رفيق سبيعي (1930 - 2017) - سورية مُمثل سوري وُلد في دمشق

, بقلم محمد بكري


 قرب الجامع الأموي... تشكّلت ملامح «أبو صيّاح»


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧٣ الجمعة ٦ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
نجوم
رحل شيخ الأوادم - رفيق السبيعي... «زكِرْتي الحارة» لم يعد يجيب


دمشق - محمد الأزن


«أحبابي ونور عيوني» فنّان الشعب رفيق السبيعي (1932 ــ 2017) يودعكم، بعدما غلبته الشيخوخة التي غالبها لسنوات، وبقي مصرّاً على التجدد، وتقديم المزيد، والبقاء واقفاً حتى أيّامه الأخيرة. هكذا كانت حاله قبل أشهر حين لم يسمح لكسرٍ في عنق الفخذ بأن ينال منه، فرأيناه يجاهد نفسه للوقوف حين زرناه في أحد مستشفيات دمشق، بعدما أجرى عمليةً لتبديل المفصل وسط رعايةٍ حنونةٍ من عائلته، ومحبيّه. لكنّ القدر لم يمهله فرصةً أخرى، إذ فارق الحياة عصر أمس عن 85 عاماً. ولد السبيعي سنة 1932، في حي البزورية الدمشقي، على مسافة أمتارٍ قليلة من الجامع الأموي. هناك تشكّلت شخصية «القبضاي.. الشهم.. اللي ما بتهون عليه الزاحلة». مفرداتٌ شكّلت ملامح «أبو صيّاح»، أشهر شخصيات الراحل الدرامية، كممثلٍ، ومونولوجيست.

هوى الفن تملّك الشاب الدمشقي، الذي لم يعر اهتماماً لازدراء بيئته المحافظة لمهنة «المشخصاتي». غضب والده منه وطرده له لأنه «وطّا راس العيلة» بسبب عمله في الفن. بدأ مسيرته أواخر الأربعينيات بتقديم مقاطع كوميدية مرتجلة على مسارح دمشق، ثم انتقل إلى الغناء والتمثيل في فرقٍ فنيّة عدة كفرقة «علي العريس»، «سعد الدين بقدونس»، «عبد اللطيف فتحي»، «البيروتي»، و«محمد علي عبدو»، كما أسهم في تأسيس عدد من الفرق المسرحية الناشئة بعد الاستقلال (1946).

في ذاك الزمن، أدى الراحل شخصيّات شعبية لم تُكتب لها الشهرة مثل «أبو رمزي» و«أبو جميل»، إلى أن بدأت قصّته مع «أبو صيّاح» كما يروي في إحدى مقابلاته: «أوّل مرّة قدمتها عن طريق المصادفة، حين أراد الفنّان أنور المرابط أن يتغيبّ عن أداء فصل كوميدي يلعب فيه دور العتّال في إحدى مسرحيات الراحل عبد اللطيف فتحي. كنت أعمل وقتها ملقماً في مسرحه، لم أنم ليلتها من الفرحة، واعتبرت هذا الدور نوعاً من الامتحان يمهد لي الطريق كممثل، استعرت الشروال وباقي الاكسسورات، ففوجئ بي فتحي عندما رآني على المسرح، وجسّدت الشخصية على طبيعتها كما تبدو في الحياة. وقتها، شاهد أدائي المرحوم حكمت محسن، وتنبأ لي بالنجومية منذ ذلك الحين».

كان ذلك أواخر خمسينيات القرن الماضي، في عمل مسرحي مقتبس عن مسرحية مصرية للكاتب أبو السعود الإبياري نقلها عبد اللطيف فتحي إلى الشاميّة، قدمت على أحد مسارح دمشق، وحضرها وقتها صباح قبّاني أول مدير للتلفزيون السوري، وبقيت في باله. وعندما تأسس التلفزيون عرفّه إلى الراحل نهاد قلعي، والفنّان دريد لحّام، وبدأت مسيرة «أبو صيّاح» التلفزيونية مع «غوار الطوشة» و«حسني البورظان».

مسيرةٌ أثمرت عن مسلسل «مقالب غوار» (1967) وعملٍ كوميدي خالد، ما زال يصنَّف في خانة السهل الممتنع هو «حمّام الهنا» (1968).

توقف الراحل نهاد قلعي عن العطاء مبكراً، بسبب تعرضّه لاعتداء أصابه بالشلل، في حادث منتصف سبعينيات القرن الماضي، ثم كانت المحطة الأخيرة التي جمعت بين السبيعي ودريد لحّام في مسلسل «وادي المسك» (1982)، ولم يجمع بينهما عملٌ تلفزيوني بعد ذلك. قيل إنّ ذلك يعود إلى خلافٍ مالي بينهما، أشار إليه رفيق السبيعي في الكتاب الذي روى فيه سيرته الذاتية «أبو صياح يدفع ثمن الحب» (1999 ــ للكاتب السوري وفيق يوسف).

الخلاف أسدل الستار على علاقة رفيقي الدرب حتى آخر حياة السبيعي، وتم تناوله عبر الإعلام خلال السنوات الأخيرة، حين نقل موقع «النشرة الفنيّة» عن لحّام قوله (سنة 2013): «عندما يذكر رفيق السبيعي في سيرة حياته أنني نصبت عليه الكثير من الأموال، وعندما يأتي ليعترف أنّه أخطأ، أنا مستعد للتعاون معه».

وأتى رد فنّان الشعب بعد عام تقريباً عبر «إذاعة المدينة» بأن «القلوب ليست صافية»، مؤكداً أنّه «سعى للصلح، وتغاضى عن الماضي، وأعطى فكرة عمل فنّي يمَكّنهما سوياً من العودة إلى الشاشة، ولكن لم تكن هناك استجابة من الطرف الآخر» مضيفاً: «أحزن على الجمهور الذي أحبّنا سويّاً، ولم يكن علينا أن ندير ظهرنا له».

وفي هذا السياق، نذكر محاولات لم يكتب لها النجاح بذلها صنّاع مسلسل «طالع الفضّة» (2011)، بخاصّة الفنّان عبّاس النوري، والمخرج سيف الدين السبيعي للجمع بين الصديقين القديمين مجدداً في هذا العمل التلفزيوني، ليكون من نصيب رفيق السبيعي نجاحٌ استثنائي بدور «طوطح اليهودي»، أثبت فيه قدرته على التجدد في الثمانين من العمر، كأنه انتصر أخيراً للممثل بداخله، في مواجهة سطوة «أبو صيّاح». دورٌ قال عنه الراحل: «كاتِبَا العمل (عنود الخالد، وعبّاس النوري) رسما ملامح شخصية أقرب إلى المثالية، وهذا سبب محبتي لها، فطوطح متعلق بالمكان الذي ولد وعاش فيه، وجذوره ضاربة في أعماق الشام، ولا يستطيع أن يفارق رائحة النارنج، إلى جانب معرفته الشاملة بكل الأشياء، والعواطف، والواقع، والحِكَمْ التي تبرز من خلال حديثه، وتعامله مع باقي شخصيّات المسلسل. كنت سعيداً بأداء الدور، صحيح أنني تعبت كثيراً، لكّن هذا التعب زال بظهور النتيجة». ولم يجد ضيراً من القول بأنّ دور «طوطح» لم يكن معروضاً عليه، وطلبه على وجه التحديد من ابنه المخرج سيف، وقيل في الكواليس إنّ الاسم المقترح لأداء الدور كان بدايةً دريد لحّام.

على مدى ستة عقود، قدّم رفيق السبيعي عشرات الأدوار التلفزيونية المميزة، تحت إدارة أربعة أجيالٍ من المخرجين، كما في مسلسلات: «لك ياشام»، «الخشاش»، «دمشق يا بسمة الحزن»، «صلاح الدين الأيوبي»، «مبروك»، «صقر قريش»، «مرايا»، «فسحة سماوية»، «عن الخوف والعزلة»، «عمر»...

وبما يملكه من كاريزما «الزكرت الشامي»؛ كان دور «الزعيم» في المسلسل الشهير «أيام شاميّة» (1992)، فاتحة لتصّدر أدوار الزعامة في معظم المسلسلات التي تنتمي إلى هذا النوع من الأعمال، ليختم مسيرته التلفزيونية بدور الزعيم «أبو راغب» أحد أبطال «بنت الشهبندر» (إخراج سيف الدين السبيعي)، و«الشيخ صالح» في مسلسل «حرائر» تحت إدارة المخرج باسل الخطيب. علماً أنّ المسلسلين عرضا خلال موسم دراما رمضان 2015.

وشهد عام 2016 أداء الراحل دوره السينمائي الأخير، وللمفارقة كان أيضاً أمام كاميرا باسل الخطيب، في فيلم «سوريّون.. أهل الشمس»، ليترك في أذهان محبيّه الصورة الأخيرة، للأب المتسامح... أيقونة لا يدنس قداستها كل ذلك الجحود والنكران، والحقد الذي يسيطر بسواده على سنواتنا العجاف. صورةٌ تتقاطع حياتياً مع صورته كأب، وقف بشموخ خلال تلقيه العزاء بابنه البكر عامر قبل عامين... ابن رحل بعيداً عنه، وكان بينهما خلاف سياسي، وتباين في المواقف إزاء الصراع في البلاد.

بفيلم «سوريّون»، اختتم فنّان الشعب مسيرة سينمائية قدّم خلالها أكثر من خمسين عملاً، بينها فيلمان للأخوين رحباني، وقف فيهما أمام السيدة فيروز هما «سفر برلك»، و«بنت الحارس»، ومن أفلامه أيضاً: «أحلام المدينة»، «الشمس في يومٍ غائم»، «الليل»، «صندوق الدنيا»، «الليل الطويل»، إلى جانب الأدوار التي أدّاها في موجة الأفلام التجارية خلال سبعينيات القرن العشرين.

وللإذاعة حكاية أخرى، روى فيها ذكرياته في برنامجه الشهير «حكواتي الفن»، عبر أثير إذاعة دمشق، التي شارك فيها بعشرات المسلسلات الإذاعية، وقدّم برامج عديدة... إذاعةُ لطالما رددت صدى أغنياته على مسارح دمشق وحلب، كمونولوجيست: «يا ولد لفلك شال»، «تمام تمام هدا الكلام»، «شروال أبو صياح»، «لا تدور ع المال»، «حبوباتي التلموذات»، «شيش بيش»، «قعود تحبك»، «الحب تلت لوان»، «الخنافس»، وأغنياتٍ أخرى أدّاها خصيصاً للسينما كـ «زحليقة وتلج»، «ليش هيك صار معنا»، و«الاوتو ستوب».

وتبقى في البال أغنيته للشام التي غنّاها في 2012 من كلماته وألحان سمير كويفاتي: «أنا سوري من أرض الشام وعطر الياسمين الفواح... مهما درت وشفت بلاد.. غير بحضنا ما برتاح».
«أبو عامر» سيلف شاله اليوم، ليودعه محبّوه من منزله في منطقة المزة إلى مثواه الأخير؛ مقبرة «باب الصغير» في حضن الشام، المدينة التي ولد ونشأ فيها... وتتلقى أسرته العزاء في صالة «جامع الأكرم» أيام الجمعة، السبت، والأحد بين الساعة السادسة، والثامنة مساءً.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 «حمام الهنا» يقفل أبوابه على جيل لن يتكرّر


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧٣ الجمعة ٦ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
نجوم
رحل شيخ الأوادم - رفيق السبيعي... «زكِرْتي الحارة» لم يعد يجيب


خليل صويلح


برحيل رفيق السبيعي، أغلق «حمام الهنا» أبوابه تقريباً. سيلتحق برفاق درب كثيرين سبقوه إلى العالم الآخر، أمثال نهاد قلعي، وفهد كعيكاتي، وياسين بقوش، وناجي جبر. سيصعب علينا إحصاء ميراثه في المسرح والغناء والسينما والإذاعة والتلفزيون. هو « أبو صياح» الشخصية الدمشقية الأصيلة بشرواله وطربوشه وشاربيه. كاركتر عابر للأجيال، مزيج من عبق حي البزورية العريق، وأسوار القلعة، عبوراً إلى نوادي التمثيل الأهلية في خمسينيات القرن المنصرم، صاحب الأغاني الانتقادية التي لم تطوها قيم الحداثة.

على الضفة الأخرى، هو الممثل بأقنعته المختلفة، المتمرّد على رغبة العائلة بأن يكون خيّاطاً. سيطرّز قماشة أخرى بروحه المتوثبة لصناعة البهجة. كان قدوم فرقة علي العريس اللبنانية إلى دمشق فرصة للممثلين الهواة أن يختبروا أدواتهم على الخشبة. هكذا تسلّل رفيق السبيعي إلى كواليس المسرح، قبل أن يلتحق بفرقة سعد الدين بقدونس، التي كانت تجول المدن البعيدة والأرياف لتقديم عروضها، من دون التفكير في مشقة المواصلات وعدم وجود فنادق للنوم، فكانوا ينامون في أروقة المسرح. يتذكّر بأن أول أجر حصل عليه كان ليرة واحدة عن كل عرض. بتأسيس «المسرح الحر»، صعد عتبة أخرى في سلّم الفن بصحبة عبد اللطيف فتحي. ورغم مشاركته في بعض عروض المسرح القومي»، إلا أنّ بصمته كانت أكثر ألقاً في عروض المسرح الشعبي. ستتوضح شخصية « أبو صياح» شكلاً وموقفاً في فيلم « سفر برلك» للمخرج هنري بركات (1967)، وستتبعه عشرات الأشرطة مع فورة سينما القطاع الخاص في سبعينيات القرن المنصرم، حتى أنه باع عمارة كان يمتلكها كي يموّل فيلماً من إنتاجه هو «نساء للحب» (1974). وبالطبع لن ننسى حضوره الأخاذ بدور الجد في فيلم «أحلام المدينة» (1983)، و« الليل» (1992) لمحمد ملص بدور شكري القوتلي، وكان ظهوره السينمائي الأخير في فيلم « سوريون» (2016) لباسل الخطيب.

بتأسيس التلفزيون السوري مطلع الستينيات، كان رفيق السبيعي شاهداً على تلك الحقبة بالأبيض والأسود بصحبة دريد لحام ونهاد قلعي. تمثيلية «مطعم السعادة» (1960) كانت فاتحة لأعمال تلفزيونية لا تحصى تنطوي على مقدرة استثنائية في منح الشخصية خصوصيتها البيئية، لجهة الشهامة والأصالة، ومعنى «القبضاي». فقد كان على الدوام صورة حيّة للشخصية الشامية، وستفتقد الشام عبيرها بغياب صاحبها. رحل «حكواتي الفن»، وبقيت ذكرياته على أثير إذاعة دمشق شهادة عن جيل لن يتكرّر.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 «فنان الشعب» مُتعدّد الكارات الإبداعيّة


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧٣ الجمعة ٦ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
نجوم
رحل شيخ الأوادم - رفيق السبيعي... «زكِرْتي الحارة» لم يعد يجيب


علي وجيه


روح رفيق السبيعي لن تغادر حي البزوريّة، ومئذنة الأموي، وأدراج قصر العظم. هو الطفل الذي اعتاد اختصار الطريق إلى بيت خاله في حيّ العمارة، بعبور الجامع الكبير من باب الصاغة إلى باب الكلّاسة، مارّاً بضريح صلاح الدين. أحبّ الذهاب مع أخيه الكبير توفيق إلى حلقات الذكر، وإنشاد أشعار ابن عربي وابن الفارض في مسجد نور الدين الشهيد.

شبّ على حلم الفن، متحدّياً إرادة الأب، وظنون المحيط. لم يكن الأمر سهلاً في الشام القديمة بعد الاستقلال، ما اضطرّه إلى البدء باسم فنيّ هو «رفيق سليمان». كثيراً ما عاد إلى بيت العائلة تسللاً عبر الأسطح المجاورة. غير أنّ الشاب الحالم، لم يفهم التمرّد على أنّه «انحراف» أو تطرّف. النشأة رسّخت داخله الإخلاص لأخلاقيات المجتمع، فحرص عليها خلال مشواره. الفن يعني الإرشاد والتوجيه والإفادة العامة. أيّ فهم دون ذلك مرفوض، ولا يعني شيئاً. كذلك، سهّلت عليه التقاط تفاصيل الشخصية الشعبيّة ذات السلوك القويم والصفات الحميدة: مروءة وشهامة، وشوارب مقدّسة، وكلمة كحدّ السيف. المظاهر راسخة: صوت رجولي، ومشية عريضة، وشروال، وشال، وخال، وطاقية، وعصا. هكذا، لم تكن ولادة «أبو صيّاح» صعبةً. كذلك، لعبه على الخشبة وخلف المايكروفون وأمام العدسة لاحقاً.

سلسلة من الأسماء بصمت على بداية رفيق السبيعي. عمل ملقّناً في فرقة الرائد العبقري عبد اللطيف فتحي مطلع الخمسينيات، إضافةً إلى فرق أخرى مثل علي العريس وسعد الدين بقدونس ومحمد علي عبدو. سنحت الفرصة بغياب الممثّل أنور المرابط عن عرض لفتحي، يقوم فيه بدور الحمّال، فاستغلّها كما يجب. هذا قاده إلى عبقري آخر هو حكمت محسن، الذي ضمّه إلى عالمه المبهر من الكاركتيرات الشعبيّة المشتقة من الشارع الدمشقي العتيق. كتب له خصيصاً في الإذاعة، ثمّ نقله إلى الشاشة. في عام 1955، شكّل ثنائياً مع ممثّل لبناني من أصل يهودي يُدعَى توفيق إسحق، في إذاعة الشرق الأدنى التابعة لبريطانيا.

طبعاً، توقف العمل مع العدوان الثلاثي على مصر. أوّل مدير للتلفزيون السوري صباح قباني أعجب بشخصية أبو صيّاح، في مسرحية عن نصّ للمصري أبو السعود الإبياري، فجمعه بالثنائي دريد ونهاد. بدأ معهما في تمثيلية «مطعم الأناقة الجوّال» (1961)، قبل صنع السحر في أعمال أشهر من التعريف. بالتزامن، سيطر المغنّي والمونولوجيست رفيق السبيعي على الطقطوقة واللون الشعبي الناقد، مستفيداً من إرث سلامة الأغواني ونصوح ومطيع الكيلاني وفؤاد محفوظ وسعيد فرحات، وألحان عدنان قريش وزهير منيني، وكلمات بسيطة بعضها بقلمه. حقق شهرة واسعة في مسارح ونوادي دمشق. تابع في «نهوند» (1962) مع حكمت محسن، و«7 * 7» (1963) تحت إدارة رائد آخر هو خلدون المالح، حتى أنّه أرسل إلى مصر لنشر لهجة «الإقليم الشمالي» بصوت أبو صيّاح، واتباع دورة في الإخراج الإذاعي. أيضاً، لم يتخلّف عن المشاركة في تأسيس المسرح القومي عام 1960.

خلاصة تلك المرحلة أنّ رفيق السبيعي وصل إلى مشروع دريد ونهاد ناضجاً، مكتملاً. هو متعدّد الكارات الإبداعيّة، ومتشرّب لتجارب عدد من الروّاد والمؤسّسين. نهاد قلعي لم يبتكر شخصيته في المقالب والحمّام والأوتيل، كما فعل مع البقيّة. هذا منحه نوعاً من الاستقلاليّة والتفرّد. مكّنه من التحليق خارج سرب «صح النوم» متى أراد. «سعدو حنّي كفّك» رفض الخضوع لسطوة أبو صيّاح. تجرّأ على الكاراكتير، متجاوزاً جبن العديد من زملائه. ذهب إلى شخصيات بعيدة، قبل العودة إلى ملعبه الأثير. عدم القبول بالمرسوم سلفاً من أدوار ومكانة، كلّفه أثماناً وأعمالاً وخلافات طويلة الأمد.

«داعيكم أبو صياح معدّل ع التمام» مثل أعلى للشريحة الشعبيّة، بأخلاقه وسلوكه وخفّة دمّه وحلاوة روحه. ليس صعلوكاً طائشاً مثل «غوّار الطوشة»، أو غلباناً مسكيناً كـ «حسني البورظان»، أو قبضاياً أزعر من طراز «أبو عنتر» (ناجي جبر)، أو درويشاً أبله على غرار «ياسينو» (ياسين بقوش)، أو ضابطاً هزلياً من نوع «بدري أبو كلبشة» (عبد اللطيف فتحي). هو الزكرت، الجدع، ذو الجمال المرتبط بالفحولة والرجولة، صاحب الفعل المحسوب والحرف الوازن. كل ذلك صنع منه «فنان الشعب» دون سواه من الأشهر والأقدم.

قدّم رفيق السبيعي تنويعات واضحة على أبو صيّاح. أدوار مثل الزعيم في «أيام شاميّة» و«ليالي الصالحيّة» و«طاحون الشر» و«قمر شام»، والمختار في «أهل الراية» أمثلة على ذلك. شارك في أعمال لا ترقى لإمكاناته وتاريخه. في المقابل، تفوّق على نفسه في أخرى، مثل فيلمي «أحلام المدينة» و«الليل» لمحمد ملص. «طوطح» في «طالع الفضة» ذروة نادرة في قدرة ممثّل على الإتيان بالجديد بعد نصف قرن من العمل. لا أحد مثله يقدر على تشخيص الفيلسوف الدمشقي اليهودي. دور بديع رفضه دريد لحام، ونقل عنه كثيرون ندمه على ذلك بعد عرض المسلسل.

في يوم ما، أهداه الرئيس السوري أمين الحافظ مسدّسه الشخصي. هذا يقود إلى علاقة رفيق السبيعي وجيله مع السلطة. جيل متحفّظ، مهادن، مهذّب، حريص على عدم الإزعاج والاستفزاز على الصعيد الشخصي، رغم أنّ «مسرح الشوك» من أكثر التجارب الفنيّة مشاكسةً وجرأةً. هذا لم يثنِ رفيق السبيعي عن إطلاق لسانه، خصوصاً في السنوات الأخيرة. هاجم دراما البيئة الشامية المزيّفة للواقع. انتقد ارتهان الدراما السوريّة برمّتها لأموال الخليج، وانقيادها لأجندات محطّاته. من أكثر منه أهلاً للقول الفصل؟ جدّ الفنّانين أهدى حياته للإبداع. عمره الفني أكبر من عمر الدراما السوريّة نفسها. وداعاً.



عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 شهادات محبّيه ورفاق دربه : قامة إنسانية كبيرة


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧٣ الجمعة ٦ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
نجوم
رحل شيخ الأوادم - رفيق السبيعي... «زكِرْتي الحارة» لم يعد يجيب


بدت منى واصف شديدة التأثر عند تلقيها خبر رحيل فنّان الشعب. قالت لـ «الأخبار» بأنها رأته أول من أمس عند باب مصعد المبنى الذي يتشاركان سكنه كجيران منذ سنواتٍ طويلة: «رأيته واقفاً.. كما أحبّ أن يكون حتى آخر لحظةٍ في حياته. هذا الرجل يشبه الأشجار التي تموت واقفةً. هو الجار، والصديق، والأستاذ المهذب الخلوق الذي لن يتكرر... من أولئك الناس الذين يتركون وراءهم بصمةً في حياتنا، ووجعاً كبيراً. أتشرف أنني عشت في زمنه وزمن دريد لحام أطال الله بعمره».

آخر الأعمال التي جمعت منى واصف برفيق السبيعي «بنت الشهبندر» (2015).
أما الملحن أمين الخيّاط (نقيب الفنّانين السوريين بين عامي1967 و1980)، فقد وصف الراحل رفيق السبيعي بـ «المكافح جداً الذي تعب في صناعة اسمه كما يليق بفنّان كبير يستحق ما وصل إليه من مكانة».

تعود الصداقة التي جمعت بين الخياط والسبيعي إلى العام 1957. وعن ذلك يقول لـ «الأخبار»: «تعرفنا إلى بعضنا في مسارح حلب، وأمضينا معاً ثلاثة رمضانات، تشاركنا فيها طعام الإفطار. وقتها أخذ على عاتقه طبخ الطعام لنا، أنا وهو والممثل الراحل محمد خير حلواني، وكم كان نفسه طيباً في الأكل. هو مثال للإنسان الصادق الشفّاف، خسرت بوفاته صديقاً صدوقاً، وخسرنا بوفاته فنّاناً كبيراً، أثرّت أغنياته الانتقادية في جيل من الشباب السوري التي طالما رددها، لحنّت له خمس أغنيات له، إلى جانب ملحنين سوريين كثر، من بينهم سهيل عرفة أطال الله في عمره، وآخر أغنياتهما معاً «لا تزعلي يا شام» سجلها بصوته قبل أشهر في إذاعة دمشق. هذا هو رفيق كما عرفته.. لم يتوقف عن العطاء، والكفاح حتى آخر أيّامه».

آخر المخرجين السوريين ممّن عمل معهم الراحل رفيق السبيعي، المخرج باسل الخطيب، الذي وصفه بـ«القامة الإنسانية الكبيرة، لا الفنيّة فقط، ومن يعرفه عن قرب، يمكنه تلمس تلك الخصال فيه.. هو كان فعلاً أباً محبّاً للجميع».

وقال الخطيب في رثاء فنّان الشعب لـ «الأخبار»: «ربما شاءت الأقدار أن نتعاون معاً في آخر فيلم ومسلسل شارك فيه، وأشعر بالندم والأسى بأن هذا التعاون أتى متأخراً، هو خسارة كبيرة لنا، وسيترك خسارة كبيرة برحيله، قامة فنيّة في غاية التواضع، لا يعييها التعب، لديه ولاء لمهنته نفتقده كثيراً اليوم، وأرجو أن نتعلم منه كم تحتاج هذه المهنة للشغف والحب. يؤسفني أنني لم أتمكن من رؤيته رغم إطمئناني على صحته قبل أيام، ووعدي بزيارته، لكن القدر لم يمنحني فرصة توديعه كما أحب. لروحه الرحمة والمغفرة، والعزاء، لعائلته ولنا.. لمحبيّه».
محمد...

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 رثاء فايسبوكي


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧٣ الجمعة ٦ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
نجوم
رحل شيخ الأوادم - رفيق السبيعي... «زكِرْتي الحارة» لم يعد يجيب


سامر رضوان


ليس مقبولاً أن تجمعَ قامةً كبيرةً في زنزانةِ كلامْ . وأن تحاولَ نَحْتَ الموجةِ على شكلِ طاقةِ زهرْ.
إنه اعتداءٌ على الوردة، وأدواتِ اللغة، وطبيعةِ تَكَوُّنِ الشلالْ. فعندما يغادِرُكَ الكبار، ترتجفُ الورقةُ أمامَ سوادِ ظلِّ القلمْ. حتى وإن أرادَ القلمُ إضافةَ مِساحةِ بياضٍ فوق بياضِها. إنه ارتجافُ الفراقْ، وارتجافُ القلبْ، وارتجافُ الذاكرةْ.

لقد جمع رفيق السبيعي محطاتِ حياته في حقيبةِ الدنيا، تاركاً صندوقَ دنياه بيننا. فقد كان كريماً حتى في رحيله. أحدُ آباءِ الذاكرة، واللونُ الأصيلُ فيها، والصانعُ الماهرُ لمعنى العفويةِ المشغولةِ على طَعمِ رغيفِ الخبز.

برحيل العملاقين: خالد تاجا ورفيق السبيعي... نفقد أحد عشر كوكباً من غير نقص.

* سيف السبيعي: رحل الزعيم... وترك دمشق أمانة بين يديكم
* ديمة قندلفت: رحلت قامة عربية، قامة سورية، قامة دمشقية... ستفتقدك شامُك، وستبقى فيها شجرة شامخة، نستظلّ بظلّها ما حيينا..
كل الرحمة لروحك #رفيق_سبيعي
* شكران مرتجى: الله شوبحبك يا أبو عامر وبعرف قديش كنت تحبني من ملقاك ريحة عطرك مابنساها... وكل اللي بحبهم عم يروحواسلملي ع بابا وعلى نضال
الله يرحمك ويصبر سيف وهبه وصبا وصباح وأحفادك وكل محبينك....كنا بدنا نزين المرجة معك
* الممثل علاء قاسم: هرم آخر من أهرامات الفن السوري يغادرنا.. منك تعلمنا الاكابرية و النضافة والاناقة والرتابة والالتزام والاخلاص لشغلنا... رفيق سبيعي... خسارتنا فيك لا تعوض.. حنانك ودفاك كأستاذ كبير ح نفتقدهم لزمن كتير طويل.. لروحك كل السلام .. لترقد في عليائك بسلام..
* الممثل يامن الحجلي: لقد ترجل فارس دمشقي عتيق بعد رحلة فنية غنية ستبقى طويلاً في الذاكرة السورية والعربية... وداعاً يا زعيم وداعاً ابو صياح وداعاً لهذه القامة الفنية الكبير التي صنعت لنا الطريق الذي نسير عليه اليوم..
* الممثل فادي صبيح: ما اصعب كلمات الرثاء أيها الزعيم.... أبو صياح يا روح الشام... وداعاً
* الممثلة ميسون أبو أسعد: راحوا الكلمات مني بروحتك عننا.. معرفتك والشغل معك ومحبتك النا شرف كبير .. كلماتك وطيبتك ونصايحك مستحيل أنساها .. يالله هالخبر شو صعب .. يا الله غيابك شو خسارة النا كلنا..
الله يرحمك ويصبر عيلتك الصغيرة وعيلتك الكبيرة يلي هي نحن وسورية كلها يلي حبيتها من كل قلبك.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 رفيق سبيعي أبو صياح يرحل دون أن يحل لغز ’شرم برم كعب الفنجان’


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 07-01-2017، العدد : 10505، ص(14)
الصفحة : ثقافة
العرب - برلين - العرب إبراهيم الجبين


شخصية ’القبضاي’ الدمشقي، أو ما بات يعرف لاحقا بـ’العكيد’ في الأعمال الشامية الحديثة تعتبر ابتكار رفيق سبيعي منذ البداية.

سيفتقد المشاهدون تلك النبرة المتحشرجة نوعا ما في صوت رفيق سبيعي الذي غيبه الموت قبل يومين. بعد أن ألفوها طويلا في أعمال درامية كثيرة وفي أغان ومونولوجات لا تغيب عن البال، بغض النظر عن الانقسام الذي شهدته ردود الفعل على وفاته. فسبيعي يمثل حالة الانقسام العائلي في تأييد النظام ومعارضته، ابنه الممثل والمغني الراحل عامر سبيعي ومعه شقيقه بشار كانا ضد نظام الأسد. بينما بقي الأب رفيق وابنه المخرج سيف الدين سبيعي مؤيدين إلى أبعد حد للأسد ونظامه.

ضيوف الشاشة

لا نزال نعيش عصرا من الدراما استمر أكثر من نصف قرن، أسس له جيل تساقطت شخوصه يوما بعد يوم، دون أن يفقد الجمهور العربي تلك الصلة الوطيدة بالشاشة البيضاء والسوداء، ولا بمن طلوا عليه من خلالها إلى بيوت بالكاد عرفت معنى ووظيفة الدراما والكوميديا أواسط القرن العشرين.

في الوقت الذي اعتادت الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي استطاعت أن تتملك أجهزة تلفزيون في ذلك الوقت، على التعامل مع من تصغي إليه بتبجيل واحترام، كما لو كان معلما في صف، أو مديرا في مصلحة ما، تعامل أبناء تلك الطبقة مع أولئك الذين ظهروا على الشاشة الصغيرة الرمادية اللون، استمعوا إليهم جيدا، وراقبوا حركاتهم وسكناتهم وانتبهوا إلى الأزياء التي كانوا يرتدونها، وحفظوا لهم نصيبهم من الاحترام والتقدير. لكن ما الذي كان يحصل على الضفة الأخرى لعملية التلقي، عند أولئك النجوم؟ كان هؤلاء القادمون من بيئات مختلفة في سوريا والعراق ومصر ولبنان والمغرب والخليج العربيين، يحققون نصرا كبيرا لا يقدّر عندهم بثمن، كانوا يحصلون على اعتراف الناس، فقد غير التلفزيون حياتهم.

كان هؤلاء المشخصاتية يدورون على القرى والمدن ومسارحها يغنون ويرقصون ويمثلون، يحاولون بكل ما استطاعوا أن يكسبوا تلك اللحظة التي يصفق لهم فيها الجمهور، وربما كان جمهورا من عدد قليل من الناس تعد على أصابع يدين اثنتين.

كان هذا ما سألت عنه رفيق سبيعي الفنان السوري الذي رحل عن عالمنا قبل يومين. ما هو السحر الذي جعلك تتجه إلى الفن وأنت الدمشقي الذي كان من الممكن أن يعمل في التجارة والبيع والشراء في وسط الحي الذي ولد فيه؛ حي البزورية الشهير في قلب دمشق القديمة؟

العام 1930 كان العام الذي ولد فيه رفيق سبيعي. هو ذاته العام الذي ولد فيه حافظ الأسد ودريد لحام، وهما إثنان أثرا على حياة سبيعي لاحقا أيما تأثير. الأول ضمن للممثل الدمشقي الاحترام والتقدير الذي لم يحظ به من قبل، كما كان يقول حين أطلق عليه لقب “فنان الشعب”، والثاني، انتزع منه ذلك الاحترام. ولذلك بقي رفيق سبيعي وفيا للسلطة، كما يفهمها، وبقي أيضا على موقفه الحاد من شخصية دريد لحام، الذي كان يكن له الكثير من الضغينة المضمرة، وأحيانا المعلنة، بسبب مواقفه منه ورغبته في تهميشه.

الفن والشعب والقبضاي

اللقب الذي التصق برفيق سبيعي طيلة سنوات عمره التي شارفت على التسعين، ارتبط بالشعب والفن الشعبي، وهذا أتى من المونولوج الذي برع فيه، والهيئة التي ظهر فيها بزيه الشعبي ولهجته الشامية، والخال ذي الشعيرات الذي كان يضعه على حنكه، رمزا للرجولة.

اختار سبيعي العمل منذ أواسط الأربعينات، على مسارح دمشق ومنتدياتها، فشارك مع الفرق الكوميدية التي ظهرت في ذلك الوقت مثل فرقة علي العريس وسعدالدين بقدونس وعبداللطيف فتحي وغيرهم. ولكن ليس كممثل بل كـ”ملقّن” يساعد الممثلين على الخشبة في تذكر أدوارهم، قبل أن ينتقل إلى التمثيل معهم.

بقي يعمل على هذا النحو حتى بداية الخمسينات حين ابتكر شخصية “القبضاي” الدمشقي، أو ما بات يعرف لاحقا بـ”العكيد” في الأعمال الشامية الحديثة. وكان القبضاي يمثل القيم المجتمعية والقوة والفروسية. وخضعت تلك الشخصية لتطويرات كثيرة، فكانت “أبو جميل” ثم “أبو رمزي” لتستقر أخيرا على شخصية “أبو صياح”.

كان المجتمع السوري والعربي عموما يخرج من حرب تحرير مع الدول الاستعمارية، آخذا في بناء تكوينه الطبيعي في حالة السلم. وكانت للسلم شروطه، فلابد من قيم وأخلاقيات تنظم حياة الناس في الفوضى التي رافقت الصراع مع المحتلين. ولم يكن في ظل غياب السلطات المحترمة، من بديل سوى ذلك القبضاي، كي يعيش ليس فقط على خشبات المسرح، ولكن في أذهان الناس وفي قلوبهم، يحدثهم عن الفتوة والحاجبين المعقودين، كما في أغنيته “يا ولد لفلّك شالْ، واتعلّم شغل الرجالْ” وغيرها.

ازداد حضور سبيعي مع مشاركته في تأسيس المسرح الحر، وأخذ يقدم ما هو أوسع من المونولوج والطقطوقة، مسرحيات مثل “بالمقلوب” و”مرتي قمر صناعي” و”طاسة الرعبة” و”صابر أفندي” للكوميدي الرائد حكمت محسن.

أدخل عهد الوحدة والمد القومي العربي رفيق سبيعي كما أدخل غيره، في حالة تحشيد ثورية وطنية دائمة، فتحولت أعماله من الكوميديا إلى الأعمال النضالية، وباتت تظهر عناوين المسرحيات التي شارك فيها في المسرح القومي على النحو التالي “أبطال بلدنا” و”البورجوازي النبيل” و”الأخوة كارامازوف” و”الاستثناء والقاعدة” و”لو رآنا الناس معا” عن قضية التمييز العنصري.

ولم يتخل سبيعي طيلة الوقت عن فن المونولوج الذي واكب من خلاله تطورات حياة الناس، ودخول الأزياء والموضات إلى يوميات الشبان والشابات. وكانت الكلمات الساخرة هي المفتاح كما في أغنية “شرم برم كعب الفنجان” التي تناول فيها الشباب. تقول كلمات الأغنية “شرم برم كعب الفنجان/ يا حبمبم ملا شبان/ مدري شباب مدري نسوان/ شرم برم كعب الفنجان/ ليكوكه لك ليكوكه/ يا سعدية ليكوكه/ سعفص لابس باروكه/ بيحكي فرنسي وترّوكه/ شرّف سيدي/ جنتل ليدي/ شورت وميني/ ماكسي وميدي/ وشرم برم كعب الفنجان/ عالبطاطا وعالبوظه/ وعالشاي وعالكازوزه/ وهالأغاني المحظوظه/ بأي طريقه ملفوظه/ ويلي عالمزمزيلات/ لك لبسوا آخر موديلات/ محاهن بالماكسيات/ عاريات ومكسيات/ بكرا مطرح ما بتفوت/ بتلاقي الرزق ببلاش/ ويمكن يغلى ورق التوت/ وتسكّر مصانع القماش/ وشرم برم كعب الفنجان”.

سفر برلك

في عام 1962 ظهر سبيعي في برنامج “نهوند” التمثيلي بشخصية شعبية “سعدو حنّي كفك”، وقدم أغنية بعنوان “حبك بقلبي دوم ساكن مطرحو”، وقدم عبر “أبو صياح” أغنية “داعيكم أبو صياح معدل ع التمام”. وتواصلت طقاطيقه الناقدة الفكاهية على شاكلة “العيشة صارت مرّة” و”زمن العواطف” “لا تدور ع المال” “وشروال وميني جوب” والكثير غيرها، بعضها تعلق به الناس، وحفظته الأجيال ورددته في سهراتها ورحلاتها.

جاءت الستينات لتنقل سبيعي من طور إلى آخر، حين فتحت له الشاشة الكبيرة ذراعيها. فشارك في أكثر من خمسين فيلما بدءا من ذلك الزمن وحتى رحيله. كان أولها فيلمه “سفر برلك” مع فيروز والرحابنة في العام 1966، ثم “غرام في اسطنبول” في العام 1967، ثم مع فيروز من جديد في “بنت الحارس” بداية السبعينات، ثم في سلسلة من الأفلام التجارية التي حافظ بها على حضوره في المهنة والوسط، دون أن يفوت مخرج كبير مثل محمد ملص الاستعانة به في فيلمه “أحلام المدينة” الذي أعاد لسبيعي قليلا من الهيبة التي كان قد خسرها بسبب الأعمال السينمائية التجارية التي قام ببطولتها، أردفه بفيلم “الشمس في يوم غائم” في أواسط الثمانينات، ثم “صندوق الدنيا” لأسامة محمد و”الليل” لملص مرة ثانية و”الليل الطويل” لحاتم علي وهيثم حقي.

طاقة رفيق سبيعي لم تكن تقتصر على العمل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، فقد حافظ على تقاليد العمل في الإذاعة أيضا، وكان قد بدأ العمل فيها في الخمسينات. وبرز عمله “حكواتي الفن” الذي دام أكثر من إثني عشر عاما، ليكون موسوعة للفنون العربية السمعية والبصرية استعرض من خلالها القديم والجديد بصوته وإعداده وإخراجه في إذاعة دمشق.

وفي أواسط التسعينات استطاع حاتم علي أن يعيد رفيق سبيعي إلى المسرح من جديد في مسرحيته “مات ثلاث مرات”، وكذلك فعل ابنه سيف الدين سبيعي في العام 2001 حين قدم والده رفيق في مسرحية “شو هالحكي” من إعداده وإخراجه بالاشتراك مع نضال سيجري وجلال شموط عن نص للكاتب زكريا تامر.

صاحب حمام الهنا

أعمال رفيق سبيعي في التلفزيون بدأت رسميا مع مسلسل “مطعم السعادة” مع نهاد قلعي ودريد لحام، ثم في “مقالب غوار” و”حمام الهنا”، وكانت شخصية أبوصياح أيضا صاحب الحمام الذي يعمل فيه غوار وتدور فيه القصص والحكايات، وهو مسلسل تلفزيوني سوري بسيط أنتج في العام 1968 عن رواية بعنوان “الكراسي الاثنا عشر” للكاتبين الروسيين ايلف وبتروف، وكان فكرة وإخراج المخرج العراقي القدير فيصل الياسري وأعد له السيناريو والحوار الفنان القدير الراحل نهاد قلعي، وعاش طويلا لدى المشاهدين العرب، ولا تزال بعض المحطات العربية مواظبة على عرضه كل عام.

بعد “حمام الهنا” تواصلت أعمال سبيعي فتألق في مسلسلات حفرت عميقا في الذاكرة؛ “دروب ضيقة” و”الحريق” و”الينابيع” و”لك يا شام” و”الخشخاش” و”الانحراف” و”أيام شامية” و”دمشق يا بسمة الحزن” و”العبابيد” و”الفصول الأربعة” و”صقر قريش” و”ليالي الصالحية” وغيرها.

كان رفيق سبيعي يقول ردا على سؤال لماذا اتجهت إلى الفن وأنت ابن الحارة الشامية؟ في مقهى الروضة في شارع العابد، حيث يأتي للعب طاولة الزهر في سنوات ماضية “أنا أبوصيّاح بالأصل. لكن ما يراه الناس أمامهم هو مجرد مظهر خارجي”، واستمر يردد هذا في حواراته، واصفا المظهر الخارجي بأنه “زيف المدنية”، مع أن المدنية والتمدّن هما سر الشام وسحر الشام.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


رفيق السبيعي على ويكيبيديا

عن صورة المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)