جريدة المدن الألكترونيّة
الجمعة 17-04-2020
المدن - ثقافة
شادي لويس - كاتب وباحث مصري
"حكايات الخانكة" لياسر علام.. البطولات الصغرى
"وكما هو بادٍ؛ الحكاية لا تحتاج حتى لنزر يسير من المنطق لتفنيدها، لكن من ذا يقبل بالمنطق ضيفًا ثقيلًا على مثل ذاك الرحاب؟! لتكن الحكاية قد حدثت أو لم تحدث، ما يعنيني أنا وحسبي أنها قد رويت".
من الفصول الأولى لروايته “حكايات الخانكة”(*)، يخبرنا ياسر علام بأن سؤال الواقعي والمختلق ليس ما يعنيه في السيرة العائلية التي يضعها بين أيدينا، “صلِّ على صاحب الشفاعة، وقل معي مالنا والحقيقة ليست هي بغيتنا... ثم إن للمسامرة أصول”. يبدو “كسر الإيهام” مفهوماً مفتاحياً في الرواية الأولى لياسر، الكاتب المسرحي بالأساس. فهو لا يكتفى بتفنيد القصص التي يرويها لنا عن أصل اسم بلدة “ميت خاقان” (التي تبدأ منها الحكاية)، وما يشير إليه هو بـ"البطولات المزعومة" لآل علام، بل أيضاً يصف للقارئ كيف يبني أحداث الرواية نفسها، “والحمد لله بذلك وصلنا أخيراً لتلاقي الخطين الدراميين لهذه السردية بعضها ببعض”، ويعلق ساخراً حتى على بنية فقراته، “آن أن تنتهي واحدة من أطول الجمل الاعتراضية في أطول الجمل الاعتراضية في تاريخ العربية”. ويقاطع سرديته ليخبرنا بحديث دار بينه وبين فنان جزائري، أو يفتتح فصلاً بمقطع نظري طويل شديد الصلة بالرواية: “من يدقق النظر في التعبيرات التي تستخدم للدلالة على مركز الأحداث الفعال في العمل الدرامي، سيرى أنه في زمن قديم كان يُستعمل تعبير البطل...”، يفعل هذا كله بخفة و"إكبار لا يخلو من سخرية، نخب تتبادله جميع الأطراف.. التريقة كاس وداير". يقوم بها كحاوٍ شعبي لا يعرض ألعابه السحرية أمام الجمهور ليبهره، بل يكشف سرها واحدة بعد الأخرى، فتضحي الخدعة المكشوفة أكثر جاذبية، أو تكتسب جاذبية من نوع آخر، في الحقيقة يريدنا الكاتب أن نأتمنه وأن نصدقه وأن نثق فيه، وإن أخبرنا ألا نصدق كل ما يقوله، وبالتحديد بسبب ذلك.
“الخانكة”، الحي الذي يقع في ما كان في الماضي أطراف القاهرة، حيث يدور قسط كبير من أحداث الرواية، ليست مجرد ساحة لمقامات الأولياء الصالحين “يأوي إليه الهاربون من دسائس العمران”، بل المكان الذي شهد تأسيس أول مستعمرة حديثة للمجذومين في مصر، نقطة التقاء “المجذوب مع المجذوم”. تنطلق “حكايات الخانكة”، في سلسلة من ومضات كاميرا ألبوم صور عائلي، تقدم خطي لكن غير متصل، لتسرد قصة الدولة الحديثة في مصر، مؤسسة الصحة والمرض، الأوبئة، والجيش، طرفي السلطة “القواس والمكاس” (الجندي وجامع الضرائب)، كل هذا في منظور يبدو فوكوياً (نسبة الى ميشال فوكو)، وكأنه متأثر بأعمال تيموثي ميتشيل وخالد فهمي عن التاريخ المصري الحديث. يروي ياسر قصته على مستويين متوازيين طوال الوقت. التاريخ الرسمي من أعلى، حيث الساسة والملوك والمعاهدات والحروب وغيرها من شؤون السياسة. والتاريخ الصغير من أسفل، التاريخ الحقيقي للناس الحقيقيين، تاريخ أبطال بلا بطولة، آل علام ومن مثلهم، بطولات الجندي الذي يضرب ناراً في الهواء أثناء مواجهة المتظاهرين، فلا هو يعصى الأوامر ولا يوقع شراً بأحد، أو كالجدّ الذي تظهر صورته في الجريدة في خبر اقتحام الشرطة وكراً للمخدرات.
في فصل ساخن وزاخر بالأحداث من الرواية، تدور في الخلفية معارك الحرب العالمية الثانية في العلمين، على حدود مصر الغربية، وتتخلله الدسائس السياسية، ويخرج الطلبة والعمال للاحتجاجات في شوارع القاهرة، وتنتهي مصادمات مع الأمن إلى فتح الكباري وسقوط قتلى. تقفز تحيّة كاريوكا من وسط الصفحة في مشهد من فيلم “لعبة الست” وهي تقول: “يا ظلومتي ياني، يا حوستي ياني، يا مراري ياني، أنا مش رمية، أنا مش تلقيحة. أنا بنت ناس، أنا بنت أصول أنا بنت فاميليا”. يقطع ياسر مشاهده بتقنية المونتاج السينمائية، وتتداخل الأفلام مع مقاطع السرد، و"الهلس بالجد". وأحياناً أخرى يقسم صفحته مثل شاشة بخمس نوافذ، تدور فيها جميعاً مَشاهد منفصلة بنقطة ارتكاز واحدة. ومرات يبدو النص مسرحياً إلى أقصى حد، بغنائيات وجوقة في الخلفية. وبالخفة نفسها، يقفز النص من مستوى إلى آخر من اللغة، من فصحى تنتمي إلى التراث الصوفي، بحلى وزخرفات متكلفة عمداً بل سجع في بعض الأحيان، إلى عامية متهتكة لم تعد تُسمع سوى في مسرحيات غنائية من الثلاثينات، ثم رجوعاً إلى فصحى نشرات الأخبار، فعامية شيوخ الجوامع المخلوطة بفصحى قرآنية، فعربية مقامات الحريري، تتخللها عامية يتحدثها أطفال المدارس اليوم، ووسط كل هذا ألعاب معجمية صبيانية، وسخرية حارة وسخيّة ومُحكمة إلى أقصى حد.
لكن تلك الملهاة اللغوية لا تستهدف الاستعراض فحسب أو مجرد المسامرة، بل ككل شيء آخر في الرواية تسعى إلى رسم مخطط لـ"سيرة الأهل والزمان والبلاد"، أي كيف تصنع دراجة موظف مركز الصحة في تجولها، وطناً، وصاحبها ينتقل عليها من قرية إلى أخرى ليكافح وباء الملاريا. وكيف ترسم الأختام والقرارات الإدارية ومعسكرات التجنيد والزيجات وقصص الحب والولادة والموت والسفر والبناء والهدم، خريطة لهذا الوطن، وتاريخاً من الهزائم والخيانات والبطولات أيضاً. يوظف الكاتب قدراً مذهلاً من المعارف والاستشهادات والإشارات العلنية والمضمرة، من كتب التاريخ إلى المسلسلات التلفزيونية وبرامج الإذاعة الكوميدية وأشعار الأبنودي وصلاح عبد الصبور والتراث الإسلامي وقصص الأطفال والأفلام والمآثر والسير الشعبية والقصص الصوفي وكتب النوادر والأغاني الإذاعية وحكايات الأطفال، ليخبرنا أن ما يصنع بلداً، وبالقدر نفسه نصاً أدبياً، هو خليط من هذا كله.
وكما تنجح “حكايات الخانكة” في الكشف عن غنى هذا الميراث الرائع والمذهل، فإنها تكشف أيضاً ثقله، تكشف إمكانية وقوع النص الأدبي أسيراً له. في النصف الثاني من الرواية، يبدو وكأن الحاوي قد توقف عن كشف المزيد من الخدع، أو الإتيان بألعاب جديدة. سردية التاريخ الرسمي تتغول على التاريخ من أسفل، فصلاً بعد آخر،. تتحول سيرة “آل علام” من خط سردي مستقل أو يتقاطع أو يسير بمحاذاة السياسي، إلى تخديم على الحكايات الكبرى، وكأنها نماذج توضيحية.
تقع الرواية أسيرة الطموح الكبير، بأن تتطابق السيرة العائلية مع سيرة الوطن، أو تصبح ظلاً لها. وفي اتجاه الخاتمة، تتحول القصة الكبرى نفسها إلي تعليقات سياسية مباشرة وجافة، مصحوبة بكولاج من عناوين الأخبار. وقعت الرواية في فخ يصعب تفادي غوايته، في أحيان كثيرة، لكن ما يبقى منها في الذاكرة، هو هذا الأفق الواسع والغني، من المصادر والتقنيات ومستويات اللغة والسرد والحكايات والرموز والأدوات، والذي فتحه أمامنا السارد، وهو جالس كراوٍ شعبي على ربابته، يسامر مستمعيه ويسخر منهم، ومن نفسه ومن حكايته نفسها.
(*) صدرت عن منشورات صفصافة 2020
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.