذاباً. يرسم تاريخ شخصياته ومداهم النفسي بأناة وعمق.

عن موقع جريدة الحياة



جريدة الحياة


الأربعاء، ٢٥ مارس/ آذار ٢٠١٥
جريدة الحياة
فيصل دراج


 أحمد زين يجدد روائياً ثنائية الاستعمار والتحرر


في رواية سابقة عنوانها «قهوة أميركية»، سرد أحمد زين أحوال مدينة يمنية يفترشها التداعي، وينتقل أهلها من حرمان إلى آخر. وفي روايته الجديدة «ستيمر بوينت»، يستدعي مدينة مغايرة، جميلة الترتيب حديثة وتكسوها النعمة هي «عدن»، في زمن الاستعمار الإنكليزي (1839 ـ 1967)، الذي حوّلها إلى مدينة لا تشبه «صنعاء» الشمال التي لا يؤرقها تواتر الأزمنة. صيّر الإنكليز «البلدة» المفتوحة على البحر، في مائة وثمانية وثلاثين عاماً، إلى مدينة ـ معجزة، كما تقول الرواية، قبل أن تعود مجدداً إلى مصائر تنقصها المسرّة. جعل زين من «عدن» شخصية روائية باذخة، لها شوارعها الأنيقة وبشرها المتعددو الجنسيات وانفتاحها على حضارات متنوعة. قالت الرواية في مستوياتها المتعددة: إن وعي الإنسان مما يعيشه، وإن الهوية خارج المعيش اليومي حفنة من تراب، وإن التحرر الوطني ليس أفضل من الاستعمار دائماً.

أدرج الروائي اليمني في روايته الجديدة أكثر من خطاب: فتنة الأوروبي المتحضّر، التي تغوي المواطن المحلي بالمحاكاة والتقليد السعيد، وأسى النهايات الغامض، إذ في رحيل المستعمِر (بكسر الميم) المتحضر ما ينهي مرحلة أقرب إلى الحلم، والعلاقة المتبادلة بين الأنا والآخر، حيث «للأنا المحلية» عريها وللآخر المتفوّق مباهجه التي لا تنتهي... اقترب الروائي، في خطابه المتعدد الأبعاد، من التباس لم يسعَ إليه، فالخير الذي يأتي به الوافد الغريب تلازمه السيطرة (اليمني يخدم الإنكليزي)، مثلما أن «التحضّر»، مهما كان ثمنه، أفضل من ركود مستقل تخترقه الملوحة والأمراض. تعلم «العدني» المحاكاة والمقارنة، فلولا أبهة الآخر لما اكتشف عريه. ترجم الروائي خطابه بشخصيات متنوعة، أخذ فيها «الوافد المتحضر» موقعاً مسيطراً، ذلك أن اليمني ـ يحاكيه وينجذب إليه ويتبعه، حتى لو بدا مستقلاً.

ارتكنت الرواية، من الاستهلال إلى النهاية، إلى فضاء الالتباس، فسردت أحوال يمني دعته «الشاب» يقوم على خدمة فرنسي دعته «العجوز»، كما لو كانت الأسماء لا ضرورة لها، ووضعت بينهما مرآة، تكاد تبدو شخصية روائية، يرى فيها كل منهما وجهه وهو ينظر إلى وجه الآخر. المرآة بديل من الحوار والتعارف، بديل مشوّه، فما خارج المرآة أهم من الصور التي تتجمع على سطحها، وما يجول في الروح لا تعكسه حتى لو كانت صقيلة. والمرآة في صمتها تحرّض على التلصص، ووشاية صريحة مرتبكة، فالوجه في المرآة تقف وراءه عوالم داخلية، وهي سطح بارد بلا ذاكرة، يتكسّر شظايا في نهاية المسار. ولأنها شخصية من شخصيات الرواية، صارت، في نهاية الحكاية «أي لحظة نهاية الاستعمار»، وشاية عالية الصوت، أفصحت عن عيني الفرنسي المليئتين بالخوف، وعن هواجس الشاب اليمني الذي ينظر إلى رحيل المستعمِر الإنكليزي عن عدن بقلق كبير. لذا بدت المرآة موقعاً للقاء أبكم واسع الحركات، قوامه النظرات الخاطفة المسوّرة بالصمت والعزلة، ومناسبة يومية لـ «مونولغ» طويل يتعرّف فيه «الشاب» الى رغباته وينصرف «العجوز» إلى ذكرياته.

إذا كانت المرآة قد جمعت بين فضول شاب يمني وغطرسة عجوز فرنسي، فإن ما جمع بينهما ماثل في جمال مدينة أقرب إلى الجنة. فالأول مبهور بمدينة لا مثيل لها في اليمن، والثاني مبهور بمدينة صنعت ثروته وصنعها مع غيره من الأوروبيين. أوكل السارد إلى ذاته دور مؤرخ مدقق، يقرأ المدينة، سريعاً، في تاريخها البعيد ويقف متمهلاً أمام تاريخها الإنكليزي الذي حوّلها إلى مدينة ـ أعجوبة، فهي كونية يعيش فيها الهندي والإنكليزي والفارسي واليهودي والصومالي ويمني يرى إلى الوجوه والثقافات جميعاً، وهي ثالث مرفأ في العالم بعد ليفربول ونيويورك، وفي مطارها هبطت أول طائرة في الجزيرة العربية عام 1829، وفيها «ستيمر بوينت»، المكان الذي تلتقي فيه سفن العالم، وتصله رسائل من العالم أجمع. مدينة من شعاع، يقول السارد، محورها «الحي الأوروبي»، المحتشد بالمطاعم والبارات والمكتبات والكنائس والمصارف و»المدارس الأجنبية» ودور السينما، وكل ما يجعلها جزءاً من الغرب من دون أن تغادر ترابها اليمني. ولأنها جزء من الغرب، الذي لم يره المواطن اليمني، فهي جزء من الجنة المتخيلة. وعن مدينة ـ جنة، صدر وعي متسامح أقرب إلى الامتثال لا يرى في «الوافد الأوروبي» عدواً، بل يأسف على رحيله، وينظر إلى العجوز الفرنسي بفضول، لا تخالطه الكراهية.

انطوت «فتنة المستعمِر» على وعي منقسم، يُخرج العدني من «عدنيته القديمة»، ويلحقه بالآخر من دون أن يطرح أسئلة كثيرة. فالشاب «يكتشف أنه واقع تحت نير نمط الحياة التي يعيشها» ـ مع الفرنسي، كما يقول، وأنه «شغوف بحياة الأوروبيين». والأمر لا يقتصر عليه، فالشخصيات المتنوعة تردد في سرها ما يقوله الشاب، سواء كانت عادية، أو «مسيّسة ومعادية للاستعمار»، فأمكنة «عدن» الحديثة فرضت عليها عاداتها، بقدر ما علمت الشخصيات ذاتها عادات الأوروبيين التي تحضّ على المحاكاة وتوقظ حسّ المقارنة. ولعل «فتنة الآخر»، التي تبدو كأنها خيانة، هي التي استقدمت إلى الشخصيتين الرئيسيتين (الشاب والعجوز) شخصية «إيريس الإنكليزية» في «جسدها المُشتهى»، التي أرادت أن تكون إنكليزية أخرى، تندمج في المجتمع المحلي وتتعرّف الى عاداته وتعترف بها، بعيداً عن إنكليز مكتفين بغطرستهم. غير أنها في سلوكها المختلف، لن تزيد «فتنة الآخر» إلا فتنة. ما حكايات الشخصيات اليمنية، كما جاءت في الرواية، إلا حكايات انجذابها إلى «الآخر الغريب»، التي لا تستطيع هشاشتها أن تفعل حياله شيئاً.

سعى الروائي إلى توليد «التباس مدروس» ـ ما هو بالالتباس ـ متوسلاً أدوات فنية متعددة: تداخل الضمائر المختلفة، الموزعة على أنا وهو وهي، التي مرجعها «الحي الأوروبي» الذي يسكنه البعض ويشتهيه بعض آخر، الجمل الاعتراضية الطويلة التي توحّد ـ عمداً ـ بين ارتباك السارد وشخصياته، الشخصيات الأوروبية التي هي مرجع الشخصيات اليمنية، النهايات الحزينة التي توحّد، بأقساط مختلفة، بين الشخصيات جميعاً: يرحل الفرنسي حزيناً في الليل، وتغادر «إيريس» بلا فرح كبير، ولا يظفر الشاب الذي يعمل عند الفرنسي بالفتاة التي يحبها، ولا «صاحب المقهى» بفتاة حلم بها. شخصيات من فضول وانتظار، كما لو كان «استقلال عدن» قد أغلق حقبة من السعادة والشرود السعيد، ولم يعد بشيء جميل.

غير أن الروائي، بسبب منظور يتطيّر من الظواهر الخفيفة، يحاصر الالتباس المنتشر ويقارن بين الحاضر والماضي اليمنيين: فصنعاء التي لم تعرف تجربة عدن بقيت ملفوفة برقادها، و«الكفاح المسلح التحرري» الذي جاء من الريف ـ مرّ سريعاً ـ بل إن رجاله يتقاتلون قبل التحرر، واليساري «الثائر المتحزّب» تفوح منه رائحة الدم، والمتبقي هو الخوف من عودة «عدن المتحررة» إلى ما كانت عليه قبل مائة وثمانية وعشرين عاماً. يقول الشاب: «تطلعك الوحيد ورغبتك الأكيدة أن تبقى عدن مفتوحة للجميع، ولا أن تستيقظ يوماً وتجدها تحوّلت إلى مدينة مغلقة على ذاتها. ويزيد قوله وضوحاً: «ما يجري حتى الآن في مدن الشمال، يجعله غير متفائل، لن تخسر شيئاً، لا يوجد ما تخسره، بينما عدن مسألة مختلفة كلياً. ص 142»، فهي مختلفة بما جاءت به إليها «معجزة الإنكليز»، التي وضعت العالم الحديث في مدينة يمنية، كانت شبه مهجورة.

أنتج أحمد زين في روايته خطاباً، لا علاقة له بالتبعية، بلغة كاسدة، ولا بالتخلّي عن الهوية، بلغة بليدة أخرى، أراد أن يقول: «إن ما جاء مع التجربة الاستعمارية ذهب معها، كما لو كان ما تلا التجربة ترك عدن بلا ذاكرة». هناك دائماً ما كان وما سيكون، وذلك «الحضور الاستعماري» الذي يدعو إلى المقارنة. ترجم الروائي خطابه بلغة مقتصدة نافذة التفاصيل، وبشخصيات أقرب إلى المجاز، وبمعرفة تاريخية واسعة الحدود، وبذلك الالتباس الخصيب الذي يقرأ التاريخ بصياغاته الفنية التي تخبر عن شخصيات مختلفة المصائر، برهن في عمله أن الرواية، على المستوى المعرفي، جزء فاعل في قراءة وتأويل «التاريخ الوطني»، وأن كتابة لا تستأنس بالتاريخ، لا تحسن قراءة الحاضر وانهياراته.

«ستيمر بوينت»، العمل الروائي الأفضل للروائي اليمني المجتهد أحمد زين، عمل قصرت عنه الرواية العربية التي عالجت ثنائية الاستعمار والتحرر بمفردات جاهزة، ترضي، بلا قلق، الإيديولوجيات الزهيدة، ولا تعرف من التاريخ الفعلي إلا ظلاله. هل تراءى التقدم مع حضور الاستعمار، ورحل بعيداً مع حضور «الاستقلال الوطني»؟ هذا هو السؤال الكبير الذي عالجته رواية عربية ـ يمنية كبيرة، بوضوح فكري نافذ إلى حدود المجازفة. التقى الخطاب الروائي الخصيب، مع أطروحات نظرية عربية رهيفة، اشتقت هزيمة العالم العربي من ظاهرة مفرحة ـ مؤسية دعيت مرة: ولادة دولة الاستقلال الوطني.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)