مسرحية : تاريخ المياه في الشرق الأوسط... معضلة الهوية الهجينة
جريدة المدن الألكترونيّة
الجمعة 15-11-2019
المدن - ثقافة
شادي لويس - كاتب وباحث مصري
"تاريخ المياه في الشرق الأوسط"... معضلة الهوية الهجينة
الدقائق الأولى للعرض لم تكن مبشرة على الإطلاق، فما الذي يمكن توقعه من مسرحية بعنوان “تاريخ المياه في الشرق الأوسط”، حتى وإن كانت تعرض في مسرح “رويال كورت” اللندني العريق!؟ خريطة ضخمة لمنطقة الشرق الأوسط بعرض الخشبة وارتفاع السقف.
شابتان بملابس رياضية رخيصة ومبهرجة أكثر من اللازم، تمسك إحداهما الميكروفون، لتعلن باللكنة العمالية الخشنة السائدة في جنوب لندن، أنها ستلقى محاضرة عن المياه والإمبريالية البريطانية في المنطقة. ثم تعرّف بنفسها: صابرينا محفوظ، مصرية بريطانية، وتقدّم شريكتها نصف الشقراء على الخشبة، لورا حنة، مصرية أيضاً، أما الموسيقي الجالس بعوده وآلاته الإيقاعية على قمة درجات المسرح المقسم إلى خشبات متصاعدة، فيتولى تعريف نفسه، كريم سمارة، فلسطيني مصري. تبدأ المحاضرة بالفعل، بتقرير مبالغ في حماسته عن دور المياه في حياة البشر، تتخلله شعارات معارضة للإمبريالية.
وسرعان ما تتحول المحاضرة الجافة إلى عرض مبهر عابر للصنوف الأدائية، ساخر جداً وشديد الجدية في الوقت نفسه، مصحوباً بموسيقى كريم سمارة البديعة، وأداء لورا حنة الاستثنائي، التي تقفز من الغناء الشرقي إلى الأوبرالي فالهيب الهوب، ومن ثمّ إلى موسيقى الجوقة وبعدها إلى الغناء العراقي. ويمتزج ذلك مع إلقاء الشعر بإنكليزية الضواحي العامية بالرقص مع الدراما وعروض الكباريه والحكي. وتتابع بالتوازي سلسلة من المحاضرات المكثفة والقصيرة التي تلتقط لحظات بعينها من تاريخ الشرق الأوسط، وتتلاعب فيها باللغة بخفة وحسّ تكمهي حادّ وشديد الذكاء. تبدأ سلسلة الأحداث من البحرين، المحمية البريطانية الأولى في المنطقة، وتنتقل إلى الغزو الأميركي للعراق، فالحرب في اليمن اليوم، ووعد بلفور فأزمة شح المياه من الأردن إلى دبي، التي تقف وراء تطوير تكنولوجيا تحلية المياه المدمرة للبيئة، وصولاً إلى مصر وحملة الاعتقالات الأخيرة فيها.
تروي كل تلك الأحداث في تتابع يربطه خيط واحد، هو علاقة المياه بالإمبراطورية، ومن زوايا لا تتعلق بالسياسة مباشرة. فمن أسطورة إنانا، الإلهة السومرية، وعلاقتها المضطربة بإله الماء إنكي، إلى مطربات الأهازيج الشعبية في ثورة العشرين العراقية (1920)، مروراً بمعالجة ساخرة لبرنامج تدريب “السباكات الرائدات في الأردن” وحتى المغامرات الجنسية لمغتربة بريطانية في حمامات الغرف الفندقية في دبي، تتكشف طبقات أعمق وأكثر تعقيداً من الأحداث والمشاعر: علاقات القوة الدقيقة واليومية.
كانت كاتبة النص وممثلته الرئيسة، صابرين محفوظ، قد قامت، قبل عامين بالتعاون مع أوبرا لندن، بكتابة نص العرض الأوبرالي “امرأة عند نقطة الصفر”، المقتبس عن كتاب نوال السعداوي الذي يحمل الاسم نفسه. وفي 2014 كانت قد عرضت في لندن مسرحيتها “محل بيع الخطب” التي تجري أحداثها في أجواء السلطوية في القاهرة تحت الحكم العسكري. لكن محفوظ، المعروفة بالأساس كشاعرة تكتب بالإنكليزية، لا تكتفي في “تاريخ المياه في الشرق الأوسط” بالتيمات المتعلقة بالنسوية والسياسة في الشرق الأوسط، بل تعود، كما في أعمالها الأقدم، إلى تجاربها الشخصية، كبريطانية من أصول مهاجرة.
فتلك الأحداث التاريخية كلها، تتقاطع في المسرحية مع قصتها الحقيقية، حين تخضع لتحقيق حكومي بشأن خلفياتها، لترقيتها في السلك الحكومي، وتقديم عرض لها للعمل كمستشارة سياسية في هيئة المخابرات البريطانية. ورغم الحوارات الساخرة بينها وبين المحقق، فإن سؤاله النهائي لها: “صنيعة من أنت، نحن أم هم؟” يعيد تأطير القصة بأكملها. فالعرض، كما يتعلق بالإمبريالية في الماضي، والخرائط والمياه، فإنه عن معضلة الهوية الهجينة لأبناء المهاجرين، من يحملون جنسيات بلادهم الأصلية وجنسية الكوزموبول، ويجرّون خلفهم تاريخاً طويلاً من العنف تستمر تبعاته إلى اليوم. في الحقيقة وفي العرض، لا تحصل محفوظ على توصية المحقق، بسبب جنسيتها المصرية، تظل بريطانيتها غير مكتملة ومشكوك فيها، وتبدو تلك الازدواجية في الانتماء كعلاقة عنف منزلي، لا فكاك منها، أو كعلاقة الانجذاب المخلوطة بالكراهية بين ثنائي الآلهة السومرية، إنانا وإنكي. فكيف لمحفوظ أن تتصالح مع بريطانيتها على خليفة كل هذا التاريخ الطويل من القسوة الذي تعيه جيداً؟
في سبعين دقيقة فقط، تقدم المسرحية عرضا مكثفاً لتاريخ المنطقة وجغرافيتها وقصة شديدة التعقيد عن الطموح الشخصي والانتماء وهيمنة السياسي والتاريخي على الفردي، وذلك كله في ملهاة غنائية، مبهرة بصرياً وموسيقياً، استثنائية في قدرتها على طرح قضايا كبرى وتحدي جمهورها، من دون أي يؤثر ذلك في ألقها الفني وجماليته الممتعة.
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.