جريدة المدن الألكترونيّة
الجمعة 16-03-2018
المدن - ميديا
جيفنشي.. رحيل الفستان الأسود في زمن الجِلد والوشم
رحل جيفنشي بعدما غادرت نساء ما بعد الحداثة، الفستان، إلى موضة الوشم والجلد المتحدي. الأرجح أنه موت وجودي للمصمم الفرنسي ذائع الصيت، أوبير دي جيفنشي، الذي رحل عن 91 عاماً، في باريس. وهو الذي كرّس موضة الفستان الطويل المنهدل، كاستسلام معلن على جسد نسوي قُدَّ على مقاس حلم الذكر- الفارس بأنثى رومانسية. وذلك بعد موت تلك الموضة على يد نسوية ما بعد الحداثة في القرن الـ21.
بين التماعته الأولى في عرض أول قدَّمَه في باريس 1952 فجعله نجماً فورياً، وبين عرضه الأخير العام 1995 (تاريخ موته المعنوي؟)، جرت مياه كثيرة وفوارة في نهر الموضة، وربما أكثر منها بين العرض الأخير ورحيله الجسدي الذي بدا استكمالاً لشيء تلاشى قبل موت المصمم. بالطبع، ما زالت دار “جيفنشي” مزدهرة ونجمة موضة عالمية، بل توسعت كعلامة معولمة في كل ما يرافق الزي النسائي، كحقيبة اليد والإكسسوارات، وخصوصاً العطر الذي نجحت عائلة جيفنشي في ترسيخ مكانتها في مضماره.
ولذلك النجاح المدوّي، ظلال أخرى. هناك رحلة طويلة متقلبة الأطوار، بين الفستان الأسود البسيط المنساب من كُمَّيه على الجسد الرومانسي للممثلة الأميركية أودري هيبورن في فيلم “فطور عند تيفاني”، وصرخات الموضة النسوية ما بعد الحداثية المحتفية بالوشم وبالكثير من الجِلد في ملاعب كرة القدم العالمية. اختزالاً، ارتحل الجسد الأنثوي من الرومانسيّة التي لم يكُفَّ جينفشي عن نسج أزيائها، إلى شيء آخر يمكن تسميته بـ"موضة الجمهور"، على غرار ما يقال في الميديا التي انتقلت من إعلام النخبة التي تقود من مركزها، إلى إعلام يتحكم فيه جمهور لم يعد يكتفي بالتلقي، بل صار متفاعلاً، خصوصاً عبر السوشال ميديا.
ليس الحديث عن العلاقة بين الميديا والثوب جزافاً. لندقق في بعض مشاهد التاريخ. في العام 1961، ظهرت أودري هيبورن في ثوب طويل بسيط، تستند أناقته إلى انهداله ملاصقاً للجسد الرشيق للممثلة منمنمة الوجه. يكشف أعلى الفستان، الكتفين والقليل جداً من الصدر. في ذلك الوقت، كانت سينما هوليوود هي مصنع خيال العالم بلا منازع، خصوصاً الخيال المنسوج على صور المرئي- المسموع في الشاشات البيضاء. وكانت تلك الحداثة، في تألقها الأقوى بعد الحرب العالمية الثانية، بل كانت الصعود بأضواء ساطعة لنموذجها بقيادة أميركية. وكانت أيضاً حداثة النخب التي تقود، وتطرح النماذج، مُراهنةً على قدرتها في الاستيلاء على العقول والمخيلات في أنحاء العالم. عقدت شاشة السينما علاقة خاصة مع جيفنشي، عبر علاقة خاصة مع هيبورن التي قدمّها نموذجاً للأناقة الرومانسية الكاملة: الفتاة الحالمة دوماً وأبداً بالبطل الذكَر. بلغت تلك العلاقة حد أن “مانوكان” هيبورن سيطر على مشاغل جيفنشي، بل إن وجهها المنمنم الحالم كان الوجه الخاص بأول عطر أطلقه المصمم، وغالباً ما يُنقل عن جيفنشي قوله: “كل الأزياء تليق بقوامها”. ما يعني أن خياله عن الثوب يتطابق مع نموذج هيبورن.
وجمعت هيبورن سطوة السينما ونخبوية الحداثة، مع الخيال الرومانسي للمرأة وعنها، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت أزياء جيفنشي رداءً يضم تحت انهدلاته تلك، الخيالات والسطوات كلها. وفي سياق مشابه، ألبَس المصمم الفرنسي نماذج نسوية للحداثة النخبوية الطابع، وهو ما كثّفته جاكلين كينيدي التي ارتدت زيّاً من تصميم جيفنشي خلال زيارة مع الرئيس جون كينيدي إلى باريس العام 1961.
وقبل رحيل جيفنشي، تغيّرت السينما. ظهرت بريجيت باردو بالبيكيني، في فيلم روجيه فاديم “وخلق الله المرأة”، ثم روّج جسدها للحرية الجنسية للمرأة في ستينات القرن العشرين، مع ملابس شملت الجينز المشدود وبنطلون الشارلستون. وفي “ثورة الشباب” العام 1968، أطاحت ثقافة التمرد بالمقاييس التي يستند إليها كل ما هو راسخ وكلاسيكي، بما فيها الأزياء. تراجع الفستان المنهدل وما يشبهه (مع استمراره بوصفه تعبيراً عما هو كلاسيكي، في النخب العالية). انتشر الجينز، والميني-جيب والميكرو-جيب، طارحاً الجِلد جزءاً من الرداء، ومكمّلاً ما فعلته جوارب النايلون من تحرير لحضور سيقان النساء كجزء من مشهدية الحياة اليومية. تغيّرت ذائقة المرأة تدريجياً، وتغيرت الحركة النسوية تدريجياً، وأحياناً بقوة.
في تسعينات القرن العشرين، التي شهدت الصعود القوي لعارضات الأزياء بوصفهن نموذج اللحظة الراهنة للمرأة، لم تكن الموضة الكلاسيكية التي قادها جيفنشي هي الرائجة على أجسادهن، ولا في الشارع. نجحت لندن في فرض نفسها كمُنافسة لباريس، عبر ما سُمّي “أناقة مكان العمل” المستند إلى البنطلون المخطط والجاكيت. وفي تلك الحقبة، بدأ صعوده “موضة الجمهور”، مع التمرد على العلاقة بين الجسد والثوب. في الثوب التقليدي الكلاسيكي الذي روّجه جيفنشي، كانت تلك العلاقة مرتكزة على قوة الثوب بمظهره البصري مدخلاً إلى التعبير عن الجنس. ثم صار الأمر معكوساً، بل عاد الجسد إلى الاستيلاء على الثوب، فصار هو مركز اهتمام الموضة، لا القماش. والأرجح أن فيلم “ألبسة جاهزة” للمخرج الأميركي روبرت آلتمان (1994)، يصلح للتعبير عن تلك النقلة، إذ سارت الدراما فيه لتصل إلى لقطة الذروة في الختام، حيث أقيم عرض الأزياء بأجساد عارية: صار الجسد هو الرداء، وصارت الموضة والقماش تلاعباً معه، وتفاعلاً مع حضوره وتعبيراته وتفلتاته وشهواته.
هناك “رداء” آخر شق طريقه بصورة مثيرة. فمن القرون الوسطى وتقاليدها، صعد الوشم على الجسد، ليصبح أقرب إلى رداء له. ربما ليست هذه مناسبة للحديث عن الأوشام الكثيفة التي باتت تكسو أجساد لاعبي كرة القدم، لكن أنثى المدرجات (وكذلك الملاعب)، باتت تحتفي بالوشم، وهو أمر بات منتشر عالمياً، خصوصاً منذ مستهل القرن الـ21. يحتاج الوشم نقاشاً مستقلاً، خصوصاً درجة تعبيره عن استرداد الجسد مركزيته في الرداء. حتى الجينز تشقق بقوة الجِلد المحتج والمتفلت، وصار القماش المتشقق لمصلحة بروز الجسد، ركناً في موضة عالم ما بعد الحداثة. واستطراداً، يحتاج العطر نقاشاً عن علاقته بالجسد والرداء، خصوصاً أن جينفشي ليست دار الأزياء الوحيدة التي تكمل أزياءها بالعطر.
في عَرضه الأخير، في العام 1995، بدا جيفنشي مُصرّاً على الفستان التقليدي المنسدل، مع خصر خفيف. ظهر مع عارضة لبست ثوب زفاف زهرياً بتصميم قريب من الثوب الذي ارتدته هيبورن في “فطور عند تيفاني”. وانسحب. لكنه استمر تباعاً. ورغم السن، استطاع جيفنشي، ربما أكثر من آخرين، أن يلاحظ تلاشي الثوب التقليدي الذي كان ركن عمله. وإذ شارك في معرض في كاليه في 2015، لاحظ أن ذائقة الموضة النسوية تغيرت بقوة، لكنه أدرج ذلك في عداد العابر والزائل. وقال: “ألاحظ نوعاً من التغاضي (عن الثوب الكلاسيكي) وأظنّ أن مفهوم الموضة تغيّر.. ولست بصراحة متحمساً للوضع. هناك الموضة من جهة، وصيحات عابرة من جهة أخرى”. لكن الواقع أن زمن ما بعد الحداثة صعد بقوة الزائل والعابر، بل إنهما صارا أساساً. وبدلاً من السينما وشاشاتها وصالاتها، تكرّست شاشات الانترنت والخليوي وتلفزيون “ويب” و"نتفليكس"، وكلها تستند في صنعتها على العابر والطارئ والهامش والزائل، بل تستبقيه عبر فنون تساندها التقنيات الرقمية في الكومبيوتر والانترنت. وتحتاج تلك الأمور أيضاً إلى نقاشات شتى.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.